أصل معنى التحزب في اللغة القسمة والتجزئة، كتحزيب القرآن.
ولذا فالتحزب تفرق ومن معانيه؛ التجمع في جماعات تتعارض مصالحها، والموالاة والمعاداة، والعصبية، والتمسك بالحق البين.
وكل هذا يؤدي إما إلى تفرق مذموم أو تفريق بين الحق وأهله والباطل وجنده.
وأصل معنى التحزب في المعاجم الإنجليزية ومنشأ الأحزاب السياسية التقسيم والتفرقة، ومن معانيه فيها؛ التجمع في جماعات متباينة، والعصبية، والتمسك، والمعاداة والموالاة.
والحزبية بالإنجليزية (partisanism)، والحزب (party)، والحزبي (partisan)، والتحزب (partisanship).
والحزب في الاصطلاح هو الجماعة التي فيها عصبية باطلة أو تمسك بحق بيِّن مع موالاة أهله.
وسبب العصبية هو توهم تعارض مصالح الجماعة مع غيرها من أصحاب الحق أو من معهم حق.
ويمكن أن يعرف الحزب في الاصطلاح أيضاً بأنه الجماعة التي يعقد على مميزاتها ومصالحها ولاء وبراء.
مما يدل على معنى الحزب قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾، والولاء والبراء هما سبب الغلبة لما فيهما من تناصر على الأعداء.
وفي الآية معنى تعارض مصلحة حفظ الدين مع ولاء غير المُسلمين، لحصر الولاء بسابقتها؛ ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
فكل حزب جماعة وليست كل جماعة حزباً اصطلاحاً.
والحزب السياسي اسم على مسمى، لأنه قائم على العصبية بسبب الحرص على السلطة والثروة، فأقل أعضاء الحزب طمعاً يريد علاقةً ولو مع رئيس بلدية لخدمة مصالحه الشخصية، والعصبية تؤدي إلى التفرق.
ولذا فإن التحزب مُفسد للبلاد ومضيع لمصالح الأمة، ولا فرق في ذلك بين نظام حزبي أحادي متجبر ونظام متعدد متصارع أو مدارٍ، غير أن المدار قد يكون أقل تسلطاً.
فالحزبية الأحادية المتجبرة تقدم الولاء على الكفاءة وتفسد الخدمة المدنية والمصالح العامة استثئاراً بالسلطة والثروة، وذلك لأنها تشكل مجتمعاً داخل المجتمع العام تتضارب كثيراً من مصالحه مع المصالح العامة.
والحزبية السياسية المتعددة متنازعة على السلطة والثروة مفضية إلى الفشل، لأنَّ قادة الأحزاب يتنافسون على موارد محدودة بالغة الأهمية كما سبق، إضافةً إلى ما سبق من تشكيل الأحزاب مجتمعات خاصة تتضارب كثيراً من مصالحها مع بعضها ومع المصالح العامة.
وسبب التنازع هو أن الولايات محدودة ومهمة؛ فالرئيس واحد، وكذا رئيس الوزراء ووزير الصحة ووالي الولاية، وهكذا.
وكلما قل المُتنافس عليه وزادت أهميته وطلبه زاد الصراع عليه، و هو كالصراع على الموارد المحدودة المهمة، بل هو أشد لأنه صراع على السلطة والثروة وأهم الموارد.
وللأهمية البالغة للوظائف السياسية العليا، فإن تنافس حزبين فقط عليها يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي إلا إذا كان أحدهما متحكماً في السلطة في الخفاء.
يدل على ذلك قول النبي ﷺ: (إذا بُويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما)، صحيح مسلم (١٨٥٣).
والسعي الفردي للسلطة يؤدي إلى التحزب لأنه لابد له من أن يتقوى بجماعة سواء كانت قبيلة أو طائفة أو جماعة سياسية أو غيرها من الجماعات.
وعندما يتقوى طلاب السلطة بقبائلهم للوصول للسلطة فإنهم يثيرون فيهم العصبية للقبيلة، وقد سمى الله تعالى القبائل التي قاتلت النبي ﷺ أحزاباً لأنها قاتلت على عصبية جاهلية وولاء باطل.
فالتحزب قائم على تغليب المصالح الشخصية والحزبية على العامة وعلى التنافس القذر لما فيه من خداع ومكايدات، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي وإلى انشقاقات غير متناهية في كل حزب، والأجنبي يستغل الأحزاب مع ضعف الأمة لتفريقها ولتمرير أجنداته.
والولاء في الأحزاب السياسية قائم على مصالح شخصية، وذلك لأنه مبني على مطامع قادتها في السلطة مع ارتباط مصالح باقي الأعضاء بمصالح القادة.
وأعضاء الأحزاب يعلمون أن مواقف قادتهم مبنية على مطامعهم الشخصية في السلطة والثروة ومع ذلك يؤيدونهم لأغراضهم الشخصية مما يؤدي إلى الفساد وتعطيل المصالح العامة.
ولم تكن الأحزاب السياسية معروفة قبل أربعة قرون، وأول الأحزاب السياسية نشوءاً كانت في بريطانيا، وهما حزب المحافظين وحزب اليمين، وكان ذلك عام ١٩٦٨م.
وبريطانيا هي التي نشرت النظام الحزبي في العالم أيام الاستعمار، وأول حزب نشأ في السودان نشأ أيام الاستعمار، وهو حزب الأمة عام ١٩٤٥م.
واحتمال التنازع وضرره في النظام الحزبي الجبري أكبر مقارنةً بالنظام الملكي، لأن عدد أفراد الأسرة المالكة أقل، وللقرابة التي بينهم، ولأن الأولوية فيه محددة بدرجة القرابة والأكبر سناً.
ويظهر ضرر التنافس الحزبي داخل الحزب الحاكم سريعاً مع الأزمات الاقتصادية.
وأما النظام الحزبي المُتعدد فيظهر فيه أثر عدم الاستقرار أكثر إذا لم يكن مُداراً في الخفاء.
ومن طرق إدارة النظام الحزبي في الخفاء؛ النظام السيادي الدائم كالنظام الملكي في بريطانيا وماليزيا.
ومن الطرق؛ اللوبي السري كالصهيونية في الغرب عموماً ولوبي الحزب الحاكم بسيطرته على مفاصل الدولة.
ومفاصل الدولة هي؛ المال، ثم الاستخبارات، ثم الشوكة، ثم الإعلام، ثم قيادات المجتمع المدني، ثم القضاء.
ويكفي الحزبية السياسية شهادة أهلها عليها بأنها معترك وتحزب وخوض ولعب، بل ولعب قذر، فالحمد لله الذي عافانا.
فأصحاب المُعترك السياسي الحزبي يسمون طريقتهم باللعبة الديمقراطية، وهي فعلاً لعبة كما وصفوها، بل ويصفونها باللعبة القذرة، وصدقوا في ذلك، ويقولون بأنها لا تصلح للخيرين والصالحين، وأحسنوا في ذلك.
ولكن المُصلحين ليسوا مغفلين ليسهل استغفالهم، فعدم صلاح اللعبة القذرة للمُصلحين لا يعني أنهم لا يصلحون للإصلاح السياسي العِلمي والعملي.
وحال الأمة ليس كغيرها، فالغربيون ليست لهم ثوابت في سياسة الدنيا، وقوتهم الاقتصادية والعسكرية تمنع استغلال عدوهم لأحزابهم، إضافة إلى أن المتحكم سراً في أحزابهم جسم واحد يمنع النزاع وهو الصهيونية.
وإذا تم استفتاء الناس فإنهم سيختارون تحويل الأحزاب السياسية إلى جماعات نصح سياسية، فالأحزاب يسارية كانت أو يمينية أو متذبذبة مبغوضة أو غير مأمونة.
وجماعات النصح السياسية تتنافس في تحقيق المصالح العامة بالرؤى والبرامج لا على السلطة، وما فيها من تنافس فهو على مكاسب وفيرة أهميتها أقل من الوظائف السياسية العليا، وبالتالي فإن مصالحها راجحة على مضارها.
والتشوقة لا تنفي أن يكون الحل حال وجود حروب هو الصلح وما فيه من محاصصات حزبية وتداول سلمي للسلطة، ولكن التشوقة تعتبر التحزب السياسي حُكماً استثنائياً اضطرارياً في الأمة الواحدة لا سيما أمة الإسلام، ولذا يجب السعي في إزالته.
والضرورة تقدر بقدرها، فعندما لا يمكن تطبيق الأمثل يجب تطبيق الأقرب، فإذا اضطر أهل بلدة إلى صلح وطني حزبي وتمسكت الأحزاب بالتنافس على السلطة؛ فيجب السعي للتوافق على الانتخاب الهرمي مثلاً.
وبالانتخاب الهرمي تتنافس الأحزاب على مستوى مجالس قاعدية فقط وفقاً للتَّشْوَقَة، ثم تختار المجالس القاعدية المجالس الأعلى إلى قمة الهرم.
ومثل هذا التوافق السياسي على الانتخاب الهرمي كفيل بتلافي ضرر الانتخابات المباشرة لقمة الهرم، ومن ذلك ضرر الحملات الانتخابية على الأحزاب الصغيرة، وغير ذلك من الأضرار المشروحة في مبحث الانتخاب الهرمي.
لم جماعة ولم لا حزب؟
فإن قيل ما الفرق بين جماعة وحزب؟ وما المانع من اسم الحزب إذا كان من معاني التحزب التمسك بالحق البين مع موالاة أهله؟ فجوابه من جهتين؛
١. المعاني اللغوية لكلمتي الجماعة والحزب.
٢. الاستعمال المعاصر لكلمة الحزب.
أما المعاني اللغوي؛ فسبق أن معاني الحزبية في اللغة هي؛ القسمة والتجزئة والتفرق، والعصبية، والتمسك بالحق البين مع موالاة أهله.
وأما الجماعة في اللغة فهي من الإضافة وتأليف المتفرق، وفي الاستعمال هي الطائفة من الناس تجمعها جامعة واحدة أو غرض واحد.
ولذا لا أحد من العلماء يقول "جماعية" في ذم التعصب والتفرق، وإنما يقولون "حزبية".
وأما الاستعمال المعاصر لكلمة الحزب؛ فهي تستعمل للجماعات السياسية التي تسعى للسلطة، وهي اسم على مسمى، لأن عصبيتها وتفرقها هو بسبب سعيها للسلطة.
وهو خطأ لفظي إذا لم تسعَ الجماعة السياسية للسلطة من وجهين؛
١. سعة الاجتهاد في السياسة الشرعية.
٢. اتفاق الناس في رعاية أصل الدين (الشهادتين والصلاة) والمباديء العامة في سياسة الدنيا.
فالسياسة الشرعية هي رعاية الدين وسياسة الدنيا.
أما الاجتهاد الواسع في السياسة الشرعية، فهو من جهتين؛
١. كثرة الاستثناءات والموازنات في مسائلها.
٢. أكثر مسائلها اجتهادية في أصلها.
فالأصل في وسائل رعاية الدين الإرسال (مصالح مرسلة) إلا لنص.
والأصل في سياسة الدنيا الإباحة إلا لنص.
وأما اتفاق الناس في السياسة الشرعية، فهو الحق البين الذي يجب التمسك به بلزوم طاعة رئيس البلاد المقيم لأصل الدين (الشهادتين والصلاة) في المنشط والمكره [١].
وبهذا يتوحد أهل القبلة، وليس بالأحزاب الإسلامية العريضة، وما أكثرها! وما أكثر انقساماتها بسبب تنافس قادتها على السلطة.
وأما التمسك بالنصح بالحق البين مما هو دون أصل الدين من السياسة الشريعة؛ فيكون من خلال جماعات النصح السياسية.
فجماعة النصح السياسية تشبه الجماعات الدعوية من جهة وجوب التحزب لها في الحق البين، فتجب موالاة الجماعات الدعوية في دعوتها للتوحيد والسنة، وبين هذه الجماعات الدعوية خلافات فرعية يحرم تحزيب الناس عليها.
فكلمة جماعة أنسب للجماعة السياسية التي لا تسعى لسلطة، لأن كلمة جماعة لا تحتمل معنى العصبية والتفرق، ولتمييزها عن الحزب السياسي.
وأما تحزيب الناس على السعي للسلطة؛ فلا يمكن أن تستقر بلد فيها حزبان فقط يتنافسان منافسة حقيقية على السلطة، وفي صحيح مسلم؛ (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر).
وكل الديمقراطيات الحزبية مزيفة، ولم ولن تستقر دولها إلا مع وجود إدارة خفية.
فلنسعَ لتعدد بديل لا يتعارض مع الوحدة الوطنية على أساس الدين [٢].
الفرق بين المصلحة المرسلة والمباح
الفرق من حيث الشروط هو أن المصلحة المرسلة يُشترط لها عدم وجود مقتضيها أو وجود مانع من فعلها في عهد الرسالة، بينما لا تشترط هذه الشروط للمباح [٣].
ولولا أنها عبادة لكونها وسيلة لعبادة لكانت من المباحات، لأنها من أمور الدنيا المشتركة بين الناس [٣].
وفارقت المباح الذي يتحول إلى عبادة كالنوم من جهة أن تحولها لعبادة بطريقة استعمالها وليس بالنية فقط.
والإرسال فيها هو في أصلها، وأما الإطلاق في العبادات النصية فهو في صفة فيها كالزمان والمكان [٣].
والله تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق