اختلاف المسلمين في أوروبا في رمضان والعيدين

رجوع إلى قسم شبهات وردود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربَّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أعلنت الرابطة الإسلامية في استوكهولم أنَّ عيد الفطر لهذا العام؛ 1437هـ سيكون يوم غد الثلاثاء إن شاء الله تعالى، ومنذ حوالي أربع سنوات تقريباً تزعم بعض المراكز الإسلامية التي ترمز لتيارها بتسمية مراكزها بالروابط الإسلامية أنها تعلن بداية رمضان والعيد بناءاً على فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء، وقد تسببت هذه الإعلانات الحديثة في الاضطراب والاختلاف حتى داخل الأسرة الواحدة، والله المستعان.
الحساب المحض علم صحيح لا يدخل فيه غلط، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك، لأن فيه تفريحاً للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط) [1].
ولكن حساب بعض الظواهر الطبيعية ومنها حساب الأهلة يدخل فيها الخطأ من جهة النموذج الرياضي، لأنَّ النموذج الرياضي في علوم الطبيعة لابد فيه من شيءٍ من المثالية وهامش من الخطأ، فتعريف النموذج الرياضي عند أصحاب هذه الفنون أنه تبسيط للحقيقة بإهمال غير المهم في حساب الظاهرة، ولكن لمَّا لم يكن بالإمكان تضمين كل الحقائق المهمة في النموذج الرياضي لكل أمرٍ طبيعي؛ كانت فيه نسبة خطأ غير مؤثرة ولابد، والحاسِب كذلك قد يخطيء، فإذا لم يُضمِّن في نموذجه حقائق مهمة كان الخطأ كبيراً.
يكفي أن يكون المنوذج الرياضي قريباً من الحقيقة، فقد نص العلماء على أن الشهادة ظنية، وكذلك وجوب إكمال العدة ثلاثين إذا غم على الناس يدل على أن العمل بالأهلة بالظن، وما انتقده ابن تيمية رحمه الله في حساب إمكان رؤية الأهلة هو الوهم بسبب النموذج المثالي الذي لا يتضمن حقائق مهمة، والظن يطلقه العلماء على الراجح من الاحتمالات، ويطلقون الوهم على الضعيف منها.
الطريقة الحسابية التي اعتمدتها هذه الروابط فيها خطأ مؤثر وهو؛ اعتماده على نموذج رياضي مبني على ارتفاع ثابت فوق مستوى سطح البحر، فالنموذج الرياض المُعتمد لدى الفلكيين المُسملين إلى يومنا هذا ليس فيه اعتبار التضاريس وعلو مكان الراصد وانخفاضه، وهذا الاعتبار يؤدي إلى خطأ في زاوية؛ القمر-النظر-الأفق، وبالتالي الخطأ في حساب إمكان رؤية الهلال.
ومما يدل على أن الحساب الذي اعتمدوه فيه هذا الخطأ؛ أن قرار تلك الروابط اعتمد حساب إمكان رؤية الهلال ليلة الثلاثاء في أمريكا الجنوبية، ثم لما سمعوا برؤيته في النيجر ومالي ليلة الثلاثاء احتجوا بذلك مع أن الحساب الذي اعتمدوه يقول بأن رؤية الهلال فيهما غير ممكنة في تلك الليلة، وقد استفاضت الرؤية في النيجر ومالي، وسبب ذلك هو ما تقدم من عدم اعتبار الحاسب لارتفاع مكان الراصد، ولا أشك في أن الشهادة ترد عند استحالة الرؤية، ولكنها لا ترد عند عدم إمكانها، والاستحالة عند المحققين من الفلكيين تعني بيقين، وعدم الإمكان يعني عندهم بظن غالب.
وبالمثال يتضح المقال؛ فإمكان الرؤية مقسم في الخريطة التالية حسب اللون، فاللون الأحمر؛ الرؤية مستحيلة، والأبيض أو اللالون؛ الرؤية غير ممكنة، والزهري؛ ممكنة بالمنظار، وفي حالة صفاء الجو التام مع تمرس الراصد فإنها ممكنة بالعين المجردة، والأحمر المائل للأرجواني؛ ممكنة بالعين المجردة، والأخضر؛ بسهولة جداً بالعين المجردة، والأزرق السماوي؛ غير معروف، وقد نقلتُ هذه الخريطة التالية من؛ مركز الفلك الدولي » نتائج رصد هلال شوال لعام 1437 هـ.
إذا ادعى شخص رؤية الهلال مع استحالة الرؤية فهو إما متوهم كمن رأى سحابة أو أنه كاذب، وذلك لأن الشهادة ظنية وبعض حسابات إمكان رؤية الهلال يقينية، وكنتُ قد قرأتُ قديماً في إحدى المجلات فتوى للشيخ العثيمين رحمه الله برد الشهادة ولو استفاضت إذا كانت ولادة الهلال بعد مغيب الشمس، وقال هذا مخالف للسنة التي أجرى الله عليها هذه الكواكب، وشبَّه ذلك بادعاء إمكان شروق الشمس الثانية ليلاً، ويُحمل كلامه على حال البلاد المعتدلة في طول الليل والنهار.
وأما في حالة قول الفلكي عن الرؤية غير ممكنة فإنه لا يجوز رد الشهادة في هذه الحال خاصةً مع استفاضتها لما تقدم من أن الفلكيين يعتمدون في حساب إمكان الرؤية على ارتفاع ثابت فوق سطح البحر، ولا تزال قلة من الفلكيين تعتمد الولادة المركزية لا السطحية، فمن رد الشهادة في مثل هذه الحال فقد يدخل في وعيد من كذب بالحق لما جاءه.
وبعض الفلكيين يخطؤون بجعل النموذج الرياضي أكثر مثاليةً ومخالفةً للواقع من جهة ثانية، وهي؛ اعتمادهم على ولادة الهلال المركزية لا السطحية، والفرق بين الولادة المركزية والسطحية قد يصل إلى ساعتين، والولادة أو الاقتران السطحي هو الاقتران الذي يتراءى للناظر من نقطة معينة على سطح الأرض، وأما الاقتران المركزي فهو باعتبار الشمس والأرض والقمر نقاطاً في الفضاء.
قبل السنوات الأربع الأخيرة كان المسلمون في أوروبا يصومون ويفطرون حسب إعلان السعودية عدا بعض الجاليات، وهذا ما كان عليه العمل في دول اسكاندافيا على أقل تقدير منذ أن وصلتُ إلى أوروبا أواخر عام 1997م، ومع أن اعتماد السعودية نفياً وإثباتاً فيه خطأ ظاهر إذا قيل باعتبار اختلاف المطالع إلا أن المسلمين كانوا متفقين عليه، وقرار الروابط الإسلامية سبب كثيراً من الارتباك والتردد والنزاع والخلاف حتى داخل الأسرة الواحدة.
والخطأ في اعتماد إعلان السعودية هو أننا إذا قلنا بأن لكل أهل ناحية رؤيتهم، فإن أقرب الأقوال إلى الصحة هي أن رؤية أهل الشرق رؤية لأهل الغرب ولا ينعكس، لأن مسير الهلال من الغرب، ولأن الغروب في الشرق متقدم، وهذا ما أفتى به ابن تيمية رحمه الله تعالى، واعتمد هذا العثيمين رحمه الله تعالى لما أفتى أهل أمريكا بجواز اعتماد رؤية السعودية في الإثبات فقط لا في النفي.
فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء مبنية على عدم اعتبار اختلاف المطالع؛ يعني توحيد بداية الأشهر عالمياً، وهذا القول هو الموافق للنصوص وهو قول جمهور الفقهاء، وأفتى به من المعاصرين الإمام العلامة الألباني رحمه الله تعالى، وقد ذكرتُ أدلة ترجيح هذا القول في؛ مدونتي » مسائل وأحكام » جواز العمل بالحساب الفلكي، مطالع الهلال مختلفة يقيناً، والخلاف ينبغي أن ينصحر في اعتبار اختلاف المطالع؛ هل تعتبر أم لا؟
لا يمكن أن يتفق الناس على رأي واحد، ولا يجوز حجر الآراء في المسائل الاجتهادية، ولكن يجب على المسلمين في ثبوت رمضان والعيدين الاتفاق على العمل برأي واحد، يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون) [2].
وبهذا الحديث استدل ابن تيمية رحمه الله تعالى على ترجيح قول من قال من أهل العلم بأن من أبصر هلال الصوم والفطر وحده؛ صام وأفطر مع الناس، وقال بعضهم يصوم ويفطر سراً، وقال آخرون يصوم برؤية نفسه ولا يفطر إلا مع الناس، وقد ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى، وذكر إجماع أهل العلم على صحة الوقوف بعرفة مع الناس ولو كان خطأً بناءاً على قول الإمام، والملاحظ في اختلاف العلماء فيمن رأى هلال الصوم أو الفطر وحده؛ أن أقوالهم كلها متفقة على وجوب توحد المسلمين في هذه الشعائر الظاهرة.
والعلماء الذين يقولون بجواز العمل بالحساب الفلكي يقولون بجواز العمل برؤية العين، وأما العلماء الذي يرون وجوب التحري فلا يجيزون العمل بالحساب، فمن باب أولى أن يتنازل من يقول بجواز العمل بالحساب لمن لا يقول به لأجل توحد المسلمين في الشعائر الظاهرة، خاصة وأن من العلماء من جزم بعدم جواز العمل بالحساب الفلكي وعد القول بجواز العمل به من البدع المحدثة المخالِفة للنصوص والإجماع، ولكنه قولٌ فيه ضعف واضح لمن فقِه المسألة.
ومع أن القول بأن العمل بحساب الأهلة بدعة مخالفةٌ للنصوص والإجماع فيه نظر؛ إلا أن من المُفيد أن يُعلم أن عدداً من العلماء حكى الإجماع على عدم جواز العمل بحساب الأهلة، منهم؛ ابن تيمية من الحنابلة، ومن الشافعية؛ نقله ابن حجر عن الباجي، ومن الأحناف؛ الجصاص ونقله ابن عابدين عن قوام الدين الكاكي، ومن المالكية؛ ابن عبد البر وابن رشد الجد والحفيد والباجي والقرطبي والقرافي، رحمهم الله تعالى جميعاً، وكلهم عاش بعد المائة السادسة عدا ابن عبد البر وابن رشد الجد والحفيد، فقد عاش ابن عبد البر في أواخر المائة الثالثة وبداية الرابعة، وعاش ابن رشد الجد بعد المائة الرابعة، والحفيد بعد المائة الخامسة.
والحساب الفلكي للأهلة إنما يصح باعتبار إمكان رؤية الهلال رؤية عينٍ أو رؤية عِلمٍ من أفضل أماكن للرصد في أقصى الغرب واعتبار حالة جوية معتدلة، وذلك لأن الوهم يقع كثيراً في إمكان الرؤية وعدمها بسبب عدم اعتبار ارتفاع مكان الرصد وانخفاضه، فتكون هذه الأماكن معياراً لتوحيد بداية الأشهر عالمياً، وهذا على القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع، والله تعالى أعلم، المزيد في؛ مدونتي » أحكام » جواز العمل بحساب الأهلية.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
الإثنين 29 رمضان 1437هـ، 4 يوليو 2016م
لوند، السويد

المصادر

[1] مجموع الفتاوى (ج9/ص129).
[2] رواه الترمذي وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في الصحيحة؛ ٢٢٤، والإرواء؛ ٩٠٥، والجامع الصحيح؛ ٣٨٠٧.
رجوع إلى قسم شبهات وردود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق