قاتل نفسه لا يكفر بعينه

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى أله وصحبه أجمعين، ومن استن بسنتهم إلى يوم الدين.
الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر بعينه من السنة هو ما وراه مسلم عن جابر رضي الله عنه: (أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة؟"، قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع، فأخذ مشاقصَ له فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: "ما صنع بك ربك؟"، فقال: "غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم"، فقال: "ما لي أراك مغطياً يديك؟"، قال: "قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت"، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر") [1].
قال النووي رحمه الله تعالى في تعليقه على الحديث: (أما أحكام الحديث ففيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة) [2].
وأما النص الصريح في أن قاتل نفسه يخلد في النار خلوداً مؤبداً فيجب تأويله للحديث السابق، ولكن يبقى السؤال كيف يؤول؟
والحديث الذي ورد فيه أن قاتل نفسه يخلد في النار خلوداً أبدياً متفق عليه، وهو؛ عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جنهم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جنهم خالداً مخلداً فيها أبداً) [3].
وأما تأويل الحديث؛ فيظهر لي - والله تعالى أعلم - أنه يحمل على الكفر المُحتمل، وأن غالب من يقتل نفسه كافر، والكفر المحتمل لا يكفر المعين به لأن إسلامه ثابت بيقين فلا يكفر إلا بالكفر الصريح الذي ليس فيه احتمال.
يرجح هذا من جهة النظر العقلي؛ أن من يعلم أنه ملاقي الله تعالى يبعد في العادة أن يقدم على قتل نفسه وختم حياته بعمل يغضب الله سبحانه وتعالى.
والكفر المحتمل هو ما كان احتماله من جهة ذات العمل، والكفر الصريح قد يكون فيه احتمال من جهة الموانع وهي؛ زوال العقل والجهل والتأويل والخطأ والإكراه.
من أمثلة الكفر المحتمل من جهة ذات العمل؛ الاستهزاء بالدين على سبيل المزاح على الراجح، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل المنافقين معاملة المُسلمين، والسبب كما قال شيخ الإسلام هو أن نفاقهم غير بين، وأصحاب النفاق البيِّن أطلق عليهم السلف الزنادقة، وهؤلاء يعاملون معاملة الكفار.
ومن أمثلة ذلك من الشرك المحتمل للأصغر والأكبر؛ التبرك بآثار الصالحين، والحلف بغير الله، والتمائم.
وهذا التأويل يوافق اختيار شيخنا العثيمين رحمه الله تعالى في القتل العمد، مع ملاحظة أن القتل العمد ورد فيه الخلود مجرداً وأن الانتحار ورد فيه الخلود الأبدي.
فالصحيح في الخلود من حيث أصل الوضع اللغوي أنه المكث الطويل، والخلود الأبدي هو المكث اللازم الدائم الذي لا ينقطع.
قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (على كل حال فيما أرى أن أحسن الأجوبة الوجه الأول: أن القتل عمداً للمؤمن سبب للخلود في النار، ولكن هذا السبب قد يوجد فيه ما يمنعه فيكون في ذلك تحذير شديد أن يفعل الإنسان هذا الفعل؛ لأنه سبب للخلود في النار، فإذا فعله كان السبب موجوداً محققاً والمانع غير محقق) [4].
ولكن هذا القول بمجرده يشعر بأن العمل من قبيل الكفر الأكبر الصريح لولا وجود مانع.
وأما القول بأن كفر قاتل نفسه محتمل؛ فهو يوافق القول بالخلود الأبدي لولا المانع ولا يتعارض مع قول من قال بأنه من الكبائر، لأن الكفر المحتمل متردد بين الكبيرة والكفر.
فالمقصود تأويل الحديث بما لا يرفع الإجماع ويوافق ظاهر النص والمعقول، إذ لا ينبغي أن يكون التأويل بعيداً متكلفاً.
وتأويل الخلود الأبدي بالمكث غير الدائم بعيد، لأن اللفظ لا يحتمل هذا المعنى، وذلك لأن الخلود ورد في القرآن بمعنى الدائم الذي لا ينقطع، فإذا أكد الخلود بالأبدي تعين الدائم.
وكذا التأويل بأنه فيمن استحل بعيد لأن اللفظ لا يحتمله.
وأما نفي دخول الجنة عن بعض العصاة كحديث (لا يدخل الجنة قتات)؛ فالمعنى أنه لا يدخلها من يوصف بالقتات، وينتفي الوصف بالتطهر من الذنب بالمكفرات أو عذاب جهنم والعياذ بالله.
وأما الخلود في القتل العمد في قول الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، فهو المكث الطويل.
ففي الآية دلالة على أن القتل العمد ليس كفراً مخرجاً عن الملة وأن القاتل عمداً يخرج من النار بعد بقاء طويل، وجه الدلالة هو أن الله تعالى وصف بقاء الكافر في النار بالخلود والخلود الأبدي بينما وصف بقاء القاتل في النار بالخلود فقط.
وأصل الأبد عند العرب الدهر ويستخدمونه فيما لا نهاية له، وأما الخلود فأصله في اللغة من ملازمة شيء لوقت طويل، كقولهم؛ خلد إلى الأرض يعني لصق، وهي بمعنى لزم الأرض لوقت طويل، وكقولهم خلد للراحة والنوم يعني ركن ومال، وهي أيضاً بمعنى لزم النوم لوقت طويل، وخلد فلان يعني كبر ولم يشب، وهي مثل سابقاتها من ملازمة سواد الشعر له طويلاً، وخلد فلان تعني أيضاً دام في النعيم، وهي أيضاً من ملازمة النعيم له لوقت طويل، وخلد في المكان بقي واستمر فيه طويلاً.
ومعلوم أن دلالات الألفاظ منها نص وظاهر ومشترك ومؤول، فالنص هو ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً، والظاهر ما يحتمل المعنى على وجه راجح، والمشترك ما تساوى فيه الاحتمالان، والمؤول ما يحتمل المعنى على وجه ضعيف، فالخلود ظاهر في المكث الطويل، والخلود الأبدي ظاهر في المكث الدائم، وبالتالي فدلالة الآية على المكث الطويل هو حملها على ظاهرها.
وأما دلالة حديث قاتل نفسه على المكث المؤقت فهو حمل له على غير ظاهره، والتأويل لقرينة قد يجب، وتأويل الحديث واجب لدلالة النصوص وإجماع السلف، فإما أن نؤول كلمة الخلود الأبدي أو نؤول الجملة، والتأويل هو صرف الكلام عن ظاهره الراجح إلى معناه المؤول الضعيف لدليل يصرفه عن ظاهره.
ومعنى ملازمة شيء لوقت طويل ظاهر في كلمة الخلود، فيكون المكث الدائم مؤول فيها، وأكثر ما يمكن أن يُقال في معناها اللغوى أنها لفظ مشترك يحتمل المعنيين بنفس الدرجة، أما الخلود الأبدي فإنه إذا لم يكن نصاً في البقاء الدائم بلا نهاية، فإن أقل أحواله أنه ظاهر فيه وأنه يحتمل معنى البقاء الطويل الذي له نهاية على وجه مؤول ضعيف، وليس في هذا إضعاف لمعنى الآيات التي ورد فيها خلود الكفار في النار مطلقاً لأنها تُفسَّر بما ورد مقيداً بالأبدي، وكذا يُقال في خلود المؤمنين في الجنة.
وقد ذكر هذا المعنى الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى في تأويل الآية فقال: (الوجه الخامس: قال بعض العلماء: إن الخلود لا يقتضي التأبيد؛ لأن الخلود يأتي في اللغة العربية بمعنى المكث الطويل لا الدائم، وهذا الوجه يمكن أن يجاب به عن الآية الكريمة؛ لأن الله لم يذكر فيها التأبيد، لكن لا يمكن أن يجاب به عن الحديث أن من قتل نفسه بشيء فإنه يعذب به في جهنم خالداً فيها مخلداً أبداً) [5].
وقد ذكر هذا المعنى أيضاً الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله تعالى فقال: (معنى الخلود عند أهل السنة والجماعة في قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} المكث الطويل، فالخلود خلودان؛ خلود مؤبد لا نهاية له، وهذا خلود الكفرة، والثاني؛ خلود مؤمَّد له أمد ونهاية) [6].
فإذا صح أن الخلود لفظٌ ظاهر في المكث الطويل ويحتمل الدائم على وجه مؤول ضعيف، فإن القول بأن الآية فيها دلالة على أن قتل العمد ليس كفراً أكبراً ليس بعيداً عن الصواب، لأن ظاهرها المكث الطويل وخروج القاتل عمداً من النار، وأما حديث قاتل نفسه فيجب تأويله بدلالة النصوص وإجماع السلف، والله تعالى أعلم.
ومثل مسألة قاتل نفسه؛ مسألة القانون العام، وقد خلصتُ في مبحث حولها إلى أن القانون العام المخالف للشريعة كفرٌ محتمل لا يكفر به المعين، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » حُكم التقنين العام.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
يوم الثلاثاء 8 شعبان 1439هـ، الموافق 24 أبريل 2018م

المصادر

[1] صحيح مسلم (١١٦).
[2] شرح النووي على صحيح مسلم (ج٢/ص١٣١-١٣٢)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية ١٣٩٢ هـ.
[3] أخرجه البخاري (٥٧٧٨)، ومسلم (١٠٩). 
[4] لقاء الباب المفتوح (ج١٢/ص٢٩)، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.
[5] المصدر السابق.
[6] دروس في العقيدة (ج4/ص29)، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
pdf

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق