حكم الأخذ من اللحية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه الغر الميامين.
اللحية هي الشعر الذي ينبت على الجزء من الفك السفلي المنتهي بما فوق الأضراس السفلى قليلاً، وما فوق ذلك هما العارضان.
وذلك لأن اللحية من اللحيين، وهما العظمان اللذان عليهما الأسنان، ولذا قال النووي رحمه الله بأن للعارضين حكم اللحية، مما يدل على أنه يرى أنهما ليسا من اللحية لغةً.
حلق اللحية محرم بالنصوص والإجماع، والصحيح تحريم تخفيفها بدلالة النصوص، فالأحاديث الصحيحة في اللحية وردت بألفاظ متعددة كلها صريحة في تحريم حلقها وتخفيفها؛ أعفوا ووفروا وأوفوا وأرخوا وأرجوا.
والراجح جواز أخذ ما شذ بطول مفرط أو تطاير مع إبقاء وفرتها لعدم مخالفة النصوص وفعل السلف، فأخذ الشاذ لا ينافي لغةً الإعفاء والتوفير والإيفاء والإرخاء والإرجاء ولما ورد عن السلف.
ويكره تزيين اللحية لأنه يؤدي إلى تخفيفها.
وللعارضين حكم اللحية لاتصالهما بها وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه مُخفف لما ورد عن السلف.
ورواية اتركوا اللحى لا أصل لها.
ولكن الإعفاء يأتي بمعنى الترك ويأتي بمعنى التكثير والإطالة، ولذا ولما نقل عن السلف اختلف العلماء في الأخذ من اللحية.
فمنهم من منع أخذ شيء منها بإطلاق، ومنهم من أجاز أخذ ما زاد عن القبضة، ومنهم من أجاز أخذ ما شذ بطولٍ مفرط أو تطاير، ومنهم من أجاز الأخذ من العارضين واللحية، ومنهم من خص الأخذ من العارضين وما زاد عن القبضة بالحج.
قال ابن منظور رحمه الله: (عفا القومُ: كَثُروا، وفي التنزيل: {حَتَّى عَفَوْا} أي: كثُروا، وعفا النَّبتُ والشَّعرُ وغيره، يعفوُ، فهو عافٍ: كثُرَ وطال، وفي الحديثِ: أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أمرَ بإعفاءِ اللِّحى، هو أن يوفَّرَ شعرُها ويُكَثَّ، ولا يُقَصَّ كالشَّوارب، مِن: عفا الشيءُ: إذا كثُرَ وزاد) [1].
وتعدد طرق الحديث وألفاظه يفيد في فقهه لشرح بعضها بعضاً ولجواز رواية الحديث بالمعنى.
فيترجح في الإعفاء أنه التكثير والإطالة لفهم السلف وموافقته لمعاني الألفاظ الأخرى؛ فالتوفير يعني التكثير، والإيفاء يعني الإتمام وعدم النقصان، والإرخاء يعني الإطالة والسدل، والإرجاء يعني التأخير، والمعنى أخِّرُوها عن الإحفاء، لأنه أمر بإرجاء اللحية بعد أمره بإحفاء الشوارب.
يترجح أن القول بجواز أخذ الشاذ من اللحية هو قول ابن عمر رضي الله عنهما، وذلك لأن أخذ ما زاد عن القبضة يعني جواز ذلك.
وقد روى البخاري وغيره أثر ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه؛ (وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه[2].
ولو كان هذا حراماً في غير الحج لما جاز في الحج، وقد ورد أخذ ما زاد عن القبضة في غير الحج عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فقد روى الخلال وابن أبي شيبة عن أبي زرعة بن جرير قال: (كان أبو هريرة يقبض على لحيته، ثم يأخذ ما فضل عن القبضة)، قال الألباني رحمه الله تعالى: (وإسناده صحيح على شرط مسلم) [3].
وصح القول بالأخذ من العارضين في الحج عن ابن عباس رضي الله عنهما، وورد الأخذ منهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (التفث؛ حلق الرأس، وأخذ من الشاربين، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة والمزدلفة) [4]، صحح إسناده الألباني رحمه الله تعالى [5].
قال شيخنا الألباني رحمه الله تعالى: (قلت: وفي هذه الآثار الصحيحة ما يدل على أن قص اللحية، أوالأخذ منها كان أمراً معروفاً عند السلف، خلافاً لظن بعض إخواننا من أهل الحديث الذين يتشددون في الأخذ منها، متمسكين بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وأعفوا اللحى)، غير منتبهين لما فهموه من العموم أنه غير مراد لعدم جريان عمل السلف عليه وفيهم من روى العموم المذكور، وهم عبد الله بن عمر، وحديثه في الصحيحين، وأبو هريرة، وحديثه عند مسلم) [6].
والراجح عدم جواز الأخذ من اللحية إلا ما شذ لدلالة النصوص، فرواية اللحية التي استند عليها شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في أثر ابن عباس رضي الله عنهما تُفسر برواية العارضين، وكذا ما روي عن بعض التابعين إما أنه روي بالمعنى على فهم من روى عنهم أو أن هؤلاء التابعين فهموا من جواز الأخذ من العارضين جواز الأخذ من اللحية وهذا غير لازم لأن العارضين ليسا من اللحية لغةً.
وأما اصطلاحاً؛ فللعارضين حكم اللحية لاتصالهما بها وفعل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف، ولكنه مخفف لما ورد عن السلف، فيجوز فيهما الأخذ، ولا يجوز في اللحية غير أخذ الشاذ.
وحول القول بأن ما ورد عن ابن عمر رضي  الله عنهما من أن أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية خاص بالحج؛ قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (وفي أخذِ ابنِ عمَرَ مِن آخِرِ لحيتِه في الحَجِّ دليلٌ على جوازِ الأخذ من اللحيةِ في غير الحَجِّ؛ لأنَّه لو كان غيرَ جائزٍ ما جاز في الحَجِّ ... وابن عمر روى عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (وأعفُوا اللِّحى) وهو أعلَمُ بمعنى ما روى) [7].
ومع أن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها) [8] ضعفه أكثر علماء الحديث إلا أنَّ ابن تيمية رحمه الله تعالى استدل به على جواز أخذ ما زاد عن القبضة وتطايل، ولعل سبب ذلك احتمال أن يكون ما ورد عن الصحابة لسنة.
وقد قال بجوازِ أخذ ما شذ من اللحية عدد من أهل العلم؛ منهم الإمام مالك، والإمام أحمد، وعطاء، وابن عبد البر، وابن تيمية رحمهم الله جميعاً؛ فمنهم من نص على أخذ ما زاد عن القبضة، ومنهم من أطلق القول بأخذ ما شذ بطول مفرط أو تطاير.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (لا بأس أن يؤخذ ما تطايل من اللحية وشذ، قال: فقيل لمالك: فإذا طالت جداً؟ فإن من اللحى ما تطول، قال: أرى أن يؤخذ منها وتقصر) [9].
وقال إسحق رحمه الله: (سألتُ أبا عبد الله عن الرجُلِ يأخذ من عارِضَيه؟ قال: يأخذُ مِن اللِّحيةِ ما فضلَ عن القبضة، قلتُ: فحديثُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أحفُوا الشَّوارِبَ وأعفُوا اللِّحى) قال: يأخذُ مِن طولِها ومن تحت حَلقِه، ورأيت أبا عبد الله يأخذُ من عارِضَيه ومن تحتِ حَلقِه) [10].
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وأما إعفاء اللحية فإنه يترك، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه كما تقدم عن ابن عمر، وكذلك أخذ ما تطاير منها) [11].
وقال ابن بطَّال رحمه الله: (قال عطاء: لا بأسَ أن يأخُذَ مِن لحيتِه الشيءَ القليلَ مِن طولِها وعَرضِها إذا كثُرَت) [12].
وقال القاضي عياض رحمه الله: (يكره حلقها وقصها وتحريقها، وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، وتكره الشهرة في تعظيمها كما تكره في قصها وجزها. قال: وقد اختلف السلف هل لذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد شيئاً في ذلك إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جداً، ومنهم من حدد بما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة) [13].
فإن قيل كيف يقال بوجوب إعفاء اللحية مع أن العلماء قد نصوا على أن مخالفة الكفار في المشترك من العادات مستحبة وليست واجبة؟ فجوابه هو أن الأمر بمخالفة الكفار يكون للوجوب إذا ورد في نص آخر مطلقاً من غير تعليل بالمخالفة، وذلك لأن الإطلاق أحياناً يدل على أن الأمر بالإعفاء مراد لذاته مع ما فيه من تحقيق المُخالفة في المُشترك، وقد ورد الأمر بإعفاء اللحية مقروناً بالأمر بالمخالفة أحياناً وورد مطلقاً أحياناً أُخرى، وللمزيد حول أحكام المخالفة؛ مدونتي » مسائل وأحكام » مخالفة الكفار وترك مجالستهم.
فمن النصوص التي ورد فيها الأمر بإيفاء اللحية مقروناً بالأمر بالمخالفة الحديث المتفق عليه؛ (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)، ومما ورد فيه الأمر بإعفاء اللحية مطلقاً من غير اقترانه بالأمر بالمخالفة ما رواه البخاري؛ (انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى) [14].
والخلاصة هي أن حلق اللحية وتخفيفها حرام بالنصوص الصريحة، وأن الأخذ من اللحية بأخذ الشاذ بطولٍ مفرطٍ أو تطايرٍ جائز بشرط إبقائها وافرة كثيرة إذا كانت كذلك بطبيعتها، والإفراط في تزيينها يؤدي إلى تخفيفها وهو محرم، وللعارضين حكم اللحية في تحريم الحلق إلا أن حكمهما مخفف في الأخذ منهما.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
يوم الجمعة 4 ذو الحجة 1438هـ، الموافق 4 سبتمبر 2017م

قائمة المراجع

[1] لسان العرب (ج15/ص75)، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة.
[2] صحيح البخاري (ج7/ص160)، تحقيق؛ محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر؛ دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ
[3] السلسلة الضعيفة (ج١٣/ص‏٤٤٠)، دار المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ / 1992م.
[4] تفسير الطبري (ج18/ص612)، [الحج : 27]، تحقيق؛ أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ - 2000م.
[5] السلسلة الضعيفة (ج5/ص376-377)، الطبعة السابقة.
[6] السلسلة الضعيفة (ج5/ص378)، الطبعة السابقة.
[7] الاستذكار (ج4/ص317)، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ.
[8] رواه الترمذي وقال فيه؛ غريب، وحسنه ابن حجر رحمه الله في تخريج مشكاة المصابيح.
[9] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (ج24/ص145)، تحقيق؛ العلوي والبكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387هـ
[10] الوقوف والترجل من مسائل الإمام أحمد (ج1/ص129)، تحقيق؛ سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية الطبعة الأولى.
[11] شرح العمدة في الفقه (ص236)، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى.
[12] شرح صحيح البخارى لابن بطال (ج9/ص147)، تحقيق؛ أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية.
[13] شرح النووي على مسلم (ج3/ص151)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392.
[14] صحيح البخاري (ج7/ص160)، تحقيق؛ محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر؛ دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ.
pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق