المبحث الأول؛ الأصل في السياسة الشرعية الإرسال والإباحة

السياسة الشرعية هي رعاية الدين وسياسة الدنيا.
والأصل في وسائل رعاية الدين الإرسال إلا لنص (مصالح مرسلة).
والأصل في سياسة الدنيا الإباحة إلا لنص.
فرعاية الدين عبادة، ووسيلة العبادة عبادة، فهي توقيفية، ولكن الأصل في وسائل العبادة الإرسال إلا لنص.
وسياسة الدنيا من المعاملات، والمعاملات مندرجة تحت قاعدةِ الأصل في الأشياء الإباحة إلا لنص.
والمباحات هي الأشياء الدنيوية التي يشترك في فعلها المسلم والكافر، وتشمل الأعيان والمعاملات والعادات.
ولولا أن المصالح المرسلة عبادات لكونها وسيلة لها لكانت من المباحات، ومن أمثلتها؛ حفر الخندق، وجمع المصحف، وأحكام التجويد. 
فالحرب مثلاً مشتركة بين الناس مسلمهم وكافرهم، ولكن الجهاد عبادة لكونه وسيلة للدفاع عن الدين وإعلائه، ولذا كان الأصل في وسائله الإرسال إلا لنص، كحفر الخندق.
وفارقت المصالح المرسلة المباحات التي تنقلب عبادات كالنوم من جهة أن المصلحة المرسلة عبادة بطريقة استعمالها وليس بمجرد الاحتساب.
والإرسال في المصالح المرسلة هو من جهة أصلها، وأما الإطلاق في العبادات النصية فهو من جهة صفة فيها كالزمان والمكان.
فخالف الإرسالُ هنا إطلاقَ العبادة الذي يذكره العلماء.
فالعبادات النصية قد تكون مطلقة من جهة صفة فيها لا من جهة أصلها.
وإلجام المرسل بدعة، وكذا تقييد المطلق، كإرسال المنصوص عليه وإطلاق المقيد.
ولذا أفتى العلماء بجواز ترجمة خطبة الجمعة ومنع ترجمة الأذان، لأن الأذان مقيد بصيغة نصية تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتهليل، بينما صيغة الخطبة مطلقة.
فبعض وسائل العبادات مرسلة (أصلها) وبعضها مطلقة أو مقيدة (بصفات)، فخطبة الجمعة مثلاً مقيدة بوقت ومطلقة في صيغتها.
وخطبة الجمعة وسيلة دعوية تعليمية، والأذان وسيلة دعوة لعبادة.
والفرق بين المصالح المرسلة والمباحات من حيث الشروط هو أن المصالح المرسلة يشترط لها عدم وجود مقتضيها أو وجود مانع منها في عهد الرسالة، بينما المباحات لا تشترط لها هذه الشروط.
وشروط المصالح المرسلة إنما هي نسبة إلى عهد الرسالة والتشريع لا إلى غيره.
لأن شروط المصالح المرسلة لو كانت نسبة إلى غير عهد الرسالة لقيل بتحريم كل ما لم يؤثر منها عن السلف والسابقين مع وجود مقتضيها وعدم وجود مانع منها في عهدهم، كاتباع طرق البحث الحديثة في البحوث الإسلامية والطرق الحديثة في إدارة الجامعات الإسلامية، ولا أعرف قائلاً بهذا من العُلماء.
ومجال الاجتهاد والمتغيرات والحاجات والضرورات واسع فيما كان أصله الإباحة والإرسال إلا لنص، ومن ذلك مسائل الحرب والسلم، وسياسة الدنيا، وإدارة الدول.
قال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: (السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي ) [١].
والتشبه المحرم بالكفار لا يدخل فيه تقليدهم في النافع من المُباحات والمصالح المرسلة بشروطها مثل النظم الإدارية والآليات بإجماع أهل العلم سلفاً وخلفاً.
مما يدل على ما سبق؛ حفر الخندق وهو نظام حربي دفاعي فارسي، وتدوين الدواوين في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو نظام إداري سياسي فارسي.
ولكن يجب عند الاستفادة من المعارف البشرية والطرق الإدراية للكفار تمييز الخطأ من الصواب فيها ومراعاة خصوصيات الشعوب وثقافاتها واختلاف أديانها وما يناسب المسلمين ولا يناسبهم مما يُنقل من غير المسلمين.
وقد ابتلي كثير من الناس في زماننا مع ضعف المسلمين وتقدم الغرب بانهزام نفسي بكل ما هو غربي، فمع ما في الديمقراطية الوضعية من حق وصواب إلا أنها مشوبة بعيوب ومخالفات شرعية في مبادِئها وآلياتها.
وللمزيد حول أحكام التشبه بالكفار ومخالفتهم؛ مدونتي » قسم أحكام » مخالفة الكفار وترك مجالستهم.

المصادر

[١] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج٤/ص٢٨٣)، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت، الطبعة الأولى، ١٤١١هـ - ١٩٩١م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق