المذهبية الجديدة

المحتويات

  1. مقدمة
  2. تمهيد
  3. زلة العالم
  4. توحيد الفتوى
  5. اتفاق أئمة العصر
  6. من آثار المذهبية الجديدة
  7. من مظاهر المذهبية الجديدة

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
بفضل الله تعالى ثم جهود السلفين ضعف التعصب المذهبي حتى عند الأشاعرة والمتصوفة.
ولكن الدنيا دار بلاء، فقد دبت مذهبية جديدة في منتسبين للسلفية، وهي التعصب لمجموعات أو آراء فقهية الخلاف فيها إما معتبر أو هي من المسائل الدقيقة الخفية التي لا يعنف المخالف فيها.
وقد لجأ أصحاب المذهبية الجديدة إلى التدثر بمظهر المتمسك بالكبار، وهم يعلمون أن الكبار مختلفون في غالب تلك المسائل التي يوالون عليها ويعادون.
فيظهر بعضٌ بمظهر توقير الكبار واتباعهم، ولكن تجد عند بعضهم تناقض بمخالفة للكبار واعتداد بآرائهم مع غلو في كلماتهم في الكبار!
وقد يوحي الشيطان إليهم أن تواضعوا حتى يقال متواضعون، وليس من باب التواضع الحقيقي، وإنما هو رياء بما ليس عندهم، وهو من باب الرياء بترك العمل الذي حذر منه السلف.

تمهيد

تحدثت في مقال التقليد عن الفرق بين التقليد واتباع العالم والاجتهاد.
فالتقليد هو قبول قول من ليس قوله حجة (غير النبي ﷺ) من غير معرفة مأخذه.
واتباع العالم هو قبول قوله بعد معرفة مأخذه.
والاجتهاد هو استفراغ الوُسع لاستنباط حُكم شرعي واستخراج أصول فهمه وقواعده وعلله من الأدلة التفصيلية.
والأصل الواجب على العلماء وطلاب العلم والعوام هو اتباع النصوص، وما العالم للعامي وطالب العلم إلا بمثابة الدليل إلى الدليل، فلا يُترك الدليل الأصل للدليل الفرع.
فالخطاب في النصوص لجميع المؤمنين بمن فيهم المقلِّدون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَ‌ٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
واتباع العلماء أصلٌ واجب على العوام وطلاب العلم، ومن أشراط الساعة تلقي العلم عن الأصاغر، و "إن هذا الأمر دين فاعرفوا عمن تأخذون دينكم".
فأخذ العلم عن العلماء دل عليه العقل كما دلت عليه النصوص، فكيف يصح أن يشك أحد أن العلم إنما يُتلقى عن العلماء؟! قال الله عز وجل: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
وأما التقليد ففيه تفصيل؛ فالتقليد المشروع هو تقليد عالم أو عدد من العلماء في مسألة أو مسائل غير معينة ودون التزام معيَّن أو معيَّنين منهم في كل مسائل الفقه.
وأما تقليد معيَّن أو معيّنين من العلماء في كل مسائل الفقه على وجه الالتزام بهم دون غيرهم من أهل العلم فلا يجوز، وكذلك الإلزام بأقوال بعضهم في مسائل بعينها.
والتقليد المذموم هو سبب التعصب والمذهبية القديمة والحديثة.
والتقليد مذموم في الأصل، وإنما جاز للتيسير من باب الاحتياج والاضطرار.
وقد يجب التقليد أحياناً كما هو معلوم وقد يُستحب.
فالتقليد يتعذر الخروج منه حتى على المجتهدين فضلاً عن المرجِّحين والمقلدين.
وأكثر الالتباس في الأفهام سببه ما يُسمَّى بعمى الألوان، بل البياض درجات والسواد درجات.
فكذلك التقليد درجات والاجتهاد درجات واتباع العلماء درجات.
والأقسام المذكورة في كتُب العلم الغرض منها تقريب الحقائق والمعاني.
فاتباع العلماء قد يكون بالترجيح والنظر والبحث في أدلة القول والأقوال المخالفة، وقد يكون بمجرَّد معرفة أدلة القائل دون البحث والنظر في أدلة المخالفين، ونظر العامي في الأدلة ليس على درجة طالب العلم.
ولا خلاف في جواز الانتساب إلى أحد المذاهب الأربعة على سبيل التعلم أو اتباع أصول المذهب، ولكن لا يصح القول بجواز أو وجوب تقليد عالم أو علماء بأعيانهم على وجه الالتزام في كل مسائل الفقه، سواء كان تعيينهم ببلدة أو أسماء أو مذهب.
وكذا لا يجوز الإلزام بالفتوى والرأي في مسائل معينة بفتوى عالم أو علماء بأعيانهم.
وإنما يجوز الإلزام بحكم من له ولاية في وقائع معينة، فإن حكمهم يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية من جهة العمل لا الإفتاء والرأي، وقد أجاز بعضٌ ذلك على وجه النظام العام بشروط ذكرتُها في مبحث توحيد الفتوى.
فواجب العوام وطلاب العلم هو اتباع وتقليد العلماء دون التزام معين أو معيَّنين في التقليد ومن غير إلزام بمذهب جماعة منهم في مسائل بعينها.

زلة العالم

خطأ علماء أهل السنة في باب التمذهب مغتفر في حقهم، ولكن زلة العالم مما يهدم الدين لمكانته. 
والخطأ وارد من علماء أهل السنة ولابد، إذ لا عصمة لأحد بعد رسول الله ﷺ.
من ذلك قول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى: (فبالنسبة للعامي والمبتدئ لابد أن يلتزم مذهبًا معينًا من مذاهب أهل السنة والجماعة؛ لأنه إن لم يفعل ذلك ضاع وضل، لأنه عامي لا يحسن أو متعلم مبتدئ لا يحسن، فهذا لابد له من التزام مذهب من المذاهب الأربعة التي هي من مذاهب أهل السُّنَّة والجماعة أو هي الباقية من مذاهب أهل السنة والجماعة) [١]، وله فتوى أخرى بنفس المعنى في؛ مجموع فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان [٢].
فكيف للعامي أن يلتزم مذهباً معيناً وهو مقلد؟ فالمذهب فيه الراجح والمرجوح والقديم والجديد وغير ذلك مما يذكرونه في النصوص، وفي أقوال أئمة وعلماء المذاهب العام والخاص والمطلق والمقيد، قاله ابن القيم رحمه الله تعالى.
بل النصوص أيسر في الفهم من أقوال البشر من مختصرات ومطولات، قاله ابن القيم رحمه الله تعالى.
إذا قالوا؛ العامي إنما يلتزم المذهب بتقليد علماء المذهب؟ فيقال: عالم المذهب لا يحل له أن يفتي بغير الحجة والدليل على قولكم، فخرج بهذا العامي عن التزام مذهب معين.
والنصوص منقولة بالسند خلافاً لأقوال العلماء والأئمة، وهي أعلى قدراً إضافة إلى كونها أيسر، فكلام البشر قد يلزم منه باطل لم ينتبه قائله إليه، ولأن العالم قد يقول القول لهوىً خفي عارض كما نص على ذلك ابن تيمية رحمه الله في حق الصحابي والإمام، انظر؛ مدونتي » أحكام » التقليد.
ولابد من حفظ مكانة الشيخ الفوزان، فهو يحارب التعصب المذهبي ويفتي بالراجح بدلالة النصوص.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (قلت: والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد; إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما  يقوله، وينزل قوله منزلة قول المعصوم; فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه، وذموا أهله وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ - ولا بد - فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه، والخطأ واقع منه ولا بد.
وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا عن أبيه عن جده مرفوعاً: {اتقوا زلة العالم، وانتظروا فيئته}) [٣].

توحيد الفتوى

الدعوة إلى الإلزام بالفتوى في المسائل الاجتهادية لا دليل عليها إلا إذا كانت لدفع الاضطراب والأضر، ودفع الاضطراب احتياج ودفع الأضر اضطرار، وأحكام الاحتياج والاضطرار استثنائية وليست أصلية.
وطالب العلم يؤخر إبداء رأيه إذا ترتبت عليه فتنة أو ضرر أو اضطراب، وذلك لأنه لا يجوز إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أعظم منه، وبعض المحظورات لا تجوز إلا عند الاضطرار، وبعضها ما يجوز عند الاحتياج.
ولمن له ولاية أن يمنع ما يثير الفتن والضرر الأعظم والاضطراب كلٌ بحسبه، ولكن مثل هذا لا يكون حكماً لازماً دائماً.
ولا إشكال في الإلزام بالعمل لا بالفتوى فيما إذا حكم من له ولاية باختيار أحد الأقوال، فإنَّ رفع من له ولاية الخلاف إنما يصح بشروط منها أن يكون الإلزام بالعمل وليس بالإفتاء ولا إبداء الرأي.
فلا يجوز في الأصل لمن له ولاية أن يحجر على الآراء الاجتهادية والأحكام الخفية الدقيقة.
فإطلاق القول بإلزام العوام بمذهب أهل البلدة لا يصح إلا إذا كان على سبيل العمل بأمر من له ولاية.
بل ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز إلزام من له ولاية بالعمل بمذهب على وجه التقنين العام، وأجازوه فقط في الوقائع المعينة لفرد أو مجموعة من الناس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتاً بمجرد حكم حاكم، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة، ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} هو الحيض والأطهار ويكون هذا حكماً يلزم جميع الناس) [٤].
ولعل الصحيح جواز الإلزام بالحكم الاجتهادي على سبيل التقنين العام مراعاة للأصلح إذا لم يستقم الحال بغير ذلك، ولكن بشرط أن يكون الخلاف معتبراً، وأن يقرر إمضاء الحكم الاجتهادي أهل العلم، وأن يكون الإلزام بالعمل لا بالإفتاء.
يدل على ذلك مقاصد الشريعة في تنصيب الولاة وسنة الخلفاء الراشدين في بعض مسائل الفقه كطلاق الثلاث، فقد اجتهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه المسألة وأقره الصحابة رضي الله عنهم وأمضوا اجتهادهم على سبيل التقنين العام المُلزم لجميع القضاة .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر؛ طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم) [٥].
وأرجو أن يكون الإلزام بالعمل بأقوال علماء البلدة عن طريق من له ولاية هو مراد الشيخ العثيمين رحمه الله بقوله بإلزام العامة بمذهب علماء بلدهم، ولا يبعد أن يكون رأي قديم.
قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (أما عامة الناس فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم؛ لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمر عليك لك أن تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: العوام على مذهب علمائهم. فمثلاً: عندنا هنا في المملكة العربية السعودية أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فنحن نلزم نساءنا بذلك) [٦].
فيجوز أخذ العوام عن غير علماء بلدهم فيما لم يلزم به من له ولاية، وذلك في المسائل الواضحة التي لا تتعلق بالحال، هذا مع مراعاة عدم الاستغناء عن علماء بلدهم بغيرهم.
فالصحيح في هذه المسألة هو وجوب اتباع وتقليد علماء البلد من غير اشتراط التزامهم في كل مسائل الفقه، فإن لم يوجد علماء في بلدة فطلاب العلم فيها، وواجب طلاب العلم في البلدة الخالية من العلماء اتباع وتقليد العلماء في أقرب بلد إليهم.
وذلك لأنَّ أهل العلم في البلد هم دليل العوام لفهم كلام العلماء البعيدين، فالعالم قد يقول كلاماً مبهماً يحتاج إلى شرح وتفصيل.
وقد يفتي العالم أو يطلق القول بحسب الحال، وإذا ذُكِر الحال لغير عالم البلد، فإنه يجيب بحسب ما بلغه، فالمفتي أسير المستفتي، وقد يكون الناقل مدلساً في نقله، ومعرفة الواقع بجميع جوانبه قد تحتاج إلى معايشته.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أنَّ إجماع أهل مدينة من المدائن حجَّة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة، ولا الشام، ولا العراق، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين.
ومن حكى عن أبي حنيفة أو أحمد أو أحد من أصحابه أنَّ إجماع أهل الكوفة حجَّة يجب اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك.
وأما المدينة فقد تكلَّم الناس في إجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أنَّ إجماع أهلها حجة، وإن كان بقية الأئمة ينازعون في ذلك.
والكلام إنَّما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أنَّ إجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لا سيما من حين ظهر فيها الرفض) [٧].

اتفاق العلماء

اتفاق كبار علماء العصر ليس إجماعاً شرعياً ملزماً إذا خالفهم بعض كبار طلاب العلم، وذلك لأن الاجتهاد يتجزأ كما قرر ذلك علماء الأصول.
ولكن يقال للمقلد عليك بالكبار وما اتفقوا عليه، ويصح أن يقول هذا شيخ لتلميذه كما قال الإمام أحمد رحمه تعالى لأحد أصحابه: (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام).
ولكن لا يصلح هذا الإطلاق في حوار علمي بين طلاب العلم، لا سيما من اتسم بالبحث والتأني، وذلك لأن الأصل أنه لا إلزام في الأحكام الشرعية إلا بالنصوص والإجماع.
وأكثر دعاوى اتفاق كبار علماء العصر متوهمة من أصحابها، وقد أصبحت هذه المسألة مجرد عصاً ترفع في وجه كل مخالف في مسألة ولو كان الحق فيها معه.
ولكن ينصح من فيه تعجل والمعتد برأيه ونحوهما بعدم الاستقلال عن الأئمة بقول.
وتقدم نقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أنَّ إجماع أهل مدينة من المدائن حجَّة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة، ولا الشام، ولا العراق، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين).
وقال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: (وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. والحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها.
وإن لم يكن فيها نص ولا أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم) [٨].
بل يشجع طالب العلم على الاستنباط من الأدلة مع نصحه بعدم نشر آرائه قبل أن يتدرب ويتمرن، وينصح كذلك بعرض أقواله على من يستطيع من العلماء وكبار طلاب العلم.
قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى: (فلذلك ينبغي لطالب العلم، كما أنه يمرن نفسه على كثرة المطالعة وقراءة الكتب، ينبغي أيضاً أن يمرن نفسه على الاستنباط من الأدلة، وكم من دليل واحد دل على مئات المسائل بحسب فهم الإنسان، فالذي يرزقه الله فهمًا يستغني بذلك عن نصوص كثيرة لا يحتاج إلى أن يجهد نفسه لتحصيلها ومطالعتها) [٩].
وقال الإمام العلامة ابن باز رحمه الله تعالى: (وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإن صاحبه لا يؤاخذ به ولا يثرب عليه إذا كان أهلاً للاجتهاد) [١٠].

من آثار المذهبية الجديدة

سمعتُ بعض العوام يقول بأن العلماء المعاصرين جمعوا أقوال السابقين وأدلتهم، وهذا خطأ، فعلم السابقين لا سيما السلف أوسع وأبرك، بل سمعتُ الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى يقول في حياة الأئمة الثلاثة ابن باز والعثيمين والألباني رحمهم الله تعالى: ليس في عصرنا مجتهد مطلق.
ولكن لا يوجد ما يمنع من أن يكون في اللاحقين من يكون أوسع علماً من بعض السابقين، ولا يوجد ما يمنع أن يكون في اللاحقين من فقِهَ مسألة أكثر من بعض السابقين، ولا يوجد ما يمنع من استقرار الإجماع في مسائل على خلاف قول بعض السابقين.
وبعض طلاب العلم يتكلف في تخريج بعض أخطاء المعاصرين بما يُلبس المسألة على العوام أو بشيء من الخطأ.
والواجب عند ظهور خطأ في قول الاعتذار للعالم وليس للقول ضرورةً، ولكن الأصل التماس العذر للعالم، فهو بشر قد يقول ما يكون ظاهره على غير مراده.
فمثلاً في القول بأن القانون العام كفر أكبر، تجد أن بعض إخواننا يرى أن هذا القول هو أساس فتنة التكفير، ولكنه قد يُنكر أن بعض علمائنا قال به أو يناقض نفسه فيقول هو من المسائل الخلافية وأن الخلاف فيه معتبر.
والذي يظهر أنَّ إطلاق القول بأن القانون العام كفر أكبر قول محدث لم يؤثر عن السلف، ولكن يعُتذر لعلمائنا أنهم لم يجعلوا هذا القول أصلاً من أصول دعوتهم ولم يعقدوا عليه ولاءاً ولا براءاً كما يفعل أصحاب المناهج المنحرفة الذين جعلوا أصل دعوتهم ما يُسمى بتوحيد  الحاكمية.
وقد تحدثت حول مسألة ما يسمى بالقانون العام أو التشريع العام في؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير » الحُكم بغير ما أنزل الله.

من مظاهر المذهبية الجديدة

من مظاهر المذهبية الجديدة الإلزام بآراء علماء بأعيانهم في مسائل اجتهادية لا نص فيها، مثل إلزام بعض بالقول بعدم جواز قيادة المرأة للسيارة من جهة الإفتاء لا العمل بحُكم من له ولاية.
ومن ذلك الجدل في أقوال العلماء هل هي قديمة أم جديدة أم خاصة أم مقيدة ونحو ذلك، وكأن أقوال العلماء نصوص منزلة، وكأنه لا يمكن أن يصدر من العالم خطأ ولو في اللفظ والتعبير.
ولازم القول لازم في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما البشر فلازم قولهم ليس بلازم إلا إذا كان لازماً جلياً بدهياً، وأما لازم قولهم الخفي أو الجلي النسبي الذي يحتاج إلى نظر وتأمل فليس بلازم، وذلك لأن الإنسان قد لا ينتبه إلى لازم قوله الباطل.
بل العالم قد يخطيء في التعبير عن مراده لتعب أو إعياء ونحوهما، وقد يؤكد على أمر لظرف خاص ويكون تأكيد غيره هو الأصل، ونحو ذلك مما يصدر على سبيل الفتوى لا الحكم العام، إلى غير ذلك مما يعترض كلام البشر.
وعلى العامي إذا كان مقلداً في مسألة أن يأخذ عن الكبار ويترك من دونهم في العلم، ولكن العامي مأمور بالدوران مع الدليل حيث دار، فإذا بانت الحجة للمقلد بيقين أو ظن غالب وجب عليه اتباعها.
ولكن بعضاً صار حالهم مثل متعصبة المذاهب الذين احتجوا بسعة علم أئمتهم على وجوب ترك قول من دونهم في العِلم حتى مع الحجة والدليل.
وشبهتم هي شبهة متعصبة المذاهب وهي أنَّ النص قد يكون منسوخاً أو مخصوصاً بنص علمه الإمام وجهلناه، وهذا من اتباع الظن المنهي عنه وهو ما اصطلح عليه العلماء بالوهم.
وإذا قلد مقلد في مسألة الكبار بترك من دونهم، فلا يجوز له أن يثرب على من له علمٌ بها من العوام فضلاً عن طلبة العلم الباحثين، وذلك لأن التقليد ليس بعلمٍ والمقلد في مسألة لا علم له بها كما قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
ولأن كل شبهات المذهبية الجديدة هي شبهات القديمة؛ فأرجو الرجوع إلى؛ مدونتي » أحكام » التقليد.
والله تعالى أعلم، وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
يوم الخميس ٢٢ رمضان ١٤٣٦هـ، ٩ يوليو ٢٠١٥م

المصادر

[١] موقع الإسلام العتيق » الصفحة الرئيسية » الـفـتــاوى » صالح بن فوزان الفوزان
[٢] مجموع فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان (ج٢/ص٧٠٣)، كتاب التمذهب » التمذهب والاجتهاد.
[٣] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج٢/ص١٣٢-١٣٣)، الطبعة السابقة.
[٤] مجموع الفتاوى (ج٣/ص‏٢٣٨)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ ١٤١٦هـ/١٩٩٥م.
[٥] صحيح مسلم (١٤٧٢).
[٦] لقاء الباب المفتوح (ج٤٩/ص١٤)، لقاءات كان يعقدها الشيخ بمنزله كل خميس، بدأت في أواخر شوال ١٤١٢هـ وانتهت في الخميس ١٤ صفر، عام ١٤٢١هـ، وهي دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم اللقاء، عدد اللقاءات ٢٣٦ لقاء.
[٧] مجموع الفتاوى (ج٢٠/ص٢٩٩-٣٠٠)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[٨] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج٤/ص١٧٠)، تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت، الطبعة الأولى، ١٤١١هـ - ١٩٩١م.
[٩] تفسير سورة النور ص ١٢٢، مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية، الطبعة الأولى، ١٤٣٦هـ.
[١٠] مجموع فتاوى ابن باز (ج٧/ص٣١٣)، أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر، عدد الأجزاء؛ ٣٠ جزءاً.
pdf
رجوع إلى قسم شبهات وردود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق