حكم البوفيه

الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
سبب جواز البوفيه هو انضباط المأكول بالعادة في سد حاجة المُشتري الواحد وبالمتوسط العام المعتاد لمقدار ونوع طعام مجموع المُشترين، وليس لأن الجهالة يسيرة ولا لعدم إمكان التحرز منها ولا لتعسر تحديد مقدارها.
وذلك للتفاوت الكبير في أنواع الطعام، ولأن المشتري يختار منها بنسب متفاوتة، ولاختلاف المقدار حسب شدة الجوع ومشقة العمل قبل الأكل.
الجهالة من مفسدات البيع بالإجماع، فيحرم ما تضمن جهالة نوع أو مقدار أو وصف أو أجل أو قدرة على تسليم العين.
وتُستثنى ثلاث حالات؛ الجهالة اليسيرة، وما تتعذر أو تتعسر معرفته، وقضاء حاجة بأعيان تنضبط بالعادة والعُرف أو الاتفاق.
فكما تكون المعلومية بالعين والمقدار والوصف؛ تكون بالعادة في قضاء حاجة، دفعاً للنزاع وحفظاً للحقوق وتحقيقاً للمصالح ورفعاً للحرج والمشقة، ويُقدر سعر قضاء الحاجة بالعرض والطلب، ويُرَدُّ ضابطها عند النزاع إلى العُرف مع اعتبار ثمنها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:  (والغرر إذا كان يسيراً، أو لا يمكن الاحتراز منه، لم يكن مانعاً من صحة العقد)[1].
وقد نصّ ابن القيِّم رحمه الله تعالى على جواز المنضبط بالعادة مما أسماه منافع الأعيان (قضاء حاجة بأعيان)، فقال: (فأما إذا كان شيئاً معروفاً بالعادة كمنافع الأعيان بالإجارة مثل منفعة الأرض والدابة، ومثل لبن الظئر المعتاد، ولبن البهائم المعتاد، ومثل الثمر والزرع المعتاد، فهذا كله من باب واحد وهو جائز) [2].
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى ما سبق بعد أن رجَّح جواز إجارة الشاة أو البقرة أو الناقة مدة معلومة للانتفاع بلبنها، وعدها إجارة إذا كان اللبن يحصل بعلف المستأجر، وعدها بيعاً إذا كان المالك هو الذي يعلفها، سواءٌ كان اللبن مقدراً أو مطلقاً.
والغرر أوسع من الجهالة لأنَّ فيه مُخاطرة أو تخمين وجهالة، وسُمي غرراً لأنَّ كل واحد من المتبايعين يُغرَّر بالآخر باحتمال ضعيف أو مجهول، والاحتمال قد يكون في كلٍ أو بعضٍ من العين والمقدار والوصف والأجل والقدرة على تسليم العين، كما في الميسر، وفي الصحيح؛ (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وبيع الغرر).
وبيع الحصاة هو نوع من أنواع الميسر، ومثاله؛ أن يدفع المشتري لبائع سلع خمسة دراهم، ثم يعصب عينيه ويرمي الحصاة فيأخذ السلعة التي سقطت عليها الحصاة سواء كان سعرها درهماً أو عشرة دراهم.
ومن بيع الجُزاف الجائز بيع الصُبرة، وهي الكومة المجتمعة من الطعام، لأن الأكوام تقدر بالنظر دون كيل ولا وزن، فالجهالة فيها يسيرة، ومن بيع الجزاف بيع قطيع الماشية الذي يتعسر عده فيقدر عدده بالنظر ونحو ذلك، ويجوز تبعاً ما لا يجوز أصلاً للتعذر أو التعسر، كبيع الأرض مع الثمر وبيع الحيوان مع حَمْل بطنه.
استئجار المرضع جائز، لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ}، والصحيح أن العِوض للبن وليس للحضن فقط كما قال بعضهم تحرزاً من القول بجهالة مقدار اللبن.
وجواز قضاء حاجة بأعيان بالقياس على المُرضِع، والعلة هي انضباط مقدار أعيان لقضاء حاجة بالعادة والعُرف أو الاتفاق، وهو وصف منضبط وظاهر ومناسب.
وأما فارِق عدم إمكان حساب المقدار في الرضاع وإمكانه في غيره فلا أثر له في الحُكم، وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى قياس استئجار الأجير بطعامه وكسوته على المُرضع في المغني كما في المصدر التالي.
وهذا النوع من العقود على الأعيان يُشبه أجرة المنافع التي تنضبط بالعرف والعادة أو الاتفاق في سد حاجة مع تغير كيفية سدها مثل؛ شراء تذكرة للتنقل لوقت محدد وفي منطقة محددة كالمدينة والمحافظة، هذا مع اختلاف المركوب بين حافلة وقطار وقطار أنفاق وما يترتب على ذلك من اختلاف في السرعة أو الخدمات وراحة الركاب، ولمسافة قصيرة جداً أو طويلة.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته) [3].
وذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى أن القول بالجواز هو رواية عن أحمد ومذهب مالك وإسحق، وأنه روي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى رضي الله عنهم.
وذكر أن القول بعدم الجواز وتخصيص الجواز بالمرضِع فقط هو رواية أخرى عن الإمام أحمد اختارها القاضي، وأنه مذهب أبي حنيفة، وأن ممن منع ذلك الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن المنذر.
ورجَّح ابن قدامة رحمه الله تعالى الجواز وعد ذلك من إجماع الصحابة رضي الله عنهم مستدلاً بفعل أبي هريرة رضي الله عنه من غير نكير.
أثر أبي هريرة رضي الله عنه؛ (كنتُ أجيراً لابنة غزوان بطعام بطني، وعقبة رجلي) رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وضعفه الألباني رحمه الله تعالى في ضعيف ابن ماجة، وقال ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري: (إسناده صحيح)، وقال المعلمي رحمه الله تعالى في الأنوار الكاشفة: (القصة رويت من أوجه في إسناد كل منها مقال، ومجموعه يثبت أصل القصة).
وفي عد ذلك إجماعاً نظر إلا إذا قصد به الإجماع الظني فله وجه، فالصحيح عدم عدِّ فعل أو قول الصحابي إجماعاً مُلزماً إلا إذا كان سنة خليفة راشد أو تعضد بنص أو بما يدل على اشتهاره، وذلك لأن سنن الخلفاء الراشدين مشتهرة معلومة بخلاف فتاويهم وفتاوى غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم التي ليست على سبيل القضاء والسنن المشتهرة.
واحتج ابن قدامة رحمه الله تعالى أيضاً بحديث: (إنَّ موسى أجَّرَ نفسَهُ ثمانِ سنينَ أو عشراً على عفَّةِ فرجِهِ وطعامِ بطنِهِ)، قال ابن حجر رحمه الله تعالى؛ (في إسناده ضعف) [4].
فتتحصل ثلاثة استثناءات من شرط معلومية العين والمقدار والوصف، وهي؛ الجهالة اليسيرة، وما تتعذر أو تتعسر معرفته، وقضاء حاجة معتادة بأعيان يُعلم متوسط مقدارها العام بالعادة والعُرف أو الاتفاق.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند السويد
يوم الأربعاء 10 مُحرم 1439هـ، 4 أكتوبر 2017م

المصادر

[1] زاد المعاد في هدي خير العباد (ج/5ص727)، مؤسسة الرسالة، بيروت، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون، 1415هـ/1994م
[2] زاد المعاد في هدي خير العباد (ج5/ص730)، االطبعة السابقة.
[3] المغني لابن قدامة (ج5/ص364)، مكتبة القاهرة.
[4] فتح الباري (ج٤/ص٤٤٥)، دار المعرفة - بيروت، ١٣٧٩.
pdf
الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق