الإلزام بالآراء في المسائل الخفية

⏩التجارب السياسية     ⏫محتويات الكتاب     خاتمة⏪

مطلق الإلزام بالرأي في المسائل الدقيقة الخفية التي قد يخفى وجه الحق فيها حتى على علماء مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة وما كان عليه سلف الأمة، وكذلك لا يجوز تسفيه الرأي بسببها، بل يلزم الإعذار فيها ورفع الملام عن أصحابها.
فإن المسائل الخفية الدقيقة لا يجوز لأحد أن يلزم بها من جهة الإفتاء والرأي أحداً من الناس، ولا يجب الاحتفاظ بالرأي إلا إذا أدى نشره إلى مفاسد أعظم.
والمسائل الدقيقة الخفية ليست كلها ظنية، فقد تكون يقينية نسبية، فاليقين والظن قد يكون أمراً نسبياً، يختلف باختلاف العلماء وبحثهم للمسألة وعلمهم بها، وأما اليقينية يقيناً مطلقاً كالمعلوم من الدين بالضرورة فإنه يُنكر على مخالفها.
ومن أمثلة اليقين النسبي؛ المسائل التي فيها نصوص علمها بعض الصحابة أو بعض الأئمة أو بعض العلماء وخفيت على غيرهم، وقد ذكر شيخ الإسلام أمثلة على ذلك من فتاوى الصحابة رضي الله عنهم في كتابه القيِّم (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).
ولهذا تجد في كلام المحققين من علماء أهل السنة في الإنكار على المُخالف؛ التفريق بين المسائل الخفية والظاهرة، بخلاف المتكلمين الذي يكثرون من ذكر القطعي والظني بما في ذلك الإنكار على المُخالف.
وذلك لأنَّ القطعي والظني نسبي يختلف باختلاف الشخص كما سبق، وأما الظاهر والخفي في مجتمع ما كمجتمع الصحابة رضي الله عنهم فضبطه ممكن، ولكن يجب اعتبار أن الخفاء والظهور نسبي باختلاف المجتمعات وظهور العلم وخفائه.
وقد عُلم بالتجربة أنَّ إلزام الناس من طلبة العلم وغيرهم بالرأي في مثل هذه المسائل الخفيَّة وتسفيه آرائهم بسببها يؤدي إلى التشاحن والتباغض، قال الله عز وجل: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}.
وما استدل به من يُلزم إلزاماً تنظيمياً بالإفتاء برأي واحد هي في الإلزام بالعمل وليس بالرأي، ومن أدَّلتهم في ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: (الخلاف شر)، والمعلوم أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه قال رأيه في المسألة ثم صلى خلف عثمان رضي الله عنه أربعاً ثم بيَّن أن الخلاف شر بعد ذلك، فلم يحتفظ برأيه في المسألة كما قد يظن بعض الناس.
وفي المقابل ألزم بعض الناس بآراء علماء معينين في مثل هذه المسائل، وأنكروا على من خالفهم رأيهم فيها، وربما ادعوا اتفاق علماء أهل السنة المعاصرين في هذه المسائل مع علمهم بأن العلماء لم يتفقوا فيها! وسفهوا بسببها آراء وضلَّلوا وبدَّعوا وحذروا بسببها من طلاب علم ودعاة.
وقد ترتب على هذا الإلزام وذاك مفاسد عظيمة منها التفرق والتشاحن والتباغض، ومنها؛ إشغال طلاب العلم والعوام عما هو أهم من العلم النافع والعمل الصالح بمسائل دقيقة خفية قد يخفى وجه الحق فيها على علماء، وقد بيَّنت في مقالين سابقين لي فساد وبطلان هذين المنحيين، وذلك في؛ مدونتي » قواعد وأصول » التقليد، و مدونتي » شبهات وردود » المذهبية الجديدة.
والمعلوم أن المسلم يجب عليه الالتزام بالكتاب والسنة والإجماع، وما سوى ذلك من الآراء التي اختلف فيها أهل العلم لا يُلزم بها أحد من المسلمين، فلا يجوز الإلزام فيها بفتوى بعينها لا تنظيمياً ولا شرعياً، وليس اتفاق من عينوهم بأسمائهم من العلماء في بعض البلاد حجة، وليس هذا موضع الكلام عن الإجماع والترجيح والاجتهاد والتقليد والاتباع، ولكن أحيل إلى المقالين السابقين وما فيهما من روابط لمقالات ذات صلة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أنَّ اجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا اجماع أهل مكة، ولا الشام، ولا العراق، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين. ومن حكى عن أبي حنيفة أو أحمد أو أحد من أصحابه أنَّ اجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك. وأما المدينة فقد تكلَّم الناس في اجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أنَّ اجماع أهلها حجة، وإن كان بقية الأئمة ينازعون في ذلك. والكلام إنما هو في اجماعهم في تلك الأعصار المفضلة، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أنَّ اجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لا سيما من حين ظهر فيها الرفض) [1].
وقواعد التعارض والتزاحم هي من القواعد اليقينية التي دلت عليها الأدلة والعقل، ولكن المسائل التي تندرج تحتها قد تكون ظنية، وتطبيق هذه القواعد على الواقع ظني اجتهادي.
والمسائل الاجتهادية ظنية في الأصل، ولكن ما ثبت جواز الاجتهاد فيه يقيناً قد يثبت بدلالة العقل والتجارب، فمن الأحكام العقلية ما هو يقيني قطعي.
وكما أن الأحكام الشرعية اليقينية قد تكون نسبية، فكذلك الأحكام العقلية منها ما هو دقيق خفي، فيكون القطع والظن فيها نسبياً، والأحكام العقلية القطعية منها ما هو بدهي ضروري يعرفه الجميع، كقاعدة أن الكل أكبر من الجزء، ومنها ما هو نظري يحتاج إلى دراسة ونظر كنظرية فيثاغورث.
ولهذا ردَّت طوائف من المتكلِّمين الحق الذي دلت عليه النصوص لظنهم أنه مخالف للمسلمات والقطعيات العقلية بينما الواقع خلاف ما ظنوه، ولا يوجد في الشريعة ما ينافي صريح المعقول، ولكنها قد تأتي بما تحار فيه العقول.
وما سبق من أضرار الإلزام بالآراء لا يعني أنه يحرم على العوام النظر في المسائل الدقيقة بإطلاق، فذلك منوط بالاستطاعة من غير مشقة وعدم تفويت الواجب والمستحب من العلم بالانشغال بما دونه من دقيق المسائل.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وبإزاء هؤلاء قوم من المحدثة والفقهاء والعامة قد يحرِّمون النظر في دقيق العلم والاستدلال والكلام فيه، حتى على ذوي المعرفة به وأهل الحاجة إليه من أهله، ويوجبون التقليد في هذه المسائل أو الاعراض عن تفصيلها، وهذا ليس بجيد أيضاً؛ فإنَّ العلم النافع مستحب، وإنما يكره إذا كان كلاماً بغير علم، أو حيث يضر، فإذا كان كلاماً بعلم ولا مضرَّة فيه فلا بأس به، وإن كان نافعاً فهو مستحب، فلا إطلاق القول بالوجوب صحيحاً، ولا إطلاق القول بالتحريم صحيحاً. وكذلك المسائل الفروعية؛ من غالية المتكلِّمة والمتفقِّهة من يوجب النظر والاجتهاد فيها على كل أحد، حتى على العامَّة! وهذا ضعيف؛ لأنه لو كان طلب علمها واجباً على الأعيان فإنما يجب مع القدرة، والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصّلة تتعذَّر أو تتعسر على أكثر العامة) [2].
عمر عبداللطيف محمد نور
هلسنكي، فنلندة
الجمعة ٢٧ رجب ١٤٣١هـ، ٩ يوليو ٢٠١٠م
التعديل؛ الأحد ٢٠ رجب ١٤٤١هـ، ١٥ مارس ٢٠٢٠م

المصادر

[1] مجموع الفتاوى (ج20/ص299-300).
[2] مجموع الفتاوى (ج20/ص203).
pdf

⏩التجارب السياسية     ⏫محتويات الكتاب     خاتمة⏪

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق