التحزيب في اللغة التقسيم والتجزئة، كتحزيب القرآن.
وتحزيب الناس يكون بسبب أحد أمرين؛
١. التمسك بالحق البيّن.
٢. العصبيّة الباطلة.
ولذا ورد في القرآن ذكر الحزب مقروناً بالولاء والبراء.
فالحزب لغةً القسم والجزء والطائفة، وللحزب من الناس ثلاثة استعمالات في القرآن وكلام العرب والعلماء، وهي؛
١. حزب الله، ويعني مجموع الأمّة المسلمة.
٢. حزب من الأمة الواحدة، ولا يستعمل عند الإطلاق وانعدام القرينة الصارفة إلا على وجه الذم.
٣. جماعة من الأمة الواحدة على غير وجه الذم، ولا يفهم هذا المعنى إلا بقرينة، مثل دلالة السياق في قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: ١٢].
فتحزيب الأمة الواحدة مذموم عند الإطلاق، ولذا يقال؛ التفرق والتحزّب، ولا يقال التفرق والتجمّع، لأنّ الجماعة من الأمة لا تذم إلّا إذا كانت فيها عصبيّة.
وكذا يقال الحزبيّة في ذم العصبيّة، ولا يقال الجماعية.
والحزب السياسي اسم على مسمى، لأنه يورث العصبيّة بطبيعته بسبب الحرص على السلطة والثروة، فأقل أعضاء الحزب طمعاً يريد علاقةً ولو مع رئيس بلدية لخدمة مصالحه الشخصية، والعصبية تؤدي إلى التفرق.
والسعي الفردي للسلطة يؤدّي إلى التحزّب لأنّ الحريص على السلطة يتقوّى عادةً بجماعة يثير فيها العصبيّة، سواء كانت الجماعة قبيلة أو طائفة أو جماعة سياسية.
وقد سمّى الله تعالى القبائل التي تجمّعت لقتال النبي ﷺ وأصحابه في المدينة أحزاباً، وذلك لأنّها تجمّعت على حميّة الجاهلية وعصبيّتها وولائها الباطل.
والتحزب السياسي قائم على التنافس القذر لما فيه من خداع ومكايدات، مما يؤدي إلى الاضطراب السياسي وإلى انشقاقات غير متناهية في كل حزب.
والأجنبي يستغل الأحزاب مع ضعف الأمة لتفريقها ولتمرير أجنداته.
ولضرورة توحّد الأمة في النظام السياسي أوجبت السنة التنازل عن بعض الحق لأجل الوحدة (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، والأصل التمسك بالحق.
النظام الحزبي الأحادي أقل خطراً من المتعدد غير المدار، والمتعدد المدار في الخفاء أقل تسلطاً من الحزبي الأحادي، لأن المتعدد المدار فيه انتخاب السلطة الخدمية والاحتفاظ بالسلطة الحقيقية.
فالحزبية الأحادية المتجبرة تقدم الولاء على الكفاءة وتفسد الخدمة المدنية والمصالح العامة استثئاراً بالسلطة والثروة، وذلك لأنها تشكل مجتمعاً داخل المجتمع العام تتضارب كثيراً من مصالحه مع المصالح العامة.
وأما الحزبيّة المتعدِّدة فالمفاسد السابقة قد تكون فيها بدرجة أقلّ، وهذا عندما تكون انتخاباتها نزيهة مدارة (للسلطة الخدمية وما يصحبها من حقوق)، وذلك لأنّ نزاهتها لا تشمل السلطة الحقيقيّة (مفاصل الدولة).
فإضافةً إلى مفاسد الأثرة الجزئيّة أو الكليّة فإنّ الحزبيّة السياسيّة المتعددة متنازعة على السلطة والثروة مفضية إلى الفشل لا سيّما إذا كان تعدّدها غير مدار، لأنَّ قادة الأحزاب يتنافسون على موارد محدودة بالغة الأهميّة.
وسبب التنازع هو أن الولايات محدودة ومهمة؛ فالرئيس واحد، وكذا رئيس الوزراء ووزير الصحة ووالي الولاية، وهكذا.
وكلما قل المُتنافس عليه وزادت أهميته وطلبه زاد الصراع عليه، وهو أشد من الصراع على الموارد المحدودة المهمة، لأنّه صراع على السلطة والثروة وأهم الموارد.
وللأهمية البالغة للوظائف السياسية العليا، فإن تنافس حزبين فقط عليها يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي إلا إذا كان أحدهما متحكماً في السلطة في الخفاء.
يدل على ذلك قول النبي ﷺ: (إذا بُويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما)، صحيح مسلم (١٨٥٣).
وأصل معنى التحزب في منشأ الأحزاب السياسية التقسيم والتجزئة والتفرقة.
فالحزبية بالإنجليزية (partisanism)، والحزب (party)، والحزبي (partisan)، والتحزب (partisanship).
ومن معاني التحزب في المعاجم الإنجليزية العصبية، والتمسك، والتجمع في جماعات شديدة التباين.
مما سبق فإنّ الحزب في الاصطلاح هو الجماعة التي فيها عصبية باطلة أو تمسك بحق بيِّن مع موالاة أهله.
وسبب العصبية هو توهم تعارض مصالح الجماعة مع غيرها من أصحاب الحق أو من معهم حق.
فكل حزب جماعة وليست كل جماعة حزباً.
ويمكن أيضاً تعريف الحزب في الاصطلاح بأنه الجماعة التي يعقد على مميزاتها ومصالحها ولاء وبراء.
يدل على هذا قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
والولاء والبراء هما سبب الغلبة لما فيهما من تناصر على الأعداء.
وفي الآية معنى تعارض مصلحة حفظ الدين مع ولاء غير المُسلمين، لحصر الولاء بسابقتها؛ ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
والولاء والولاء في الأحزاب السياسية على المصالح الشخصية لأنه مبني على مطامع قادتها في السلطة مع ارتباط مصالح باقي الأعضاء بمصالح القادة.
وأعضاء الأحزاب يعلمون أن مواقف قادتهم مبنية على مطامعهم الشخصية في السلطة والثروة ومع ذلك يؤيدونهم لأغراضهم الشخصية مما يؤدي إلى الفساد وتعطيل المصالح العامة.
أول الأحزاب السياسية نشوءً كانت في بريطانيا عام ١٦٧٨م أو بعده بقليل، وهما حزب التوري (المحافظين فيما بعد) وحزب الويغ.
وحزب الأمة هو أول حزب نشأ في السودان أيام الاستعمار عام ١٩٤٥م.
واحتمال التنازع وضرره في النظام الحزبي الجبري أكبر مقارنةً بالنظام الملكي، لأن عدد أفراد الأسرة المالكة أقل، وللقرابة التي بينهم، ولأن الأولوية فيه محددة بدرجة القرابة والأكبر سناً.
ويظهر ضرر التنافس الحزبي داخل الحزب الحاكم سريعاً مع الأزمات الاقتصادية.
وأما النظام الحزبي المُتعدد فيظهر فيه أثر عدم الاستقرار أكثر إذا لم يكن مُداراً في الخفاء.
ومن طرق إدارة النظام الحزبي في الخفاء؛ النظام السيادي الدائم كالنظام الملكي في بريطانيا وماليزيا.
ومن الطرق؛ اللوبي السري كالصهيونية في الغرب عموماً ولوبي الحزب الحاكم بسيطرته على مفاصل الدولة.
ومفاصل الدولة هي؛ المال، ثم الاستخبارات، ثم الشوكة، ثم الإعلام، ثم قيادات المجتمع المدني، ثم القضاء.
ويكفي الحزبية السياسية شهادة أهلها عليها بأنها معترك وتحزب وخوض ولعب، بل ولعب قذر، فالحمد لله الذي عافانا.
فأصحاب المُعترك السياسي الحزبي يسمون طريقتهم باللعبة الديمقراطية، وهي فعلاً لعبة كما وصفوها، بل ويصفونها باللعبة القذرة، وصدقوا في ذلك، ويقولون بأنها لا تصلح للخيرين والصالحين، وأحسنوا في ذلك.
ولكن المُصلحين ليسوا مغفلين ليسهل استغفالهم، فعدم صلاح اللعبة القذرة للمُصلحين لا يعني أنهم لا يصلحون للإصلاح السياسي العِلمي والعملي.
وحال الأمة ليس كغيرها، فالغربيون ليست لهم ثوابت في سياسة الدنيا، وقوتهم الاقتصادية والعسكرية تمنع استغلال عدوهم لأحزابهم، إضافة إلى أن المتحكم سراً في أحزابهم جسم واحد يمنع النزاع وهو الصهيونية.
وإذا تم استفتاء الناس فإنهم سيختارون تحويل الأحزاب السياسية إلى جماعات نصح سياسية، فالأحزاب يسارية كانت أو يمينية أو متذبذبة مبغوضة أو غير مأمونة.
وجماعات النصح السياسية تتنافس في تحقيق المصالح العامة بالرؤى والبرامج لا على السلطة، وما فيها من تنافس فهو على مكاسب وفيرة أهميتها أقل من الوظائف السياسية العليا، وبالتالي فإن مصالحها راجحة على مضارها.
والتشوقة لا تنفي أن يكون الحل حال وجود حروب هو الصلح وما فيه من محاصصات حزبية وتداول سلمي للسلطة، ولكن التشوقة تعتبر التحزب السياسي حُكماً استثنائياً اضطرارياً في الأمة الواحدة لا سيما أمة الإسلام، ولذا يجب السعي في إزالته.
والضرورة تقدر بقدرها، فعندما لا يمكن تطبيق الأمثل يجب تطبيق الأقرب، فإذا اضطر أهل بلدة إلى صلح وطني حزبي وتمسكت الأحزاب بالتنافس على السلطة؛ فيجب السعي للتوافق على الانتخاب الهرمي مثلاً.
وبالانتخاب الهرمي تتنافس الأحزاب على مستوى مجالس قاعدية فقط وفقاً للتَّشْوَقَة، ثم تختار المجالس القاعدية المجالس الأعلى إلى قمة الهرم.
ومثل هذا التوافق السياسي على الانتخاب الهرمي كفيل بتلافي ضرر الانتخابات المباشرة لقمة الهرم، ومن ذلك ضرر الحملات الانتخابية على الأحزاب الصغيرة، وغير ذلك من الأضرار المشروحة في مبحث الانتخاب الهرمي.
لم جماعة ولم لا حزب؟
فإن قيل ما الفرق بين جماعة وحزب؟ وما المانع من اسم الحزب إذا كان من معاني التحزب التمسك بالحق البين مع موالاة أهله؟ فجوابه من جهتين؛
١. المعاني اللغوية لكلمتي الجماعة والحزب.
٢. الاستعمال المعاصر لكلمة الحزب.
أما المعاني اللغوي؛ فسبق أن معاني الحزبية في اللغة هي؛ القسمة والتجزئة والتفرق، والعصبية، والتمسك بالحق البين مع موالاة أهله.
وأما الجماعة في اللغة فهي من الإضافة وتأليف المتفرق، وفي الاستعمال هي الطائفة من الناس تجمعها جامعة واحدة أو غرض واحد.
ولذا لا أحد من العلماء يقول "جماعية" في ذم التعصب والتفرق، وإنما يقولون "حزبية".
وأما الاستعمال المعاصر لكلمة الحزب؛ فهي تستعمل للجماعات السياسية التي تسعى للسلطة، وهي اسم على مسمى، لأن عصبيتها وتفرقها هو بسبب سعيها للسلطة.
وهو خطأ لفظي إذا لم تسعَ الجماعة السياسية للسلطة من وجهين؛
١. سعة الاجتهاد في السياسة الشرعية.
٢. اتفاق الناس في رعاية أصل الدين (الشهادتين والصلاة) والمباديء العامة في سياسة الدنيا.
فالسياسة الشرعية هي رعاية الدين وسياسة الدنيا.
أما الاجتهاد الواسع في السياسة الشرعية، فهو من جهتين؛
١. كثرة الاستثناءات والموازنات في مسائلها.
٢. أكثر مسائلها اجتهادية في أصلها.
فالأصل في وسائل رعاية الدين الإرسال (مصالح مرسلة) إلا لنص.
والأصل في سياسة الدنيا الإباحة إلا لنص.
وأما اتفاق الناس في السياسة الشرعية، فهو الحق البين الذي يجب التمسك به بلزوم طاعة رئيس البلاد المقيم لأصل الدين (الشهادتين والصلاة) في المنشط والمكره [١].
وبهذا يتوحد أهل القبلة، وليس بالأحزاب الإسلامية العريضة، وما أكثرها! وما أكثر انقساماتها بسبب تنافس قادتها على السلطة.
وأما التمسك بالنصح بالحق البين مما هو دون أصل الدين من السياسة الشريعة؛ فيكون من خلال جماعات النصح السياسية.
فجماعة النصح السياسية تشبه الجماعات الدعوية من جهة وجوب التحزب لها في الحق البين، فتجب موالاة الجماعات الدعوية في دعوتها للتوحيد والسنة، وبين هذه الجماعات الدعوية خلافات فرعية يحرم تحزيب الناس عليها.
فكلمة جماعة أنسب للجماعة السياسية التي لا تسعى لسلطة، لأن كلمة جماعة لا تحتمل معنى العصبية والتفرق، ولتمييزها عن الحزب السياسي.
وأما تحزيب الناس على السعي للسلطة؛ فلا يمكن أن تستقر بلد فيها حزبان فقط يتنافسان منافسة حقيقية على السلطة، وفي صحيح مسلم؛ (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر).
وكل الديمقراطيات الحزبية مزيفة، ولم ولن تستقر دولها إلا مع وجود إدارة خفية.
فلنسعَ لتعدد بديل لا يتعارض مع الوحدة الوطنية على أساس الدين [٢].
الفرق بين المصلحة المرسلة والمباح
الفرق من حيث الشروط هو أن المصلحة المرسلة يُشترط لها عدم وجود مقتضيها أو وجود مانع من فعلها في عهد الرسالة، بينما لا تشترط هذه الشروط للمباح [٣].
ولولا أنها عبادة لكونها وسيلة لعبادة لكانت من المباحات، لأنها من أمور الدنيا المشتركة بين الناس [٣].
وفارقت المباح الذي يتحول إلى عبادة كالنوم من جهة أن تحولها لعبادة بطريقة استعمالها وليس بالنية فقط.
والإرسال فيها هو في أصلها، وأما الإطلاق في العبادات النصية فهو في صفة فيها كالزمان والمكان [٣].
والله تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق