بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحكيم الخبير، الذي هدى إلى شرع بالإصلاح جدير، بنوره ندبر أمورنا أحسن تدبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل الغزير، وعلى من يقتفي أثرهم وعلى دربهم يسير.
استناداً على النصوص وأقوال العلماء وقاعدة أن الأصل في السياسة الشرعية الإرسال والإباحة إلا لنص؛ اقترحتُ في هذا الكتاب طريقة لاختيار الولاة، وتقويمهم، وإدارة الدولة، ودور عامّة المسلمين في السياسة الشرعية، سميتها التَّشْوَقَة، وهي كلمة منحوتة من التشاور والتواثق.
ومن أمثلة النحت البسملة من بسم الله الرحمن الرحيم.
واستخدمت كلمة الحَلْقَدة التي نحتها من الحل والعقد بغرض تيسير الاستعمال في نحو تسمية البرلمان بالمجلس الحَلْقَدي، وذلك لتعتز الأمة بدينها ونهج علمائها سلفاً وخلفاً والصحيح من تراثها.
لفظ الديمقراطية يحتمل معان باطلة، فيجب استخدام لفظ الحكم المنتخب أو التَشْوَقِيَّة بدلاً عنه، ولا بأس باستخدام لفظ الديمقراطية مقيداً على نحو؛ الديمقراطية التَشْوَقِيَّة، لأنه مفيد بهذا القيد عند مخاطبة غير المسلمين، انظر؛ حكم استعمال مصطلح الديمقراطية.
أهم آليات التشوقة التي تميزها عن آليات الديمقراطية الوضعية هي؛ الانتخاب الهرمي، وجماعات النصح السياسية التي لا تسعى للسلطة لتكون بديلاً للأحزاب السياسية، والترشيح من الغير بمنع الترشُّح وترشيح عضو نفس المنظمة المشكوك في سعيها للسلطة.
ولا أحد من أهل السنة يخالف في أن الانتخاب المقابل للجبر هو الصواب، وإنما أنكروا الانتخاب العام بسبب طريقته المتبعة في الأنظمة الديمقراطية الوضعية.
ويمكن أن يحقق الانتخاب العام حسن اختيار أهل الحل والعقد إذا كان هرمياً ومضبوطاً، فكل الناس يمكنهم معرفة الكفؤ الأمين مثلما يعرف الجاهل بالطب الطبيب الماهر، ولذا اقترحت التَشْوَقِيَّة ما أسمته الانتخاب الهرمي.
وأهل الحل والعقد هم ممثلوا الناس من العلماء والحكماء والخبراء وسائر أعيان الناس ورؤسائهم، انظر؛ شروط أهل الحل والعقد.
ولن يكون للناس أعيان ورؤساء وأقياد إلا عبر تجمعاتهم الطبيعية أو تحالفاتهم المعقودة.
وقد كانت التجمعات قبل نشوء الحزبية السياسية طبيعية ومعقودة، الطبيعية كالقبيلة والعشيرة، والمعقودة كطريقة العرفاء، والقبيلة رحم بعيد معتبر شرعاً وعرفاً.
وروابط الرحم أقوى من روابط الأحزاب السياسية، وروابط الأحلاف مبنية على توافق في الرؤى وتلاق في المصالح.
في التشوقة تمثيل للناس بتجمعاتهم السكنية في الانتخابات الهرمية، وفيها تمثيل لآراء الناس وبرامجهم بتجمعات سياسية غير حزبية.
فلفاعلية العمل الجماعي المنظم فإن التعدد السياسي في التَشْوَقِيَّة في شكل جماعات نصح سياسية لا تسعى لسلطة كبديل للأحزاب السياسية المتصارعة على السلطة.
وبهذا يُدفع شر الدول المعادية التي غزتنا ثقافياً، بإيهام مثقفينا بأنه لا تعددية بدون أحزاب، محتجة بفاعلية العمل الجماعي المنظم، وبادعاء أنها تدعم مطالب أهل البلد لتنفي عن نفسها التدخل في شؤون الآخرين.
وعبر إنشاء جماعة نصح سياسية يمكن السعي لتشوقة البلد بالتدرج، وذلك بنحو؛ مطالبة صناع القرار بإجراء استفتاء عام حول تحويل الأحزاب السياسية لجماعات نصح، فهذه من طرق تطبيق التشوقة في البلد التي تسمح بالتعدد السياسي.
ولابد في تطبيق التَّشْوَقَة من التدرج اعتباراً للقدرة، ولأن الضرورة تقدر بقدرها فيجب تطبيق أقرب مقدور عليه عند عدم القدرة على تطبيق الأمثل، فالتدرج سنة كونية وشرعية؛ فالطفل يحبو ثم يمشي ثم يجري، ولو لم يتداخل النهار في الليل لأبهر ضوء الشمس العيون.
في الحكم المنتخب مراعاة مصالح غالب الناس الدينية والدنيوية.
أما مراعاة مصلحة الدين، فإن الحكم المنتخب فيه مراعاة مصلحة أصل الدين (الشهادتين والصلاة) حتى مع ضعف تدين الناس، وفي الحديث؛ (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة))، وفي مراعاة مصلحة أصل الدين تنمية للخير.
وأما المصالح الدنيوية فالحكم الجبري يقدم مصالح الفئة المتغلبة على بقية المجتمع، لقول النبي ﷺ: (سترون أثرةً وأموراً تنكرونها)، فالأثرة هي الاستئثار بالسلطة والثروة.
مجموع مميزات التَّشْوَقية عن الديمقراطية الوضعية إحدى عشرة مميزة، ومجملها أقل من إحدى عشرة غير أني فصلت بعضها لإبرازها، أكثرها نصية وقليلٌ منها اجتهادية.
وفي هذا الكتاب دمج بين النصي والاجتهادي والمباديء والآليات لِيتكامل الطرح كمثال لنظام حُكم، ولأجل الاختصار والتيسير، فالآليات أمثلة تشرح المباديء، وبالمثال يتضح المقال.
والآليات تعكس المباديء وتختلف باختلافها، لأنها وسيلة لتحقيق المباديء، فمثلاً؛ الانتخاب الهرمي في التشوقة يدل على تمسك حقيقي بمبدأ التشاور والتراضي في العقود.
ومن أمثة المباديء أن تكون الأمة المُسلمة أمة واحدة، ومع أن الشريعة أجازت الاختلاف السائغ واعتبرت غير السائغ عند عدم القدرة؛ إلا أن مبادئها تدل على اعتبار هذا التعدد بطريقة لا تؤدي إلى النزاع وعدم الاستقرار.
وما من نظام حكم إلا ويعتبر بعض الآراء غير سائغة كالتمييز العُنصري، فالاختلاف السائغ شرعي، وغير السائغ هو اختلاف كوني قدري يُعتبر فقط عند عدم القدرة.
وفي جماعات النصح السياسية سد لذريعة النزاع وعدم الاستقرار لأنها لا تسعى لسطة، وآراؤها متباينة تبايناً سائغاً في الأصل وغير سائغ عند عدم القدرة، وهي بديلة للأحزاب السياسية، فبعدم سعيها للسلطة تكون غير حزبية.
والشريعة ما حرمت شيئاً ضاراً إلا وأحلت بديلاً له نافعاً، كتحليل النكاح وتحريم السفاح، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فما حرم الله على عباده شيئاً إلا عوضهم خيراً منه) [١].
وقال أيضاً: (فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك) [٢].
منع التحزب من غير بديل فيه جبر وتحكم، وذلك لفاعلية الجهد الجماعي، ولذا اقترحت التشوقة جماعات النصح السياسية، وقد وردت الإشارة إلى تجمعات الناس في كلام السلف والفقهاء بذكرهم أقياد الناس ورؤساءهم.
واقترحت التشوقة انتخابات عامة بديلة للمعاصرة، وهي التي سمتها الانتخابات الهرمية.
ففي هذه البدائل وأمثالها إظهار حكمة الشريعة الباهرة الدالة على حكمة الله تعالى وعلى صدق رسوله ﷺ.
وأسباب بطلان الانتخابات العامة المعاصرة ثلاثة، وهي؛ ترشيح الرجل نفسه، والتنافس الحزبي، وعدم الهرمية.
وترشيح الرجل نفسه مخالف للسنة القولية والعملية للنبي ﷺ وخلفائه الراشدين، وما ذكره الفقهاء من جواز طلب الولاية هو حكم استثنائي لا يجوز أن يكون سنة متبعة.
ومن أضرار طلب الولاية أنه يؤدي إلى الشحناء والبغضاء، فما أحب أحد الزعامة إلا حسد وبغى، ومن أضراره أنه تنافس على وظائف مهمة ومحدودة يؤدي للصراع.
والطلب الحزبي للسلطة ما هو إلا طلب فردي يتقوى بالحزب، فهو أضر في إثارة والبغضاء والصراع الذي يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي، بل قد يؤدي إلى الحروب.
ومن أضرار التنافس الحزبي إضافة لما سبق أنه يسهل على الأجنبي التدخل عبر أطماع أعضاء هذه الأحزاب، لا سيما مع الضعف الاقتصادي والعسكري والسياسي وقوة العدو في هذه الجوانب.
وأقل أعضاء الأحزاب طمعاً في السلطة يرغب في علاقة ولو مع رئيس بلدية، فمهما كانت وطنية الحزبي، فإنه يقدم مصالحه الشخصية والحزبية الضيقة على مصالح الوطن.
ولذا فإن النصح بتقديم المصالح العامة على المصالح الحزبية والشخصية الضيقة لا يجدي بدون آليات تكبح جماح النفس البشرية، ولذا شرعت العقوبات.
والمقصود بكون الانتخابات غير هرمية هنا أنها تخالف أسساً مهمة من أسس التعامل مع الأنظمة المعقدة، وهي أسس يقينية بالدراسات والتجارب البشرية، انظر؛ تبسيط النظام المعقد.
ومن أضرار عدم الهرمية؛ تحكم اللوبيات، وسهولة خداع الناخبين، وسهولة التزوير، وتعقيد الإجراءات الانتخابية.
ومن فوائد التَّشْوَقَة رد شبهة انعدام رؤية سياسية شورية عملية للمسلمين.
للأمة في التَّشْوَقَة أربعة أدوار في السياسة، وهي؛ انتخاب نوابها الذين يختارون ولاتها، واختيار آرائها وآراء ممثليها من أهل الاختصاص عبر استفتاءات عامّة أو استفتاءات مجالس تخصصية فيما فيه خلاف سائغ، وتقويم سياسات ولاة أمرها بالنصح والتقويم بضوابط شرعية، وحَل النظام الفاسد بمجالسها الحَلْقَدية المنتخبة.
ولما في الديمقراطية الوضعية من حق مشوب بباطل؛ فقد أصبح لها رواج عظيم عند العرب والعجم، وقد ساعد في الترويج لها إضافةً إلى تطور المُبشرين بها وسيطرتهم على وسائل الإعلام المؤثرة؛ قصور في شرح الطرح البديل، وهذا ما دفعني لكتابة هذه الأُطروحة.
وما من باطل انتشر إلا وفيه شبهة حق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وذلك مصداق قول الله تعالى: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وما في الديمقراطية الوضعية من حق قد يكون من بقايا تعاليم الرسل، فأول ديمقراطية سُجلت تاريخياً كانت في اليونان، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى أن ما عند اليونان من خير هو من بقايا تعاليم الرسل، وقد اعترف بعض الأوربيين أنهم استفادوا في أنظمتهم من النصرانية والإسلام.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الأحد ٨ شعبان ١٤٣٧هـ، ١٥ مايو ٢٠١٦م
آخر تعديل؛ السبت ٢٧ محرم ١٤٤٦هـ، ١ أغسطس ٢٠٢٤م.
المصادر
[١] روضة المحبين ونزهة المشتاقين - ط العلمية (ج١/ص٨).
[٢] إعلام الموقعين عن رب العالمين - ت مشهور (ج٤/ص٣٤٠).
[٢] إعلام الموقعين عن رب العالمين - ت مشهور (ج٤/ص٣٤٠).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق