سبق أن الخارج عن مُجمل الإيمان المنزل على خاتم الأنبياء لا يُعذر بالجهل في الأحكام الدنيوية سواء بلغته الحجة أم لم تبلغه، ومثلتُ له بالكافر الأصلي كالبوذي ومن يعتقد أن كل ما في الكون هو الله.
وأما مُفصل الإيمان، فإنه لا يكفر صاحبه بعينه إلا بعد إقامة الحجة الرسالية عليه، سواءٌ كان التفصيل متعلقاً بالمسائل الخبرية التي تعلم بالشرع فقط أو الفطرية التي تُعلم بالشرع والعقل والفطرة.
يدل على شرط إقامة الحجة في المسائل الفطرية حديث الرجل الذي شك في شيء من كمال قدرة الله عز وجل وفي بعثه فغفر الله عز وجل له، وذلك لأن كمال القدرة من المسائل الفطرية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر له) [1].
ويخطيء من يحمل حديث الشاك في كمال القدرة على الأحكام الأخروية فقط، وذلك لأن الأئمة لم يكفروا كل من ينفي بعض الصفات بما فيها الفطرية المعلومة بالشرع والفطرة والعقل، وإنما كفروا من قامت عليه الحجة الرسالية ممن قال ببعض أقوال الجهمية، للمزيد انظر مبحث؛ حُكم تكفير الجهمية.
وممن أبعد في تأويل الحديث من حمل الشك في كمال القدرة على ذهول العقل من شدة الخوف، وذلك لأن شدة الخوف من الله تعالى تحمل النفس على مزيد تعظيمه واستحضار كمال قدرته.
وأبعد أكثر من زعم أن كلمة قدر في الحديث بفتح الدال وأنها تعني ضيق أو بتشديد الدال من التقدير، وذلك لبعد هذه المعاني عن سياق القصة التي تدل على الشك في كمال القدرة لما فيها من الأمر بحرق الجسم وطحنه وذره في الريح.
ويختلف تحقيق شرط إقامة الحجة في الإيمان المُفصل باختلاف المسائل ظهوراً وخفاءاً وباختلاف حال الواقع فيها، فالعذر بالجهل آكد في المسائل الخبرية التي تُعلم بالشرع فقط خاصة التي كثرت فيها الشبهات لاسيما ممن ينتسب إلى العلم، وهو آكد أيضاً في حق حديثي العهد بالإسلام وأهل البادية ونحوهم.
وكلما كانت المسألة الفطرية أخفى كان العذر فيها آكد، فيُفرق بين أصل المسألة الفطرية وتفاصيلها، فعذر من شك في شيء متعلق بكمال قدرة الله تعالى ليس كعذر من شك في خصوصية القدرة من جهة أنها فوق قدرة المخلوقات وأشرك في القدرة، وكذا من أنكر أصل المعاد ومن شك في إعادة بعضٍ فقط.
وكذا يُفرق بين من جهل شيئاً من كمال علم الله تعالى وبين من شك في أن علم الله تعالى أوسع وأكمل من علم المخلوقين، وكلام عائشة رضي الله عنها قد يكون خبراً صدر على سبيل التعجب وليس سؤالاً، فقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ "نعم"، عندما قالت؛ "كل ما يكتم الناس يعلمه الله"، قد يكون من قبيل تأكيد الخبر.
وحُكم من أنكر الخلق أو أشرك فيه ليس كحكم من لم يعرف أن أفعال العباد مخلوقة مكتسبة.
ويفرق أيضاً بين أغلظ شرك أكبر صريح في العبادة وهو الدعاء وغيره مما هو دونه من أنواع الشرك الأكبر الصريح كالسجود والذبح وتقريب القرابين.
وأعني بالشرك الصريح ما دل الشرع على أنه لا احتمال فيه، ومثال ما فيه احتمال؛ التبرك والتمائم والحلف بغير الله، لأنها محتمِلة للشرك الأصغر والأكبر.
وفي الدعاء يُفرق بين من يعتقد النفع والضر في المخلوق، ومن انطلت عليه شبه المُبطلين بأن دعاء المخلوق مجاز مقصود به التوسل به وأن تحقيق النفع والضر هو من عند الله، أو أنهم لا ينفعون ولا يضرون إلا بإذن الله، أو أن الله تعالى وكَّلهم ببعض الأمور وأنهم لا يفعلونها استقلالاً.
وهذه الشبهات التي يعذر بها من لم تبلغه الدعوة لا تؤثر في تسمية الفعل ذاته شركاً أكبر وأنه شرك بيِّن بالشرع والفطرة والعقل.
أما دلالة العقل؛ فليُظهر الله تعالى خصوص قدرته وكمالها للناس؛ اختص نفسه بتدبير كثيرٍ من الأمور؛ كالإحياء والإماتة والإتيان بالشمس من المشرق، والفطرة تدل على ما اختص الله تعالى به نفسه، ومما جاء في الشرع قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}.
فنسبة أمرٍ اختص الله تعالى به نفسه من أمور الخلق والملك والتدبير إلى المخلوق شرك في الربوبية، ودعاء المخلوق في تدبير أمرٍ اختص الله تعالى به نفسه شرك في العبادة، وللمزيد حول الدعاء ورد هذه الشبهات؛ مدونتي » إصلاح » أغلظ شرك في العبادة.ولأن الأصل فيمن يدعو غير الله تعالى لجلب نفع أو دفع ضر اعتقاد النفع والضر فيمن يدعوه، فإن شرك الشفاعة غالباً ما يكون بغير الدعاء من العبادات كالنذر والذبح وتقريب القرابين، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح » شفاعة الآلهة الباطلة عقيدة شركية ودعوى جدلية.
النصوص وأقوال الأئمة تدل على اشتراط إقامة الحجة لتكفير المعين في جميع مفصل الإيمان، وأن الخطأ في عدم التكفير أفضل من الخطأ في التكفير، ولكن تحقيق شرط إقامة الحجة يختلف باختلاف المسائل من حيث سهولة إدراكها في أصلها ومن حيث انتشار العلم بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وإنما كانت عبادتهم إياهم أنهم يدعونهم ويتخذونهم وسائط ووسائل وشفعاء لهم، فمن سلك هذا السبيل فهو مشرك بحسب ما فيه من الشرك.
وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينته، وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه.
وإما إذا كان جاهلاً لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين، فإنه لا يحكم بكفره، ولاسيما وقد كثر هذا الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة فإنه ضال باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر) [2].
وأعظم شركاً ممن تلبس بشرك الشفعاء والوسطاء؛ من يدعو غير الله تعالى معتقداً النفع والضر في المدعو من دون الله عز وجل، لأنه مشرك في التدبير والعبادة، والشرك في التدبير شرك في الربوبية، ولأن الدعاء أهم مسألة في توحيد العبادة الذي هو أول ما دعا إليه الرسل، فكان أصلاً فارقاً بين المُسلم والكافر.
فقيام الحجة الرسالية على من يعتقد النفع والضر في المدعو من دون الله عز وجل أيسر، فتقوم ببلوغها إياه على وجه يفهمها مثله.
ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان ثمة معنىً لقول العلماء في مثل هذه المسألة؛ يجهلها مثله، واستثناء أهل البادية وحديثي العهد بالإسلام، ونحو ذلك، وهل يقر معاند أو معرض ببطلان كل الشبه التي يتعلق بها؟
ولكن لا يبدع بله أن يكفر من يتوسع في العذر بالجهل في المسائل المتعلقة بأصل دعوة المُرسلين، وذلك لأن الخلاف فيها سائغ، فبعض العلماء يرى أن الشبه فيها تجعل الكفر محتملاً من جهة الجهل والتأويل مع كونه بيناً بالشرع في ذاته.
والحق أن أصل دعوة المُرسلين يسير الفهم بالحجج الرسالية والإشارات الكونية والقدرية والدلائل الفطرية والعقلية، ففي كل شيء لله آيةٌ تدل على أنه الواحد، وحجته البالغة مبثوثة في الآيات الكونية والحوادث العلوية والسفلية والمصائب المجتمعية والفردية والنعم المزدية.
قال الله جل ثناؤه: {وَلَنُذيقَنَّهُم مِنَ العَذابِ الأَدنى دونَ العَذابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعونَ} [السجده: ٢١].
وقد جاءت الرسل بالآيات والأمثال المعقولة الواضحة البينة، قال الله تعالى ذكرُهُ: {يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَكُم بُرهانٌ مِن رَبِّكُم وَأَنزَلنا إِلَيكُم نورًا مُبينًا}[ النساء: ١٧٤ ].
وقد جعل الله تعالى ذكرُهُ الميثاق حجة؛ {وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قالوا بَلى شَهِدنا أَن تَقولوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَن هذا غافِلينَ (١٧٢) أَو تَقولوا إِنَّما أَشرَكَ آباؤُنا مِن قَبلُ وَكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعدِهِم أَفَتُهلِكُنا بِما فَعَلَ المُبطِلونَ} [الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣].
والصحيح في الميثاق أنه متكرر، أصله مأخوذ عندما أخرج الله تعالى كل نسمة هو خالقها من ظهر آدم عليه السلام، ويتكرر بالفطرة التي يولد عليها كل مولود، ثم بإقرار كل إنسان في نفسه وإن لم يقر بلسانه وجوارحه، وذلك عند رؤية الإشارات الكونية والقدرية وسماع الحجج الرسالية.
فيكون معنى الآية هو أن الإشهاد متكرر دائماً حتى موت الإنسان، وأما الإقرار التام فيستمر إلى حين فساد الفطرة، ودلت السنة على أن الأبوين هما السبب الغالب في فساد الفطرة.
يدل على تكرُّر الميثاق بكل ما سبق أن لفظ الآية يحتمل كل هذه المعاني ولورودها جميعاً عن السلف مع كونها غير متضادة.
أما أصل الميثاق؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ اللهَ أخذ الميثاقَ من ظهرِ آدم ب (نعمانَ) يومَ عرفةَ، وأخرج من صلبِه كلَّ ذريةٍ ذرأَها فنثرَهُم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلَّمَهُم قِبَلًا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى})، قال الألباني رحمه الله تعالى: صحيح بل هو متواتر المعنى [3].
وأما تكرُّر الميثاق بالفطرة فبدلالة ظاهر الآية، لأن الله تعالى قال: {مِن بَني آدَمَ} ولم يقل؛ "من آدم" ، وقال: {مِن ظُهورِهِم} ولم يقل؛ "من ظهره"، وممن قال بهذا المعنى الحسن البصري رحمه الله تعالى، ويدخل آدم عليه السلام في الآباء المُشار إليهم ببني آدم من باب التغليب بدلالة السنة.
وأما تكرُّر الميثاق بإقرار كل إنسان في نفسه عند رؤية الإشارات الكونية والقدرية وسماع الحجج الرسالية؛ فلأن واو العطف في {وَأَشهَدَهُم} لا تستلزم التعقيب، ولدلالة الآية على عدم غفلة الناس عن الميثاق، وقد قال بهذا المعنى عدد من أهل العلم منهم ابن القيم رحمه الله تعالى، وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما وسماه الميثاق الآخر.
فعن الضحاك بن مزاحم رحمه الله قال: حدَّثني ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما: (أنَّ اللهَ مسح صُلبَ آدمَ فاستخرج منه كلَّ نَسَمةٍ هو خالِقُها إلى يومِ القيامةِ، فأخذ منهم الميثاقَ أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وتكفَّل لهم بالأرزاقِ، ثمَّ أعادهم في صُلبِه. فلن تقومَ السّاعةُ حتّى يولدَ من أُعطي الميثاقَ يومئذٍ، فمن أدرك منهم الميثاقَ الآخرَ فوفّى به، نفعه الميثاقُ الأوَّلُ، ومن أدرك الميثاقَ الآخرَ فلم يُقِرَّ به، لم ينفعْه الميثاقُ الأوَّلُ، ومن مات صغيراً قبل أن يدركَ الميثاقَ الآخرَ ، مات على الميثاقِ الأوَّلِ، على الفطرةِ))، قال أحمد شاكر رحمه الله تعالى: إسناده جيد [4].
ولأن آيات الله كثيرة متنوعة؛ فقد يكون إرسال الرسل محض فضل من الله تعالى الذي سبقت رحمته غضبه وقطع لحجج المُجادلين يوم القيامة؛ {رُسُلًا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ لِئَلّا يَكونَ لِلنّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزيزًا حَكيمًا} [ النساء: ١٦٥ ].ولولا العذر بالجهل لما كان لإرسال الرسل فائدة، سواء كان من لم تبلغه الرسالة معذوراً حقاً أو كان عذره محض فضل من الله تعالى، فالواجب الاعتدال في المسألة وفق النصوص وطريقة السلف بلا إفراط ولا تفريط.
المصادر
[1] أخرجه البخاري (٣٤٨١)، ومسلم (٢٧٥٦).
[2] جامع المسائل لابن تيمية، المجموعة الثالثة (ص 151)، تحقيق؛ محمد عزير شمس، إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد، الناشر؛ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع - مكة الطبعة الأولى، 1422 ه.
[3] الآيات البينات في عدم سماع الأموات (ص91)، تحقيق؛ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، الطبعة الرابعة.
[4] عمدة التفسير (ج٢/ص٧٣).
[2] جامع المسائل لابن تيمية، المجموعة الثالثة (ص 151)، تحقيق؛ محمد عزير شمس، إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد، الناشر؛ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع - مكة الطبعة الأولى، 1422 ه.
[3] الآيات البينات في عدم سماع الأموات (ص91)، تحقيق؛ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، الطبعة الرابعة.
[4] عمدة التفسير (ج٢/ص٧٣).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق