المحتويات
١. التصنيف المعتدل
٢. الغلو والجفاء في التصنيف
٣. الثابت والمتغير في معاملة المبتدع
٣(١). معنى المجالسة وثبات حكمها
٣(٢). الهجر الاجتماعي متغير
٣(٣). التغيير يقدر بقدره
٤. المرء بخدنه
٥. الاعتدال في تصنيف جلساء المبتدعة
٦. معينات تجنب الغلو في التصنيف
٧. حكم غلاة التصنيف
٨. التصنيف وهجر المبتدعة
٩. مصلحة الهجر
١٠. هجر الدروس والمجالس الدعوية والثناء
١١. التعاون مع المخالفين
١٢. إنصاف أهل البدع
١٣. المراجع
٢. الغلو والجفاء في التصنيف
٣. الثابت والمتغير في معاملة المبتدع
٣(١). معنى المجالسة وثبات حكمها
٣(٢). الهجر الاجتماعي متغير
٣(٣). التغيير يقدر بقدره
٤. المرء بخدنه
٥. الاعتدال في تصنيف جلساء المبتدعة
٦. معينات تجنب الغلو في التصنيف
٧. حكم غلاة التصنيف
٨. التصنيف وهجر المبتدعة
٩. مصلحة الهجر
١٠. هجر الدروس والمجالس الدعوية والثناء
١١. التعاون مع المخالفين
١٢. إنصاف أهل البدع
١٣. المراجع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وعلى صحابته الميامين، ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
التصنيف المعتدل يحتاج إليه أهل كل تجمع بشري لمعرفة عدوهم من صديقهم الأقرب فالأقرب، ولا يوجد تجمع بشري ليس فيه تصنيف.
مع ظهور غلو في التصنيف عند بعض من ينتسب إلى منهج السلف صار كثيرٌ من أهل البدع ينفِّرون أهل السنة من مطلق التصنيف، وتبعهم في ذلك بعض من ينتسب إلى منهج السلف لِما رأوا من غلو عند بعض في التصنيف والتبديع.
وأهل البدع يستقبحون كل تصنيف من أهل السنة وكأنهم لا يصنفون، وذلك إما مكراً وصداً عن الدعوة وتفريقاً بين أهلها أو مجاملةً لغلاة المبتدعة أو الكفار أو إرصاداً لمن حارب السنة وحملتها من هؤلاء وأولئك، وهذا يدل على ضعف الولاء للتوحيد والسنة.
والتصنيف المعتدل يُعين على نصرة الدعوة وحملتها إضافةً إلى الولاء للأقرب فالأقرب كلٌ بحسبِه، وهذا من أسباب احتياج أصحاب الدعوات سواء كانت حقاً أم باطلاً إلى التصنيف، وكيف يوالي الإنسان من لا يعرف؟ وكيف يوالي الحق ولا يوالي أهله وحملته؟
فإن طبيعة الإنسان أنه يوالي من يشاكله ويجانسه، ولذا يوالي المنافقون بعضهم بعضاً والكفار بعضهم بعضاً وأهل البدع بعضهم بعضاً.
ولذا فإن من كان له ولاء حقيقي للإسلام فإنه يوالي أهله ولا يوالي أعداء الإسلام الولاء الشرعي الخاص بالمؤمنين خصوصية مطلقة.
فمن والى أعداء الإسلام فبحسب موالاته، فإما أن يكون كافراً مثلهم وإما أن فيه ضعف في إيمانه بحسب موالاته، قال الله عز وجل: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
وللمزيد حول الولاء الشرعي الخاص بالمؤمنين خصوصية مطلقة؛ مدونتي » الموجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير » الولاء الشرعي.
قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: (فلا يُتصوَّرْ من جهة الحق أن يكون موالياً للسنَّة وهو ليس مُتَبَرِئاً من أهل البدع إلا إذا كان لم يفهم السنَّة، أو أنَّ عنده هوى تفريق. فمَن والَى السنَّة؛ فلا بد عليه أنه يتبرأ من البدعة، ومَن والَى أهل السنَّة؛ فلا بد أن يتبرأ من أهل البدعة) [١].
عندما كان أنصار السنة في السودان يقولون في تصنيفهم للناس؛ "ده موحد"؛ فإنهم قد يقصدون أنه ناصر لدعوة التوحيد موالياً أهلها أو منتسباً إليهم وإلى دعوتهم، وليس قصدهم في الغالب أن غير من وصفوه بذلك مشرك.
وكانوا يقولون؛ "هذا من إخواننا" ولا يعنون أنَّ غيرهم من المسلمين ليسوا إخواناً لهم، وإنما يقصدون أخوة أخص من أخوة عامة المسلمين.
وكانوا يقولون؛ "هذا سني" ولا يعنون أن غير من وصفوه بذلك مبتدع ضرورةً، فربما قصدوا أنه معروف عندهم بنصرة السنة وموالاة أهلها، وربما قصدوا بقولهم "هذا ليس سني" أنه غير معروف عندهم بنصرة السنة وموالاة أهلها مفرقاً بين السنة والبدعة، وليس أنه مبتدع ضرورةً.
وكانوا يقولون فلان هذا قريب من الدعوة يُرجى منه خير وإن كان فيه كذا وكذا فهو معذور لكذا وكذا، أو فلان هذا أثر فيه المتصوفة أو الحركيون ولكنه لا يزال قريباً من الدعوة، وهذا تصنيف ولكن ليس المقصود به الهجر والإبعاد وإنما الدعوة والتأليف.
ثم نبتت نابتة غلت في التبديع والتصنيف والطعن حتى أوصلها الغلو إلى تبديع من تعلموا منهم التوحيد والسنة.
ثم ظهر أناس يَنْفِرون من التصنيف ويُنفِّرون منه جملةً وتفصيلاً ولو كان على سبيل التعريف أو الحذر وليس على سبيل الغلو في التبديع أو التصنيف بالظن أو بدافع الحسد والبغضاء غير الشرعية.
وكلما ظهرت بدعة ظهرت مقابلها بدعة في الرد عليها.
وبعض الناس نسبوا هذا الغلو إلى أهل السنة إما مكراً وتفريقاً لأهل السنة وصداً عنهم وعن دعوتهم أو انخداعاً ببعض المقصِّرين أو المفرطين في الدعوة إلى التوحيد والسنة.
فقد نسب هذا الغلو إلى أهل السنة من يحمل في نفسه على دعاة التوحيد والسنة من أعداء الدعوة أو ممن ينتسب إلى جماعات تقلل من شأن دعوة التوحيد والسنة أو تنفِّر منها أو ممن تأثر ببعض تلك الجماعات فأوغروا صدره على إخوانه.
وبعض المقصرين في الدعوة بسبب خوف أو شهوة أو مجاملة أو شبهة ظنوا أن كل تصنيف مذموم، فوقعوا فريسة لمكر أعداء الدعوة الذين يريدون إضعاف الولاء للدعوة وأهلها.
مجالسة المبتدع تعني صحبته وحكمها ثابت، وحكم الجلوس معه ولو تكرر متغير، والتوسع الجلي عن القدر كأكل الميتة، والتوسع والتضييق بقدر.
مجالسة المبتدعة تعني اتخاهم أصحاباً وقرناء.
والهجر يُقصد به هجر ما دون الصحبة.
فثمة فرق بين المجالسة ومطلق الجلوس بما فيه المتكرر.
حكم الهجر متغير منوط بعلل (قوة أهل السنة وكثرتهم وظهور حجتهم)، وهو للزجر والعقوبة.
وحكم المجالسة ثابت لا يتغير.
المجالسة عند السلف تعني الصحبة، وحكمها ثابت.
والمراد بالصحبة عند الإطلاق الصحبة الخاصة القائمة على مودة دينية أو دنيوية.
وحكم السلف بإلحاق من يجالس أهل البدع بهم هو فيمن يتخذهم أصحاباً وقرناء إذا كان مجهول الحال أو اجتمعت القرائن.
كما قال الشاعر عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه.
ومما يدل على ذلك استدلال الإمام أحمد رحمه الله على حكم من يجالس أهل البدع بقول ابن مسعود رضي الله عنه؛ (المرء بخدنه) [٢].
والجليس في الاستعمال هو الصاحب، والجمع جلساء.
وفي الحديث الصحيح: (مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة) [٣].
وقال رسول الله ﷺ: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) [٤].
الجلوس المتكرر في فصل دراسي دنيوي فيه فساق ومبتدعة وكفار جائز.
فتكرار الجلوس لمصلحة دينية أو دنيوية مع غير الصالحين جائز.
وذلك لأن الأصل في معاملة الناس البر، والبر هو الصلة [٥]، والمبتدع له حقوق المسلم ما لم تترجح مصلحة هجره.
وفرق بين مودة المبتدع من جهة ومحبته الطبيعية ومحبة هدايته من جهة أخرى.
فالمودة محبة مع تعلق [٥].
وتشمل مودة الكافر المحرمة المودة الدنيوية، وتجوز محبة هدايته ومحبته الطبيعية [٥].
ومودة الكفار محرمة لأنها تحمل على إرضائهم بما يخالف الدين أو على ما فيه إضرار بالمؤمنين.
ولو كانت مودة حاطب رضي الله عنه دينية، لكان كافراً بذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي ﷺ وأنزل اللّه فيه: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة﴾) [٦].
وفي مبحث؛ الاعتدال في تصنيف جلساء المبتدعة بيان أن جلساء أهل البدع يلحقون بهم في الحكم العام، وأن الحكم على المعين بحسبه.
سبق أن الجليس في الاستعمال هو الصاحب وأن الجمع جلساء.
والاستعمال الغالب معتبر، وبه رجح ابن القيم رحمه الله تعالى أن القرء يعني الحيض.
وأما المجالسة من حيث اللغة فهي من جالس يجالس مجالسة فهو جليس.
وجالس فاعل وهو بين اثنين كقاتل.
وجليس فعيل، من صيغ المبالغة، كعليم بمعنى الكامل في علمه.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم.
فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله.
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً.
وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر.
بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر) [٧].
هجر المبتدع اجتماعياً بنحو ترك زيارته ومقابلته خلاف الأصل عند غربة السنة.
وذلك لأن الأصل البر والقسط في معاملة الناس، والبر هو الصلة [٥]، ولأن للمبتدع حقوق المسلم في الأصل.
وهذا الهجر لازم حال ظهور الحجة وقوة أهل السنة أو كثرتهم، بدليل طريقة السلف الغالبة مع أهل البدع، ولأن في أحكام الشريعة تغليظ على المبتدع والمبدل.
ولذا أجمع العلماء على وجوب قتل المرتد الزنديق والمحرف لأحكام الدين [٨]، وعلى وجوب أن يقاتل إمام المسلمين عند القدرة الممتنعين عن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة كمانعي الزكاة والخوارج وأهل البدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في وجوب قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة: (وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها) [٩].
وقد كان أثر الزنادقة والمبدلين للشرائع عبر التاريخ أسوأ من غزو الجيوش، بدءاً بمانعي الزكاة ثم الخروج على عثمان ثم علي رضي الله عنهما ثم تظاهر بعض الزنادقة بالتشيع لآل البيت.
والقوة الداخلية أهم من موازين القوى الخارجية، ولا توجد قوة داخلية من غير ولاء ووحدة كلمة، ولذا ذكر الله تعالى أن النزاع سبب الفشل، وأمر بالولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، والبدع والمحدثات تفرق الأمة وتضعف الولاء لها.
ومن يهجر بدون اعتبار العلل (القوة والكثرة) هو مثل من يدعو إلى مقاطعة كل أمم الكفر التي ظهرت منها عداوة للمسلمين في زماننا، وهذا من السفه، لأن بعض هذه الأمم هي التي تقاطِعنا وتحاصرنا لا العكس.
هذا مع أن الحكم الشرعي حال قوة المسلمين مقاطعة كل من يعاون على الاعتداء على المسلمين.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
فمن يظاهر المحارب حكمه حكم المحارب بنص القرآن.
بل بعض القوى الكبرى تحاصر وتحارب مباشرة ومع ذلك لا تستطيع بعض دولنا مقاطعتها، لما يترتب على ذلك من ضرر.
ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: (وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر).
سبق أن هجر المبتدع لازم عند ظهور الحجة وقوة أهل السنة وكثرتهم (علل الهجر).
وأن التأليف والبر لازمين عند كثرة الشبه وضعف أهل السنة وقلتهم (علل التأليف والبر).
وأن البر هو الصلة [٥].
وهذه العلل متضمنة للحكم والمقاصد، وهي جلب أو حفظ مصالح حاجية أو ضرورية ودفع أو رفع ما يترتب على فواتها من مشقة أو ضرر.
فتقدر كل من الحاجة والضرورة بقدرها.
والتوسع الزائد الجلي في صلة المبتدعة ومدحهم لا يختلف عن أكل الميتة بدون اضطرار حقيقي.
فالطبيب يحقن المخدر بجرعات يقدرها بقدر الحاجة والضرورة سواء للتخدير الموضعي أو الكامل.
فإن زاد فأضر فهو ملوم.
فكلما ضاق الأمر اتسع وكلما اتسع ضاق، بدون إسراف ولا تحجر.
ولذا عد بعض السلف السلام على مبتدعة حباً لهم، وذلك لأن في التقرب إليهم عند لزوم هجرهم مودة وتقوية لهم.
وقد كان غالب نهج رعيلنا الأوائل التأليف والصلة لغربة السنة.
يجب التفريق في اعتبار أصناف الناس بين مقام الدعوة والنصيحة ومقام الحذر.
ففي مقام الدعوة والنصيحة يجب تغليب جانب حسن الظن خلافاً لمقام الحذر.
وهذه طبيعة بشرية، فمثلاً في نصيحة الوالد لولده ينهاهه عن مصاحبة تجار المخدرات ومدمنيها.
وفي مقام النصيحة يغلب حسن الظن بالمدمن.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (احترسوا من الناس بسوء الظن).
والحذر لا يستلزم التحذير المعلن، وقد يجب تحذير القريبين على سبيل التنبيه للحذر لا على سبيل الحكم على الناس.
مجهول الحال يُحذر بمجرد معرفة قرينه، فإذا اجتمعت قرائن أخرى عُرف حاله، وفي هذا يقول الشاعر؛
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... ففيه دليل عنه بالطبع تهتدي
ولا بدع في وفق الطباع إذا اقتدت ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
هذا البيت الشعري في مجهول الحال، لأن السؤال إنما يكون عن مجهول الحال.
فإذا انضافت إلى جهل الحال قرائن أخرى تأكد وجوب الحذر أو عُرف حال قرين الرجل يقيناً أو بظن غالب.
ومن القرائن؛ رضا القرناء عنه، سكوته عن نصحهم، مجاراته لهم بعبارات موهمة.
وحال أهل البدع قرينة، فإذا كانوا قلة ضعفاء فإن مجرد تقرب السني منهم معتبر، وكان هذا حالهم في عهد السلف.
وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بقول ابن مسعود رضي الله عنه (المرء بخدنه) على إلحاق جلساء أهل البدع بهم.
ولأن هذه القرائن معتبرة بحسبها اجتماعاً وافتراقاً مع اعتبار غيرها عند التعيين رويت فيها آثار عن السلف، منها ما يلي؛
قال ابن المبارك: (من خفيت علينا بدعته لم تخف علينا ألفته) [١٠].
قال الأوزاعي: (من ستر عنا بدعته لم تخف علينا ألفته) [١١].
قال معاذ بن معاذ: (يا أبا سعيد الرجل وإن كتم رأيه لم يخف ذاك في ابنه ولا صديقه ولا في جليسه) [١٢].
قال الغلابي: (كان يقال: يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة) [١٢].
(لما قدم سفيان الثوري البصرة، جعل ينظر إلى أمر الربيع وقدره عند الناس، فسأل أي شيء مذهبه؟ قالوا: ما مذهبه إلا السنة. قال: من بطانته؟ قالوا: أهل القدر. قال: هو قدري) [١١].
ولأن حال جلساء أهل البدع خفية فقد أشبهوا المُنافقين، ولذا قال ابن عون رحمه الله تعالى: (من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع) [١٣].
وهذه القرائن ظنية، فتعتبر القرائن الأقوى إذا وجدت.
فقد يعد جليس أهل بدع سني لقرائن أقوى مع مناصحته.
وأما حكم الثوري على مجهول الحال ببطانته، فلأن بطانته أهل مذهب معين حالهم ظاهر (ليسوا كوادر سرية)، ولأنه ليست له بطانة من أهل السنة فيما يبدو من السؤال.
والتوسع الزائد في صلة المبتدعة ومدحهم قرينة بحسبه، فيفرق بين الزيادة الخفية والجلية.
فالتوسع الزائد الجلي لا يختلف عن أكل الميتة بدون اضطرار حقيقي.
فالطبيب يحقن المخدر بجرعات يقدرها بقدر الحاجة والضرورة سواء للتخدير الموضعي أو الكامل.
فإن زاد فأضر فهو ملوم.
فكلما ضاق الأمر اتسع وكلما اتسع ضاق، بدون إسراف ولا تحجر.
ولذا عد بعض السلف السلام على مبتدعة حباً لهم، وذلك لأن في التقرب إليهم عند لزوم هجرهم مودة وتقوية لهم.
ومما يدل على اعتبار القرينة الأقوى عند الحكم على الأعيان قول النبي ﷺ في الجليس السوء؛ (إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة).
وجه الدلالة هو اختلاف أثر الجليس قوة وضعفاً.
وبدلالة النظر والتجارب نعلم أن التأثير والتأثر بقدر قوة الإيمان والعلم والشخصية.
فتأثير المبتدع في السني ليس بأولى من العكس.
ولا ينبغي تهوين أثر الصحبة، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
فأقل أثر عظيم، ومن ذلك تعظيم أخطاء أهل السنة وتهوين انحرافات أهل البدع في نفس جليسهم، فلن يألوا أهل البدع جهداً لتحقيق أقل ما يمكنهم.
ولذا فرق ابن تيمية بين الحذر من جلساء السوء وعقوبتهم.
وإشاعة الحكم على الناس عقوبة لما فيها من إشانة السمعة.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما الحذر من الرجل في شهادته وأمانته ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى المعاينة؛ بل الاستفاضة كافية في ذلك، وما هو دون الاستفاضة، حتى إنَّه يستدلُّ عليه بأقرانه، كما قال ابن مسعود: "اعتبروا الناس بأخدانهم"، فهذا لدفع شرِّه، مثل الاحتراز من العدو. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "احترسوا من النَّاس بسوء الظن". فهذا أمر عمر، مع أنَّه لا تجوز عقوبة المسلم بسوء الظن) [١٤].
ولمزيد اطمئنان قلب القاريء الكريم على أن أقوال السلف والعلماء السابقة مستنبطة من النصوص؛ أذكر منها ما يلي؛
قال رسول الله ﷺ: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) [١٥].
وقال الله تعالى: ﴿ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون﴾.
والمعنى نفي أصل الإيمان عمن والى الكفار في الدين أو رضاً بدينهم.
ويشمل معنى الآية نفي كمال الإيمان عمن والى كفاراً بأمر دنيوي فيه ضرر على استقامته على الدين أو نصرته.
وتكفير كل من والى المشركين بهذه الآية غلو [١٦]، فكذلك من يبدع دون تحقيق وتمحيص.
ولا ينبغي التساهل في موالاة الكفار، فإنها من الكفر المحتمل، والكفر المحتمل من أعظم علامات النفاق، وإنما ذكر الله تعالى صفات المنافقين للحذر منهم.
وكذا لا ينبغي التساهل في مجالسة أهل البدع والحذر ممن يجالسهم، والحذر غير التحذير الجازم بالحكم، وقد يجب التحذير على سبيل التنبيه للحذر لا على سبيل الحكم على الناس.
وممّا يعين على الاعتدال في التصنيف بالمجالسة بمعنى الصحبة؛ التفريق بين حكم النوع وحكم العين.
فحكم النوع في جليس أهل البدع أنّه منهم، ولأنّ المجالسة قرينة ظنية، وجب اعتبار القرائن الأقوى عند التعيين.
يدل عليه تفاوت أثر الجليس السوء (إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة)، فتأثير الجليس المبتدع في السني ليس بأولى من العكس.
ومما يدلّ عليه أيضاً قول النبي ﷺ لمن اتّهم مالكاً رضي الله عنه بأنّه منافق: (لا تقل ذاك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله؟)، فقال الرجل: (الله ورسوله أعلم، أما نحن، فوالله لا نرى ودّه ولا حديثه إلّا إلى المنافقين) [١٧].
ففي قول النبي ﷺ: (يبتغي بذلك وجه الله) إشارةٌ إلى اعتبار قرائن أقوى من المجالسة، ومن ذلك ما يبدو على الرجل من آثار الصدق.
فنصنف جليس أهل البدع عند التعيين حسب حاله، فإمّا؛
١. أن نجهل حاله، ونعلم عنه فقط أنه ينتسب إلى السنة ويُجالس أهل البدع، فهذا يجب الحذر منه.
٢. أن نعلم أنه ينصر العقيدة والسنة، ولكنه يقلل من شأن انحرافات أهل البدع، أو يعظم زلات أهل السنة، أو يبغض أهل السنة، فهذا يعامل بحسبه.
فمجالسة المبتدعة توغر صدر مجالسهم على أهل السنة، لأن المبتدعة لا يألون جهداً في تعظيم زلات بعض السلفيين والتقليل من شأن انحرافات المبتدعة.
٣. أن نعلم أنه يقدم ولاءه لمن يجالسهم على ولائه للسنة ودعاتها فهذا مبتدع.
٤. أن نعلم أنه متمسك بالسنة ويقدم ولاءه للسنة وأهلها على من يجالسهم، فهذا سلفي غير أنه واقع في زلة عظيمة ويُخشى عليه.
فتضعف قرينة الصحبة في هذه الحالة بوجود قرائن أقوى منها، إذ تأثير البدعي في السني ليس بأولى من تأثير السني في البدعي، ولكن يقع التأثير ولو بالقليل؛ (إمّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
أمثلة واقعية لبيان حال الأصناف السابقة؛ مدونتي » سياسة واقتصاد » سلفي مؤتمري.
ولتجنب الغلو في التصنيف لابد من اعتبار أمور، منها ما يلي؛
التفريق بين مجالسة الصحبة وتكرار الجلوس لحاجة دينية أو دنيوية، كالجلوس المتكرر في فصل دراسي دنيوي مع زملاء فيهم فساق ومبتدعة، وأما المجالسة الواردة في الحديث فإنها تعني الصداقة.
ومنها؛ التفريق بين الحَذَرِ والتحذير في حق المعيَّن، فالتحذير حكم على المحذر منه، والتنبيه على الحذر تحذير غير مؤكد، بمعنى ترك الأمر لمن يعرف حال المحذر منه أو يمكنه معرفة حاله، وقد يحكم لنفسه ومن خبر مثل خبرته، فإبداء بعض الأحكام قد يؤدي إلى فتنة بسبب تعسر إثبات الدعوى.
ومنها؛ معرفة أن التحذير من معين إذا أدى إلى ضرر أعظم فإنه يجب تركه، وأن الحال قد يقتضي ترك التحذير لتأليفه أو تأليف أتباعه، وكلما كثر ابتعاد الناس عن آثار النبوة كلما كان التأليف أنفع من التحذير كالهجر.
ومنها؛ الفرق بين التحذير والهجر من جهة والتبديع من جهة أخرى، فمُطلق الهجر والتحذير لا يستلزم التبديع.
ولكن التحذير والهجر على طريقة غلاة التبديع يستلزم التبديع، وذلك لأن مقصد التبديع هو إماتة البدعة والتنفير منها، فحُكم المُبتدع في الآخرة قد يكون العُذر كمن شك في شيء من كمال قدرة الله عز وجل، وحكمه في الدنيا عدم اتخاذه جليساً، وإذا ترجحت المصلحة؛ هجره فيما دون ذلك والتحذير منه.
من أصابته فتنة الغلو في التحذير والتنفير والرودود من رؤوس أو عوام غلاة الجرح والتبديع فهو من أهل البدعة والفرقة وليس من أهل السنة والجماعة، لأنهم يوالون ويعادون على آرائهم ويفرقون بها بين أهل السنة ويفارقونهم بها.
ولكن لا يبدع كل من أصابه شيء من هذه الفتنة، وفرق بين من أصابته الفتنة ومن أصيب بشيء منها، فإن الفتن إذا وقعت لا يكاد يخلو أحد من إصابته بشيء منها، فوقوع تضليل وتبديع بغير حق خطأً أو لهوىً خفي عارض وارد من أفاضل الناس فضلاً عن غيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين; يوالون عليه ويعادون; كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك) [١٨].
وقال: (فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموماً معيباً ممقوتاً فهو مخطئ ضال مبتدع) [١٩].
والخوارج لم يخالفوا في ركن من أركان الإيمان ولا الإسلام ولا في قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وإنما جعلوا رأيهم السياسي الرافض للتحكيم أصلاً، بل جعلوا مجرد التحكيم مخالفاً لأصل الدين وهو التوحيد، فقالوا فيه لا حكم إلا لله.
فكفر الخوارج برأيهم في عدم جواز التحكيم، واستحلوا به الأموال والأنفس والأعراض، وفرقوا به جماعة المسلمين، فكان منشأ بدعتهم التعصب لرأيهم وعقد الولاء والبراء عليه.
فقد كان منشأ بدعة الخوارج التعصب، فتأوّلوا أوّلاً ثم أصروا فوقعوا في الكفر بتحريم ما أحل الله (التحكيم) فحكموا بغير ما أنزل الله، وكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
والتبديع لا يقتضي تأثيم أعيان المبتدعة، وإنما يقتضي تأثيم جملتهم دون تعيين عند ظهور الحجة والسنة.
فيفرق بين أحكام الدنيا والآخرة في التبديع، فعوام الإباضية مثلاً مبتدعة في أحكام الدنيا وحكم أعيانهم في الآخرة إلى الله تعالى.
تبديع المعيَّن بمجرد المخالفة إنمَّا يصحُّ إذا خالف في أحد أربعة أمورٍ، وأما القسم الخامس والسادس فلا يبدع بهما المعين إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع، والمخالفات هي؛
الأولى؛ المخالفة في أصول المعتقد بنقض ركن من أركان الإيمان أو الإسلام، كالمخالفة في أصل القدر أو أنّ دعاء المخلوق شرك أكبر.
الثانية؛ المخالفة في قاعدة كليّةٍ من قواعد الإسلام، أو المخالفة في جزئيات متعدّدة تعود على كلي بالنقض.
كالمخالفة في حجيّة إجماع الصحابة رضي الله عنهم من قواعد الاستدلال، والمخالفة في تفاوت الإيمان من قواعد العقيدة.
الثالثة؛ ويُعد من أهل البدعة والفرقة؛ من جعل مخالفته في أحد فروع المعتقد أصلاً عظيماً، يوالي عليها ويعادي، ويفرق بها جماعة المسلمين، ويكفرهم بمخالفتها، ويستحل بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم، كما تفعل الخوارج.
الرابعة؛ المخالفة في شارةٍ لأهل البدع لا يجهلها طالب علم في عصره ومصره كالقول بأنّ القرآن مخلوق.
فإن غلب الجهل في عصر أو مصر بشارةٍ لأهل البدع وكانت جزئيّة فرعيّة نسبيّاً (نسبة لأصول المعتقد)؛ فإنّ المخالفة فيها كالمخالفة في المخالفتين الخامسة والسادسة في اشتراط تحقّق شروط وانتفاء موانع للتبديع بها.
الخامسة؛ يُلحق جلساء أهل البدع بهم ما لم تمنع قرينة أقوى من مجرد المجالسة.
والمجالسة مأخوذة من كلمة الجليس الواردة في السنة، وتعني الصحبة والمودة.
السادسة؛ المخالفة الجزئيّة أو الفرعيّة نسبيّا (نسبةً لأصول المعتقد) يُنظر في أمر من خالف فيها، فقد تعدّ من الزلات والفلتات حتى ولو تعلّقت بأحد أركان الإيمان ما لم تنقضه.
من وقع في أحد المخالفات الأربع الأولى فهو مبتدع ضال في أحكام الدنيا حتى ولو كان مجتهداً معذوراً في الأحكام الأخروية.
ولذا يعد عوام الإباضية مبتدعة ضلالاً مع أن كثيراً منهم جهلة قد يكونون معذورين في أحكام الآخرة.
فيشترط للتبديع بالمخالفتين الخامسة والسادسة شروط، منها بيان الحجّة على وجه يغلب على الظن أنّ في إعراض المخالف عنها شيء من اتباع الهوى.
ومما يشترط لتبديع المخالف في بعض فروع المعتقد اعتبار مصالح ومفاسد التبديع بالنظر في؛ ضرر بدعته، وما يترتب على تبديعه.
معرفة الطريقة الصحيحة المعتدلة لتصنيف الناس من غير أصحاب البدع المغلظة والمجاهرين بالدعوة إلى البدع لمما يُعين على الحذر ومعرفة العدو من الصديق الأقرب فالأقرب.
فمما يعين على الاعتدال في تصنيف أمثال هؤلاء؛ التفريق بين هجر مجالسة أهل البدع وهجرهم فيما دون المجالسة.
فمن أسباب الاضطراب عدم التفريق بين أنواع هجر المبتدعة الأربعة التالية وجعل حكمها واحداً؛
١. هجر أهل البدع اجتماعياً.
٢. هجر مجالسة أهل البدع بمعنى اتخاذهم جلساء وأصحاب.
٣. هجر دروس أهل البدع ومجالسهم الدعوية والثناء عليهم.
٤. هجر أهل البدع بترك التعاون معهم.
٥. وسبب خامس، وهو عدم الإنصاف والتلاعب باللفظ.
هجر المبتدع والعاصي ينظر في مصلحته من ثلاث جهات؛
١. مصلحة المهجور لينزجر، كالثلاثة الذين خلفوا.
٢. مصلحة العامة لينزجروا عن متابعة المبتدع.
هاتان الجهتان متعلقتان بقوة أهل السنة وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإذا كانوا قلة ضعفاء فإنَّ الهجر فيما دون المجالسة عقوبة على أنفسهم وليس على أهل البدع.
ويشترط غلبة الظن بانتفاع المهجور بالهجر.
٣. مصلحة االهاجر لكيلا يتأثر بأهل البدع، وهذه لا تقتضي الهجر المطلق وإنما يكفي لها هجر المجالسة بمعنى الصحبة.
فهذا النوع من الهجر للزجر والتأديب، ولذا فهو حكم متغير منوط بعلل.
وجوب هجر دروس أهل البدع ومجالسهم الدعوية والثناء عليهم من أوضح ما يكون في أدلة الشرع والعقل.
ولا يشك عاقل أن ما ورد بخلاف ذلك استثناء منوط بالاحتياج أو الاضطرار، والحاجة تقدر بقدرها كالضرورة.
وفي الحديث؛ (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)، قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: (الأصاغر من أهل البدع) [٢٠].
والحق يُقبل من كل من قاله ولو كان قائله الشيطان، ولكن الحق لا يُطلب إلا من أهله، فلا أحد يقول بجواز طلب الحق من الشيطان.
فمن وجد حقاً عند كافر أو مبتدع دون سعي منه وطلب وجب عليه قبوله، ولكن الحق قد يلتبس على المُبتديء.
وهذا في غير العلوم الدنيوية والمعارف البشرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع) [٢١].
وترك النقل عمن يخفى حاله من أهل البدع أولى وكذا ترك الثناء عليه من تركه عمن حاله معلوم منهم.
فمطلق جواز النقل عن أهل البدع لغير سبب أو الثناء عليهم من غير تفصيل فيه غش لمن يجهل حالهم وتغرير العوام بهم وتزيين طريقتهم.
وأما استدلال العلماء ببعض كلام أهل البدع أو الثناء عليهم، فلا تكاد تجد شيئاً من ذلك إلا ومعه إشارةٌ إلى ما أخطؤوا فيه، والفرق بين هذا وبين تزيين طريقتهم وتعظيمهم واضح.
وفرق في ذكر محاسن أهل البدع بين مقام التقييم والترجمة ومقام الرد والتحذير.
ولذا لا يصح الاستدلال بكلام الذهبي رحمه الله تعالى على مطلق جواز ذكر محاسن أهل البدع، لأن كلامه في مقام الترجمة.
والعدل يقتضي ذكر محاسنهم في مقام التقييم والترجمة.
وأما في مقام التحذير والرد، فإن ذكر محاسنهم قد يكون فيه تشويش على الناس، وقد يلزم فيه ذكر محاسنهم، وذلك حسب الحال.
فالأمر متعلق بالحاجة والضرورة والتعذر.
قال ابن تيمية رحمه الله: (فإذا تعذَّر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك، إلا بمن فيه بدعة، مضرَّتها دون مضرَّة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس) [٢٢].
(ورواية السلف في الكوفة عن القدرية كانت للحاجة وخشية ضياع الحديث، ولا يصلح أن يكون هذا دليلاً على أن القدرية يكملون نقصاً في أهل السنة، ولا على إطلاق القول بأن القدرية يسدون ثغرات، ولا على أن وجودهم ظاهرة صحية وعدم جواز محاربتهم) [٢٣].
وحدة أهل القبلة الذين لهم حاكم مسلم يقيم أصل الدين (الشهادتين والصلاة) وعملهم السياسي الموحد يكون بطاعته في المنشط والمكره، ووحدة غيرهم كالأقليات المسلمة تكون بمثل مظلة لمراكز متمايزة، ويشمل المخالفون من جعلوا رأيهم المخالف للشرع أصلاً يوالون ويعادون عليه.
التعاون مع المخالفين منوط بالاحتياج لأنه محرم لغيره، ومنوط بالاضطرار إذا كان فيه ضرر.
والمخالفون ليسوا فقط من خالف في أصول المعتقد التي تنقض ركناً من أركان الإيمان أو الإسلام، أو القاعدة الكلية من قواعد الإسلام كإجماع الصحابة، أو الجزئيات العديدة التي تعود على قاعدة بالنقض.
من أمثلة فروع المعتقد؛ تحريم زواج المتعة، وقد اختلف فيه الصحابة رضي الله عنهم أولاً، فلم يبدع بعضهم بعضاً، لخفاء حكمه أولاً قبل أن يصير فرعاً عقدياً.
المخالفون يشملون من تعصبوا لآرائهم وجعلوها أصل دعوتهم وتمايزوا بها عن أهل السنة وعقدوا الولاء والبراء عليها.
وقد كان منشأ بدعة الخوارج التعصب لرأيهم السياسي الرافض للتحكيم، فجعلوه أصلاً عظيماً بجعل مخالفه مخالفاً للتوحيد الذي هو أصل الدين، وهو مرادهم بقولهم لا حكم إلا لله.
فالخوارج لم يخالفوا في أصل عقدي ناقض لركن من أركان الإيمان ولا الإسلام، وإنما كفروا برأيهم في عدم جواز التحكيم، واستحلوا به الأموال والأنفس والأعراض، وفرقوا به جماعة المسلمين.
فكان منشأ بدعتهم التعصب لرأيهم وعقد الولاء والبراء عليه.
فتأوّلوا أوّلاً ثم أصروا فوقعوا في الكفر بتحريم ما أحل الله (التحكيم) فحكموا بغير ما أنزل الله، وكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
فوحدة المسلمين تكون بما أجمع عليه أهل السنة من وجوب طاعة كل بر وفاجر وسني ومبتدع من الحكام المسلمين المقيمين لأصل الدين.
ووحدة غيرهم كالأقليات المسلمة تكون بمثل مجلس تنسيق للمراكز الإسلامية مع تمايز كلٍ بمراكزهم الخاصة.
وأما تجميع المختلفين في مركز يشمل مجاله ما يرونه أصلاً عظيماً مما اختلفوا فيه، فهو مما يزيد التفرق والتنازع مع مخالفته لمنهج أهل السنة والجماعة.
وقد تشققت المجموعات التي دعت لتوحيد المسلمين بهذه الطريقة في نفسها، فأنّى لها توحيد أهل القبلة؟
وأما مخالفة هذا السبيل للمنهج فلأنه يؤدي إلى التنازل وترك بيان الطرق المبتدعة في الدين.
والتعاون مع المخالفين مدنياً يُقصر على مواقف مشتركة ومنظمات مجالاتها مشتركة كالنقابات، ولا تترك لأجلهم المنظمات العامة كمجامع الفقه الحكومية ونحوها مما يجب فيها مزاحمة الباطل.
فيجب التمايز في المنظمات المدنية التي تتزاحم فيها خلافات أصولية مع مشتركات أهل القبلة، كالدعوية والسياسية.
والمنظمات المدنية التي يجوز أن تكون مشتركة مع أهل البدع هي التي تكون متخصصة في المسائل المشتركة.
والاشتراك قد يكون بين الناس عامة كاتحادات الطلاب ونقابات العمال أو بين المسلمين خاصة، وذلك لأن القضايا المشتركة إما أن تكون دينية أو دنيوية.
ويجب السعي في الحفاظ على طبيعة التجمعات الخدمية ومنع الأحزاب السياسية من استغلالها في صراعاتهم السياسية.
وأما التنظيمات الدعوية والسياسية فعملها يحوي مسائل غير مشتركة، ومنها ما فيه خلاف أصولي مع أهل البدع، فلا يجوز الدخول مع أهل البدع في مثل هذه التنظيمات المدنية.
وكل تنظيم يشمل مجاله مسائل أصولية غير مشتركة أو يراها المخالفون أصولية، فمصيره إما إلى الفشل أو مجاراة المخالفين، وقد دلت على ذلك التجربة والعقل المجرد مع دلالة الشرع وأقوال السلف عليه.
ولذا لما سئل الشيخ الألباني رحمه الله عن حركة الجهاد الإسلامي الإرتري، أجاب بأن التجارب المعاصرة قد دلت على أن مصير هذه التحالفات إلى فشل، وهذا ما حدث فعلاً في هذه الحركة.
وقد حدث الفشل أيضاً في السودان في جبهة الميثاق الإسلامي التي أسسها أنصار السنة والإخوان المسلمون، وبعدها قطع الشيخ الهدية رحمه الله بألا يكرر التجربة.
ولا يزال بعض يلبس على الناس، ومن ذلك نشر بعضهم كلاماً لعلماء حول التعاون مع أهل البدع وذكر محاسنهم والسكوت عن بعضهم، فهؤلاء الناشرون يضعون كلام هؤلاء العلماء في غير موضعه.
والعالم قد يخطئ في التعبير عن مراده لإعياء أو تعب أو لتأكيد أمر في ظرف خاص ونحو ذلك من الأسباب، ولذا قال الفقهاء؛ لازم المذهب ليس بلازم حتى يلتزمه صاحبه، قالوا لأنه قد يغفل عن لازم قوله.
فإذا كان السلف قد نهوا عن مطلق الجلوس مع أهل البدع من باب الهجر، فمن باب أولى النهي عن التعاون معهم بدون احتياج أو اضطرار، وذلك لأن الأصل محاربة البدعة وأهلها.
والحاجة تقدر بقدرها كالضرورة، دون حجر وتضييق ولا توسع وتساهل، بل كلما ضاق الأمر اتسع وكلما اتسع ضاق.
رجوع إلى قائمة المحتويات٥. وأما مسألة إنصاف المبتدعة، فهي مهمة عند الترجمة والتعريف والتقييم، ولأن كلام الذهبي رحمه الله تعالى في مقام الترجمة؛ نجد فيه توسعاً في ذكر محاسن المبتدعة.
أما مقام التحذير؛ فلا يحسن فيه ذكر محاسن المبتدعة لما في ذلك من تزيين طريقتهم.
ومن تسمية الأمور بغير أسمائها تسمية تعظيم المبتدعة بمدحهم عدلاً وإنصافاً.
وقد كتبتُ في رد شبهات المتساهلين والغلاة في التبديع إضافة إلى هذا المقال المقالات التالية؛
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
عمر عبداللطيف محمد نور
السبت ٧ محرم ١٤٣٨هـ، ٨ أُكتوبر ٢٠١٦م
لوند، السويد
السبت ٧ محرم ١٤٣٨هـ، ٨ أُكتوبر ٢٠١٦م
لوند، السويد
[١] إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (ص٧٥٥)، [الكتاب مرقم آليا، دروس مفرغة].
[٢] طبقات الحنابلة (ج١/ص١٦٠)، تحقيق؛ محمد حامد الفقي، دار المعرفة - بيروت
[٣] أخرجه البخاري (٥٢١٤)، ومسلم (٢٦٢٨).
[٤]أخرجه أبو داود (٤٨٣٣)، والترمذي (٢٣٧٨)، وأحمد (٨٣٩٨) واللفظ له، وقال الألباني في هداية الرواة (ج٤/ص٤٤٢): إسناده حسن.
[٥] الولاء الشرعي.
[٦] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٢٠٦)، مجمع الملك فهد، ١٤١٦هـ/١٩٩٥م.
[٧] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٢٨/ص٢٠٦)، الطبعة السابقة.
[٨] حكم المرتد.
[٩] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٥١٠-٥١١)، الطبعة السابقة.
[١٠] الإبانة الصغرى ص١٥٦.
[١١] الإبانة الكبرى (ج٢/ص٤٥٢).
[١٢] الإبانة الكبرى (ج٢/ص٤٧٩).
[١٣] الإبانة الكبرى لابن بطة (ج٢/ص٤٧٣)، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض.
[١٤] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٣٧٢)، الطبعة السابقة.
[١٥]أخرجه أبو داود (٤٨٣٣)، والترمذي (٢٣٧٨)، وأحمد (٨٣٩٨) واللفظ له، وقال الألباني في هداية الرواة (ج٤/ص٤٤٢): إسناده حسن.
[١٦] الولاء الشرعي.
[١٧] صحيح البخاري (١١٨٦) (ج٢/ص٥٩) - البخاري (ت ٢٥٦) - ط السلطانية.
[١٨] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٣/ص٣٤٨)، الطبعة السابقة.
[١٩] مجموع الفتاوى (ج١١/ص١٥)، الطبعة السابقة.
[٢٠] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (ص١/ج٩٥).
[٢١] اقتضاء الصراط المستقيم (ج١/ص٥٤٣).
[٢٢] الفتاوى (ج٢٨/ص٢١٢).
[٢٣] منقول من؛ مدونتي » شبهات وردود » الإخوان بين اليوسف والمدخلي وأنصار السنة.
[٢] طبقات الحنابلة (ج١/ص١٦٠)، تحقيق؛ محمد حامد الفقي، دار المعرفة - بيروت
[٣] أخرجه البخاري (٥٢١٤)، ومسلم (٢٦٢٨).
[٤]أخرجه أبو داود (٤٨٣٣)، والترمذي (٢٣٧٨)، وأحمد (٨٣٩٨) واللفظ له، وقال الألباني في هداية الرواة (ج٤/ص٤٤٢): إسناده حسن.
[٥] الولاء الشرعي.
[٦] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٢٠٦)، مجمع الملك فهد، ١٤١٦هـ/١٩٩٥م.
[٧] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٢٨/ص٢٠٦)، الطبعة السابقة.
[٨] حكم المرتد.
[٩] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٥١٠-٥١١)، الطبعة السابقة.
[١٠] الإبانة الصغرى ص١٥٦.
[١١] الإبانة الكبرى (ج٢/ص٤٥٢).
[١٢] الإبانة الكبرى (ج٢/ص٤٧٩).
[١٣] الإبانة الكبرى لابن بطة (ج٢/ص٤٧٣)، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض.
[١٤] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٣٧٢)، الطبعة السابقة.
[١٥]أخرجه أبو داود (٤٨٣٣)، والترمذي (٢٣٧٨)، وأحمد (٨٣٩٨) واللفظ له، وقال الألباني في هداية الرواة (ج٤/ص٤٤٢): إسناده حسن.
[١٦] الولاء الشرعي.
[١٧] صحيح البخاري (١١٨٦) (ج٢/ص٥٩) - البخاري (ت ٢٥٦) - ط السلطانية.
[١٨] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٣/ص٣٤٨)، الطبعة السابقة.
[١٩] مجموع الفتاوى (ج١١/ص١٥)، الطبعة السابقة.
[٢٠] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (ص١/ج٩٥).
[٢١] اقتضاء الصراط المستقيم (ج١/ص٥٤٣).
[٢٢] الفتاوى (ج٢٨/ص٢١٢).
[٢٣] منقول من؛ مدونتي » شبهات وردود » الإخوان بين اليوسف والمدخلي وأنصار السنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق