دلالات النصوص

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) [1]؛ يشمل الرؤية البصرية بالعين والرؤية العِلمية بالحساب والشهادة.
رأى التي بمعنى علِم في الحقيقة اللغوية تنصب مفعولين كما في مثل قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}.
ولكن رأى البصرية في الحقيقة اللغوية قد تشمل رؤية العِلم في استعمالها في الجمل، وقد تعني رؤية البصر فقط.
فإذا كانت الجملة خبراً فإنها تعني رؤية البصر فقط، ومثال ذلك أن يقول قائل؛ رأيت الهلال، فالرؤية هنا تُحمل على رؤية العين والبصر لا العِلم.
أما إذا كانت الجملة إنشاءاً كالأمر والنهي، فإن الرؤية تشمل رؤية العين ورؤية العلم، مثال ذلك؛ إذا قال والد لولده؛ اخرج من البيت حين ترى الشمس، فالرؤية هنا تشمل البصرية والعلمية، فإذا رأى الولد ضوء الشمس وخرج يكون قد أطاع أمر والده، لأن هذا التركيب يُطلق ويراد به الانتظار إلى وقت الشروق.
قال ابن نجيم الحنفي رحمه الله تعالى في حديث؛ (إذا رأت الماء)؛  (ورَأَىْ تستعمل حقيقة في عَلِمَ باتفاق أهل اللغة) [2].
ولذا قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى في حديث؛ (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)؛ رؤية عين أو رؤية علم.
وكذلك حديث؛ (لا تصوموا حتى ترووا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه) [3]، فإن هذا الحديث يشمل رؤية العين ورؤية العِلم، وهو مثل أن يقول والد لولده؛ لا تخرج من البيت حتى ترى الشمس، فإذا رأى الولد ضوء الشمس وخرج يكون قد أطاع أمر والده، لأن المراد انتظار الشروق، فكذلك من علم أن الهلال موجود فوق الأفق فصام أو أفطر يكون قد أطاع أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس في القول بأنَّ الحديث يشمل رؤية العين ورؤية العِلْم تأويل، لأنَّه ظاهر الاستعمال، والظاهر المقدَّم على ظاهر اللغة هو ظاهر الاستعمال، وللجمل والتراكيب اصطلاح واستعمال كما أن للكلمات اصطلاح واستعمال، ومن الأمثلة حديث؛ (لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلّا في بَنِي قُرَيْظَةَ) [4]، فظاهر الاستعمال هو الاسراع في المسير لإدراك المكان قبل المغيب.
وأنبه إلى ما ذكرتُه في مقال؛ إنِّها حرفية لا ظاهرية من أنَّ الظاهر المُقدَّم هو ظاهر العرف والاستعمال والاصطلاح، ومثلت لذلك بما يتبادر إلى الذهن من كلمتي الحاسب الآلي والآلة الحاسبة.
وذكرتُ في المقال أن للتراكيب والجمل استعمال كما أنَّ للكلمات استعمال، ولذا قال الفقهاء؛ إذا قال سيد لعبده؛ إذا لم تشتر البر فلا تأتي إلى البيت، أنه إذا لم يرجع إلى البيت لعدم حصوله على البر يكون قد خالف أمر سيده، وذلك لأن ظاهر استعمال هذه الجملة؛ الجد في البحث خلافاً لظاهر اللغة.
ومما يدل على أن الرؤية تشمل رؤية العِلم أنه يكفي لثبوت الشهر شهادة العدول، فتكون الرؤية بصرية في حق من رأى الهلال بنفسه وعلمية في حق من صامه بناءاً على الشهادة.
ومثل هذا الاستدلال قول ابن دقيق العيد رحمه الله: (وليس حقيقة الرؤية بشرط من اللزوم، لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العدة أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان، وجب عليه الصوم)، [5].
ورؤية البصر ما هي إلا وسيلة لمعرفة ما إذا كان الهلال فوق الأفق أو لا، وقد قال بعض العلماء بأن الهلال هو ما طلع في السماء، وقال آخرون ما استهله الناس، وعلى القولين تصح الرؤية العِلمية، وذلك لأن الناس يستهلونه إذا رأوه رؤية عين أو رؤية عِلم.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وهذا كله إذا فسر الهلال بما طلع في السماء، وجعل وقت الغيم المطبق شكاً، أما إذا فسر الهلال بما استهله الناس وأدركوه، وظهر لهم وأظهروا الصوت به؛ اندفع هذا بكل تقدير. والخلاف في ذلك مشهور بين العلماء، في مذهب الإمام أحمد وغيره، والثاني قول الشافعي وغيره، والله أعلم) [5].
وأما حديث؛ (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) [6]؛ فلا نافية وفيها معنى النهي، وذلك لأن النبي صلى الله عليه أوتي جوامع الكلم، ولم يكن لينفي لغير معنىً.
ولكن النهي هنا لكيلا تعتمد الأمة على غيرها من الأمم الذين كانوا يعرفون الحساب كالهنود واليونان، وأما بعد تعلم الأمة الحساب، فجاز لها العمل به، قاله المحدث أحمد شاكر رحمه الله تعالى، يؤكد ذلك أن الأمم غير المسلمة لا تعتمد المعنى الشرعي للهلال.
والنهي مُختص بحساب الأهلة وكتابة التقاويم، وليس عن مطلق الحساب والكتابة بإجماع الأمة، وقد نسب الله جل ثناؤهُ التعليم بالقلم إليه على وجه التشريف في قوله تعالى ذكره: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند السويد
الثلاثاء 10 ذو القعدة 1436هـ، 25 أغسطس 2015م.
تعديل؛ السبت 17 رمضان 1439هـ، 2 يونيو 2018م.

المصادر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق