الإصلاح السياسي في مبدأ الدعوة

مراد من أطلق القول بعدم جواز السياسة في مبدأ الدعوة قد يكون صحيحاً مبدئياً أو واقعياً ولكن تعبيرهم خطأ.
وإذا كان النهي قد ورد عن كلمة راعنا مع أنها محتملة، فمن باب أولى الخطأ اللفظي، قال الله تعالى ذكرُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وأما قول الفقهاء؛ لا مشاحة في الاصطلاح، فهو فيما لا يُلبس المعنى كمندوب ومستحب، وأما ما يُلبس المعنى فيُنهى عنه كقول الزنى مكروه مع أنه مكروه لغةً، والمشاحة هي المماحكة، فعند المدارسة والمناظرة ينظر إلى المعاني لا إلى الاصطلاح والألفاظ، لأن المعاني هي المقصودة.
الصحيح مبدئياً في تعبير ترك السياسة في مبدأ الدعوة هو أن الحرص على استلام الأخيار السلطة لا يمكن في مبدأ الدعوة من غير تنازل مع انتشار مظاهر الشرك والبدع والصدود عن الدعوة.
ولا يصح التنازل عن الأصول لأجل السياسة، إذ السياسة وسيلة لغاية، وأولى أولويات الشريعة الشهادتان والصلاة، بدلالة النصوص ومنها؛ (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وواقعياً قد يكون المراد صحيحاً ولكنه خطأ مبدئياً، فبعض الناس أراد بذلك أحد الأمرين التاليين؛
الأول؛ عدم البدء بالأعمال التي تحتاج إلى تصويت الناس، ومع أن هذا صحيح واقعياً ولكن مبدئياً ترشيحات التكتلات السياسية مضرة عموماً وليس فقط في مبدأ الدعوة، وتفصيل هذا في مبحث خوض المعترك السياسي.
الثاني؛ عدم استلام تكتل ما السلطة بأي طريق كانت قبل إيجاد ما يسمى بالكتلة الحرجة المؤيدة من عامّة الناس، وهذا صحيح أيضاً واقعياً لاستمرار أي حكومة، ولكن مبدئياً يجب معرفة رضا غالب المسلمين بأهل الحل والعقد ومن ثم السلطات الحاكمة، وقد اقترحتُ لمعرفة ذلك ما أسميتُه بالانتخاب الهرمي.
فمن ناحية واقعية نجد أن كل السلاطين يحرصون على العلاقة الحسنة مع شعوبهم عبر مثلاً القبائل وزعمائها بالمصاهرة والتواصل والعطاء ونحو ذلك.
فما يسمى بالكتلة الحرجة أو قيادات المجتمع أو سلطة الناس أو الحاضنة الجماهيريّة مهمة واقعياً لكل سلطة.
وعموماً الركائز الداخلية للحُكم والتأثير السياسي الفعال خمسة؛ المال، ثم الاستخبارات، ثم الشوكة، ثم الإعلام، ثم قيادات المجتمع المدني (إدارات أهلية ودينية ومنظمات مدنية).
فبهذه الركائز الخمسة يتم واقعياً التحكم في الدولة ولو كان المتحكم فرداً واحداً كما هو معلوم ومشاهد.
ومهما كان القصد صحيحاً واقعياً أو مبدئياً فإن التعبير خطأ أدى إلى خطأ أو لبس في الأفهام، فإطلاق القول بترك السياسة في مبدأ الدعوة مُحْدث لم يؤثر عن السلف، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل الأدلة والإجماع تدل على بطلانه.
فإطلاق ذم السياسة في مبدأ الدعوة وإلى حين صلاح أغلب المجتمع يُدخل في المذموم المتفق على مشروعيته كوسائل الإصلاح السياسي المشروعة أصالةً، وكالوسائل الاستثنائية التي لا تعود أضرارها على غرض دفع الأضر وتحقيق الأصلح بالنقض مثل التصويت للأخف ضرراً.
فمن السياسة المشروعة أصالةً في مبدأ الدعوة؛ دعوة السلاطين لرعاية الدين ودعوة الناس إلى طاعتهم بموجب عقد المواطنة للعجز عن إزالتهم، أو بموجب عقد الولاية الإسلامية إذا كانوا يحرسون أصل الدين، والنهي عن الخروج عليهم، والجهاد خلفهم ومعاونتهم ونصحهم.
وليس كل ما كان في مبدأ الدعوة بمكة ينطبق على أوضاعنا المعاصرة كما يزعم من يرى مقاطعة الحُكومات المُعاصرة من التكفيريين والجهاديين ومن تأثر بهم، فمجتمعاتنا اليوم ليست كافرة ولا كثير من حكوماتنا كذلك.
ومن السياسة المشروعة في مبدأ الدعوة؛ دعوة الرسل عليهم السلام زعماء القوم كإبراهيم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ومن ذلك عرض الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى دعوته على الأمراء.
وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم الإجارة بعد أن عاد من الطائف من بعض المشركين فأجاره المطعم بن عدي، وكان المطعم من زعماء مكة وهو سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة وذكر لهم أنَّ ملكها عادل لا يُظلم أحد عنده.
وبايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار على أن يحموه، ثم هاجر إلى المدينة، ولا شك أن كل هذه الأعمال تدخل في السياسة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بدعوة زعماء قريش في مكة، وفي المدينة كان يرسل الرسائل إلى الملوك والرؤساء والزعماء.
وأما النهي الوارد في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ} فهو بسبب الإعراض عن المُقبل؛ {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ 8 وَهُوَ يَخْشَىٰ 9 فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّ 10} إلى المُعرض؛ {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ 5 فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ 6}، وفي هذا تقديم للمتوهم على المتيقن، وما هي إلا تذكرة؛ {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ 11 فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ 12}.
وأثر عن عدد من السلف القول باستحباب الدعاء للسلطان وتعليلهم ذلك بأن في صلاحه صلاح الناس.
وأما رفض النبي صلى الله عليه وسلم الملك لما عُرض عليه في مبدأ الدعوة فسبب ذلك عرض قريش الملك بشرط ترك الدعوة إلى الدين، وإنما يصلح هذا في الرد على الجماعات التي أهملت لأجل السياسة أصل الدين وهو الدعوة إلى توحيد الله عز وجل ونبذ مظاهر الشرك في مجتمعاتنا.
ولا ريب أن الذم المطلق للسياسة خلاف منهج السلف، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وهذان السبيلان الفاسدتان – سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين – هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الأُولى للضالين النصارى، والثانية للمغضوب عليهم اليهود.
وإنما الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسبيل خلفائه وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، وهم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعدَّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً. ذلك الفوز العظيم).[1]
عمر عبداللطيف محمد نور
هلسنكي، فنلندة
الجمعة ٢٧ رجب ١٤٣١هـ، ٩ يوليو ٢٠١٠م
التعديل؛ الأحد ٢٠ رجب ١٤٤١هـ، ١٥ مارس ٢٠٢٠م

المراجع

[1] مجموع الفتاوى (ج28/ص395).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق