تعارض الحسنات والسيئات

⏩الإصلاح السياسي في مبدأ الدعوة     ⏫محتويات الكتاب      ترجيح وسائل الإصلاح السياسية الأصلية على الاستثنائية⏪

قد يُشرع تولي وظيفة عادية أو عليا فيها مخالفات شرعية لتخفيف شر أو درء أضر أو إمضاء أنفع، ولا يتم ذلك إلا بآلية لا ضرر فيها أو آلية لا تنقض أضرارها الغرض.
وقد يظن بعض الناس أن قاعدة احتمال مفسدة صغرى لأجل الأصلح تعني الغاية تبرر الوسيلة، فإن أرادوا عند عدم ضبطها بشروط الاضطرار فكلامهم صحيح، ولا تكون المصلحة أعظم مقابل ضرر إلا إذا كانت المصلحة ضرورية أو تؤول إلى ضرورية ببلوى عامة.
ولا يوجد إشكال في قاعدة ارتكاب أخف الضررين، ولا قاعدة تفويت مصلحة صغرى لأجل مصلحة أعظم عند التعارض، ولكن أشكل على بعضٍ فهم قاعدة احتمال مفسدة صغرى لأجل الأصلح عند التعارض والتزاحم وقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فظنوا أن بنيهما تعارض.
والأوضح أن يقال: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح الحاجية والتكميلية"، لأن فوات مصالح ضرورية تترتب عليه مفاسد.
وقاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" متفق عليها بين أهل العلم والعقلاء، فهي مثل قاعدة الكل أكبر من الجزء، ولكن يشكل على كثير من الناس فهمها.
فالمصالح هنا المقصود بها الحاجية والتكميلية، وذلك لأن المصلحة الضرورية يترتب على فواتها ضرر، فمآل تعارض مصلحة ضرورية مع مفسدة هو تعارض بين مفسدتين، فتحتمل المفسدة الصغرى لأجل الأصلح (المصلحة التي يترتب على فواتها ضرر أعظم).
ولذا ضبط بعض العلماء - منهم العز بن عبدالسلام والعثيمين رحمهما الله تعالى - قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" بما إذا تساوتا أو ترجحت المفسدة، ولا تترجح مصلحة على مفسدة ولا تتساويان إلا إذا كانت المصلحة ضرورية.
وهذان الضابطان لا حاجة إليهما في هذه القاعدة، فتعين الضبط بغيرهما، وذلك لأنَّ ضابط رجحان المفسدة داخل في قاعدة؛ تقديم الراجح عند تعارض مفسدة ومصلحة، فالتعارض إما بين مفسدتين فتحتمل الصغرى لدفع أو رفع الكبرى، أو بين مصلحتين فتفوت الصغرى لجلب أو حفظ الكبرى، أو بين مفسدة ومصلحة فيُقدم الراجح منهما.
وإذا تساوت مفسدتان أو مصلحتان أو مفسدة ومصلحة؛ يُنظر في مرجحات مصاحبة، ومن ذلك؛ هل المصلحة حالة لتُحفظ أم مفتقر إليها لتُجلب؟ وهل المفسدة حالة لتُرفع أم متوقعة بأمارات في الحال لتُدفع؟
وقد قسم العلماء المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية (تكميلية).
فالمصالح الضرورية هي ما يترتب على فواتها ضرر، والحاجية هي ما يترتب على فواتها مشقة أو فوات ما لا غنى عنه من غير ضرر، والتحسينية هي المصالح التي لا يُفتقر إليها.
وضبط القاعدة يزيل اللبس عن بعض المتأخرين، ويمنع اضطراب الفهم والفتوى عند تعارض المأمورات والمنهيات والمنافع والمضار، وهذا التعارض قد يدخل في مسائل الاضطرار والاحتياج والبلوى العامة.
وبين الفساد والصلاح الضروري تلازم، فهما ضدان كالنور والظلام، فيقل الظلام أو يزول بقدر حلول النور وقوته.
فدفع أو رفع مفسدة يحفظ أو يجلب المصلحة الضرورية المُضادة لها، ومثال ذلك؛ إنقاذ نفس من الهلاك يدفع مفسدة هلاكها ويحفظ حياتها، فالحياة مصلحة ضرورية مُقابلة لمفسدة الهلاك.
وجلب أو حفظ مصلحة ضرورية يرفع أو يدفع المفسدة المضادة لها، فالعلاج مثلاً يجلب مصلحة صحة البدن ويرفع المرض، والوقاية تحفظ الصحة وتدفع المرض.
وذهاب مصالح حاجية خاصة يؤول إلى ضرر عام بخلاف تحصيلها، ومما يدل على ذلك وجوب قطع يد السارق في ربع دينار فأكثر ولو كان المسروق منه غنياً، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد.
وليس كل جلبٍ لمصلحة يستلزم دفعاً لمفسدة، فاكتساب مال على مال لا يُقابله دفع ضرر إلا في مثل حالة الفقر وتعطل مصلحة ضرورية، ولهذا يحرم اكتساب المال بالمحرم لمجرد تحقيق مصلحة حاجية بغرض تقوية الاقتصاد العام، ولا يعد ذلك ضرورة خلافاً للبلوى العامة.
والبلوى العامة هي شيوعُ تعارضٍ بين ترك محرم لذاته وتحقيق مصلحة حاجية أو مرجوحة، بحيث يُورث فوات المصلحة ضرراً أعظم من ضرر المحرم على المجتمعات وحرجاً عظيماً على الأفراد بسبب شيوع التعارض.
والحسنة لا تجلب مصالح فقط بل تنهى عن سيئات وبالتالي تدرءُ مفاسد، وكذلك السيئة لا تجلب مفاسد فقط بل تصد عن حسنات وبالتالي تصد عن مصالح.
قال الله تعالى ذكره: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} فهذا واجب يصد فعله عن محرمات.
وقال الله جل ثناؤه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}، وهذا محرم يصد فعله عن أداء واجبات ومستحبات.
فلا شك في ثبوت قاعدة احتمال مفسدة أصغر لأجل الأصلح عند التعارض والتزاحم، وقد أسهب ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيانها وذكر أدلتها.
من ذلك قول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوؤهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة؛ وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة) إلى قوله: (فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها والحسنة تترك في موضعين إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها; أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة. هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية) [1].
وقال ابن تيمية رحمه الله أيضاً فيما يتعلق ببيان هذه القاعدة: (ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة ; أو لدفع ما هو أحرم) [2].
ومن ذلك قوله في بيان الورع الفاسد بعد قوله: (ولكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات)؛ (الثالثة؛ جهة المعارض الراجح، هذا أصعب من الذي قبله؛ فإن الشئ قد يكون جهة فساده يقتضي تركه فيلحظه المتورع؛ ولا يلحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح) [3].
وفي بيان قاعدة التعارض ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى قاعدة مهمة استفاض في ذكر أدلتها فيما يزيد على مائة صفحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ (قاعدةٌ في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأنَّ جنس ترك المأمور أعظم من جنس  فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات) [4].
ومن كلام شيخ الإسلام في باب تعارض الحسنات والسيئات أو هما قوله: (إذا كان المتولِّي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصداً وقدرة؛ جازت له الولاية، وربما وجبت!
وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها، من جهاد العدو، وقسم الفئ، وإقامة الحدود، وأمن السبيل؛ كان فعلها واجباً، فإذا كان ذلك مستلزماً لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل وإعطاء بعض من لا ينبغي؛ ولا يمكنه ترك ذلك؛ صار هذا من باب ما لايتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجباً أو مستحباً إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب.
بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم؛ ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها، ودفع أكثره باحتمال أيسره؛ كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعل ما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالاً، فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن؛ كان محسناً، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئاً.
وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل، أما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح.
ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة، فقد يكون في حق الرجل المعيَّن غيرها أوجب، أو أحب، فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوباً تارة، واستحباباً أخرى.
ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفاراً كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ} الآية، وقال تعالى عنه {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} الآية.
ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون  تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإنَّ القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}) [5].
وقد ذكر قاعدة احتمال مفسدة صغرى لأجل مصلحة ضرورية أعظم عند التعارض والتزاحم الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى في مواضع عدة، منها فتوى بجواز الالتحاق بالجيش مع ما فيه من مفسدة الموسيقى.
قال العلامة العثيمين رحمه الله تعالى: (فلا تُتْرك المصالح العظيمة في الالتحاق بالجيش من أجل هذه المفسدة اليسيرة بالنسبة للمصالح؛ لأن الإنسان ينبغي له أن يقارن بين المصالح والمفاسد، وأهل الخير إذا تركوا مثل هذه الأعمال من أجل هذه المعصية بقيت لأهل الشر، وتعرفون خطورة الجيش فيما لو لم يُوَفَّق لأناسٍ من أهل الخير، ولا أحب أن أعيِّن بضرب الأمثلة، لَمَّا استولى أهلُ الشر والفساد على الجيوش ووصلوا إلى سدة الحكم، ماذا كان؟! كان من الشر والفساد ما الله به عليم.
فأنا أحث إخواني الملتزمين خاصة بأن يلتحقوا بالجيش، وأن يستعينوا بالله عز وجل في إصلاح ما أمكنهم إصلاحه، وهذه المفسدة -أعني مفسدة الموسيقى أو العزف- مفسدة لا شك فيها عندي، وإن كان فيها اختلاف أشرتُ إليه قبل قليل؛ لكني أقول: هذه المفسدة؛ تنغمر بجانب المصالح العظيمة الكبيرة في أن يتولى قيادة الجيش أناس من أهل الدين والصلاح) [7]، وفي المقطع التالي:
عمر عبداللطيف محمد نور
هلسنكي، فنلندة
الجمعة ٢٧ رجب ١٤٣١هـ، ٩ يوليو ٢٠١٠م
التعديل؛ الأحد ٢٠ رجب ١٤٤١هـ، ١٥ مارس ٢٠٢٠م

المراجع

[1] مجموع الفتاوى (ج20/ص51).
[2] مجموع الفتاوى (ج20/ص56).
[3] مجموع الفتاوى (ج20/ص142).
[4] مجموع الفتاوى (ج20/ص85).
[5] مجموع الفتاوى (ج20/ص55-56).
[6] االموقع الرسمي للشيخ العثيمين » سلسلة لقاءات الباب المفتوح » لقاء 3.
pdf

⏩الإصلاح السياسي في مبدأ الدعوة    ⏫محتويات الكتاب    ترجيح وسائل الإصلاح السياسية الأصلية على الاستثنائية⏪

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق