وقفات مع مقال عن التمايز بين السلفية والحركات الإسلامية

رجوع إلى قسم شبهات وردود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
كتبت سميه بنت راشد الغنوشي مقالاً بعنوان؛ التمايز بين الوهابية والحركات الإسلامية منافعهُ أكثر من مضاره، تشتكي فيه الكاتبة تأثير السلفية في حركة الإخوان المسلمين، ولي مع مقالها ثلاث وقفات؛ الوقفة الأولى؛ في قولها بأن تأثير "الوهابية" في ما أسمته بالحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون التنظيم العالمي ومن انشق عنه) هو تأثير جديد بدأ باحتضان الملك المرحوم فيصل عدداً من قيادات الإخوان خلال صدامهم مع عبد الناصر.
فهذا التأريخ لبداية تأثر الحركة الإسلامية بالسلفية غير دقيق، فقد صنفت الكاتبة رشيد رضا رحمه الله من آباء الإصلاح الاسلامي على حد تعبيرها، واعتبرت العودة إلى تراث رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بمثابة العودة الى أساس النشأة فيما أسمته ميراث الحركة الإصلاحية، والشيخ رشيد رضا رحمه الله - رغم ما يُؤخذ عليه من زلات بسبب تتلمذه على محمد عبده رحمه الله مؤسس ما يُعرف بالمدرسة العقلية - إلا أنه كان من دعاة التوحيد والسنة، ويُقال إنَّ حسن البنا رحمه الله مؤسس جماعة الإخوان المسلمين والذي تتلمذ على الشيخ رشيد رضا رحمه الله سمَّى جماعته بالإخوان تأسياً بالإخوان الذين ناصروا الملك عبد العزيز رحمه الله مؤسس الدولة السعودية الثالثة، ويُكثر رشيد رضا رحمه الله من الاستدلال بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
وقد قال رشيد رضا الذي اعتبرته الكاتبة من آباء الإصلاح الإسلامي في مجلته الشهيرة "المنار" في سلسلة مقالات جمعها في كتاب: (إن الوهابية لم يدَّعوا أنهم هم الموحدون وحدهم وأن غيرهم من جميع المسلمين مشركون كما افترى عليهم هذا الرافضي المتعصب وغيره، بل لم يدَّعوا أنهم فرقة أو أهل مذهب مستقل حتى يصفوا أنفسهم بوصف من دون سائر المسلمين، وإنما يقولون كما يقول غيرهم من العلماء بتوحيد الله الذي دعت إليه جميع رسله) [1].
وعبارة؛ "فلنجتمع فيما اتفقنا فيه، وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" المنسوبة إلى حسن البنا رحمه الله هي عبارة رشيد رضا رحمه الله، وبما أن رشيد رضا كان من دعاة التوحيد والسنة، فإنه لم يقصد بالعبارة ما قصده حسن البنا من هذه العبارة، ولا شك أن العبارات تُفهم من حال قائليها، فقول الخوارج "لا حكم إلا لله" غير قول أهل السنة هذه العبارة، وكذا قول المعتزلة أن من أصول دعوتهم التوحيد غير قول أهل السنة.
فإن قيل إن رشيد رضا قال تلك العبارة في شأن الشيعة، فيقال نعم، ولكنه رحمه الله تعالى كتب ردوداً على الشيعة بين فيها بطلان مذهبهم، مما يعني أنه لم يقصد بتلك العبارة إهمال الرد عليهم ولا ترك بيان انحراف منهجهم مثلما فعل تلميذه حسن البنا، قال رشيد رضا في إطار رده على الشيعة؛ (وأما رأيي في الاتفاق فهو قاعدة المنار الذهبية التي بيناها مراراً وهي؛ "أن نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما نختلف فيه") [2].
ورغم ما قد يبدوا في كلام رشيد رضا رحمه الله تعالى من دعوة إلى ما يسمى بالتقارب بين الشيعة والسنة إلا أنه قال في الصفحة التالية للكلام السابق: (هذا، وإننا لا نعرف أحداً من علماء أهل السنة المتقدمين ولا المعاصرين يطعن في أحد من أئمة آل البيت عليهم السلام، كما يطعن هؤلاء الروافض في الصحابة الكرام، ولا سيما أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي أئمة حفاظ السنة كالبخاري ومسلم، وكذا الإمام أحمد إمام السنة وشيخ كبار حفاظها وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي وابن حجر وغيرهم، فإنهم يعدونهم من النواصب لعدم موافقتهم لجهلة الروافض).
وهذا مما يؤكد أنه قصد بالتعاون والإعذار؛ التعاون في الخير المتفق عليه والإعذار الأخروي في المختلف فيه، وهي دعوة إلى التعايش السلمي ووقف العدائيات والتكفير، ولكنها دعوة تتضمن دعوة الشيعة عموماً بالتي هي أحسن إلى منهج الحق والعدل والذي هو منهج أهل السنة والجماعة.
فالإعذار هنا يجب أن يُحمل على الإعذار الأخروي الذي لا يُفرق فيه بين العقيدة والشريعة والأصول والفروع في حق الجاهل والمتأول بدليل الرجل الذي شك في قدرة الله عز وجل فأدخله الله الجنة، وليس المقصود به عدم تبديع الشيعة الروافض كما قد يتوهم البعض.
وقد وُجد في جماعة الإخوان منذ نشأتها من هو أقرب إلى السنة من المؤسِّس، ولاشك أن هؤلاء كان لهم تأثير داخل جماعة الإخوان المسلمين، ومن الأمثلة والد الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق اليوسف، فقد كان يعمل مع حسن البنا رحمه الله حسب قول ابنه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق اليوسف حفظه الله تعالى، فقد تمكن حسن البنا من استمالة بعض من هو أقرب إلى السنة إلى جماعته، وقد قال حسن البنا رحمه الله عن جماعته ما معناه أنها؛ جماعة سلفية وطريقة صوفية، ونادي رياضي،  ... إلى آخر ما قال.
ويُقال إن عبد الخالق اليوسف رحمه الله والد الشيخ عبد الرحمن هاجر من مصر إلى المدينة بسبب تحكيم الشريعة في السعودية، تصريح الابن عن الأب بأنه كان يعمل مع حسن البنا ذكرتُهُ موثقاً برابط من صفحة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق اليوسف حفظه الله تعالى في مقال لي في؛ مدونتي » شبهات وردود » الإخوان المسلمين بين اليوسف والمدخلي وأنصار السنة..
بل حتى محمد عبده رحمه الله مؤسِّس ما عُرف بالمدرسة العقلية - ومع بُعده الأكثر عن المنهج السلفي - إلا أنه كان كثيراً ما يستدل بأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وقد صنفت الكاتبة محمد عبده كأحد آباء الإصلاح الإسلامي مع رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده هو تلميذ جمال الدين الأفغاني، وتتلمذ رشيد رضا على محمد عبده وتأثر ببعض أخطائه، وقد توفي محمد عبده رحمه الله سنة 1905م مع بدايات سيطرة الملك عبد العزيز رحمه الله على أجزاء من السعودية الحالية.
ولتأثر المدرسة الإخوانية منذ نشأتها بكتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وبمحمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى، نجد أن بعض كبار الإخوان المسلمين قد  خالف موقف المؤسس والأكثرية منذ بدايات التأسيس في الموقف من الشيعة الروافض، من أشهر من خالف جماعة الإخوان المسلمين في الموقف من الشيعة الروافض من القيادات مصطفى السباعي وسعيد حوى رحمهما الله تعالى.
أما المؤسس فقد اقتصر على السياسة وكأنها غاية لا وسيلة، ودعا إلى إعادة الحُكم بالإسلام مجملاً مع جهلٍ بأن أولى الواجبات في الحُكم بالإسلام؛ الدعوة إلى الشهادتين ثم إقامة الصلاة، وجهل بأن الدعوة إلى مسائل الإيمان والتوحيد التي خالف فيها أهل البدع داخلة في العناية بالشهادتين، فركز على إعادة أيام الحُكم والعزة وطرد المستعمرين، وأهمل ماعدا ذلك مهما كان مهمًا، وصرّح بذلك في كلماته وكُتبه، وحرص على التجميع بين أهل السنة والمبتدعة، واغترَّ بفكرة التقريب بين السنة والشيعة.
وتبِع المؤسس أكثر الإخوان المسلمين في الموقف من الشيعة الروافض، وظلَّ هذا هو المنهج الذي يتبناه التنظيم العالمي وكثير ممن خرج عنه، عدا أصوات خافتة داخل التنظيم وخارجه من المنتسبين إلى ما يُسمى بالحركة الإسلامية، ثم اختلفوا مع الرافضة اختلافاً سياسياً عقب أحداث سوريا بعد ظهور حقيقة الروافض لعوام المسلمين، ولا يزال البعض ومنهم الكاتبة فيما يبدو يعترض على هذا التغيير في جماعة الإخوان أو من انشق عنها، وكان هذا هو موقف والدها إلى وقتٍ قريب، ولعله لا يزال هو موقفه إلى هذه اللحظة.
والوقفة الثانية؛ تتعلق بقول الكاتبة؛ "المنهج التكفيري الراسخ في المدرسة الوهابية"، وأنا لا أنفي وجود أخطاء إما غير مقصودة في إطلاقات نقلت عن الإمام محمد بن عبد  الوهاب رحمه الله وبعض أئمة الدعوة، أو قُصد بها ظرف معين أو أخطاء حقيقية، وقد قرر العلماء أن "زلة العالم مما يهدم الدين".
ولكن التكفير والتشدد الذي وجد قبولاً في بعض المجتمعات السلفية بسبب هذه الزلات جاء من حركة الإخوان، فجماعة الجهيمان التي أفسدت في الحرم المكي في بداية الثمانينات تأثرت بجماعة التكفير والهجرة التي خرجت من الإخوان، وصرح القرضاوي أنه بلغه أن أبوبكر البغدادي كان مع الإخوان، وابن لادن كان صديق عبد الله عزام الذي كان مع الإخوان، ويوجد تسجيل للظواهري فيه أن ابن لادن كان مبايعاً للإخوان، وأيمن الظواهري كان مع الإخوان، ويُقال إن مؤسس بوكو حرام تتلمذ على مرشد الإخوان في نايجيريا.
والسروريون والقطبيون لهم غلو في تكفير الحُكام، والسروريون والقطبيون لهم صلة مباشرة أو غير مباشرة بالإخوان، وفي السودان يعلم الجميع بمن في ذلك أجهزة الدولة من أين يخرج الفكر التكفيري الجهادي، ومن الفروق المهمة بين السروريين والقطبيين من جهة والجهاديين من جهة أخرى؛ اشتراط القدرة في الجهاد والخروج على الحُكام، فالسروريون يشترطون القدرة، ولكنهم الطريق المُباشر إلى الغلو كما دلت على ذلك التجارب.
والوقفة الثالثة؛ تتعلق بمحاولة الكاتبة إنكار أن ما أسمته بالحركات الإسلامية وهي جماعة الإخوان ومن خرج عنها أو تأثر بها لا يهتمون بالعقيدة، فإذا قصدت بالعقيدة المسائل العقدية التي أجمع عليها أهل القبلة، فلا شك أن الإخوان لهم اهتمام بها، فهم يحاربون الإلحاد والعلمانية، ويؤمنون في الجملة بأسس العقيدة الإسلامية أركان الإيمان الستة، ويتحدثون عن الجنة والنار ونحو ذلك من مسائل الإيمان باليوم الآخر، وغير ذلك من أمور العقيدة، ولكن من يقول الإخوان لا يهتمون بالعقيدة لا يقصدون هذه المسائل المجمع عليها، والكل يعلم ماذا يقصد من ينتقد الإخوان في عدم اهتمامهم بالعقيدة.
فعدم اهتمام الإخوان بإصلاح الانحرافات العقدية في المسلمين أمر معلوم ومدون في كتبهم، سواء كان في توحيد العبادة أو الأسماء والصفات أو غير ذلك، فعلى سبيل  المثال؛ قال صاحب كتاب "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ": (كنا نجتمع في دور الإخوان السني والإباضي والشيعي، ولا يجرح أحدنا في شعور الآخر، والكل يعمل  من أجل الإسلام المضيع)، فأي إسلام مضيع يعملون له مع الشيعة والإباضية؟ وكيف لا يجرح أحد شعور الآخر من غير تنازل؟ والأدهى من ذلك محاولة الكاتبة القول بأن هذا النقد لجماعة الإخوان نشأ بعد أحداث ما يُسمى بالربيع العربي والأحداث السياسية الأخيرة!
فهذه الجماعة وكثيرٌ من الجماعات التي انشقت عنها أو تأثرت بها فيها انحراف إما في منهج الدعوة أو في منهج الإصلاح عموماً عن منهج الرسل ومنهج أهل السنة والجماعة أو في غيرها من المسائل المتعلقة بالعقيدة، ففي منهج الدعوة مثلاً فإن هذه الجماعة وكثير ممن تفرع عنها أو تأثر بها يُهمل أو يُقلل من شأن الدعوة إلى التوحيد والسنة، فلا يجعلون محاربة مظاهر الشرك في المسلمين أولى أولياتهم، ولا يجعلون محاربة البدع العقدية أو العملية في المسلمين من اهتماماتهم.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربَّ العالمين.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند السويد
2 شوال 1438هـ، 26 يونيو 2017م

المصادر

[1] رسائل السنة والشيعة لرشيد رضا (ج1/ص73)، الناشر؛ دار المنار، القاهرة الطبعة الثانية، 1366 هـ - 1947م
[2] رسائل السنة والشيعة لرشيد رضا (ج2/ص117)، الطبعة السابقة.

رجوع إلى قسم شبهات وردود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق