الواجبات أعظم من المحرمات بالجنس لا بالآحاد

رجوع إلى قسم قواعد وأصول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى قاعدة استفاض في بيانها وذكر أدلتها فيما يزيد على مائة صفحة، وهي: (قاعدةٌ في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأنَّ جنس ترك المأمور أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات) [1].
والقاعدة مختلف فيها، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى واحداً وعشرين وجهاً لبيان هذه القاعدة والاستدلال لها، ومما ذكر؛ أن فعل الحسنات موجب لترك السيئات وموجب للحسنات ولزيادة الحسنات، ومنها؛ أن الحسنات تمحو السيئات، ومنها؛ أنَّ تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر بخلاف فاعل المنهي عنه فإنه تكفي فيه التوبة إلا في مواضع، ومنها؛ أن مباني الإسلام الخمس واجبات، ومنها؛ أن الردة أشد من الكفر الأصلي لأنّ الردة ترك مأمور به والكفر الأصلي فعل منهي عنه، ومنها؛ أن أصل الكفر عدم التصديق بالحق، ومنها؛ أن أصل البدع ترك السنة.
من فوائد هذه القاعدة؛ أن الورع بفعل ما يشبه الواجب أعظم من الورع بترك ما يشبه الحرام، سواءً كانت درجة التشابه تجعل الورع واجباً أو مستحباً، والأمثلة كثيرة، منها كثير مما يتعلق بتعارض الحسنات والسيئات، ومنها اجتهاد من هو أهل للاجتهاد فيما قد يكون متعيناً، ومسائل التعارض والتزاحم تكثر كلما نقصت آثار النبوة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم فهو اتقاء ما يُخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح. ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام) [2].
ومما ذكره ابن تيمية رحمه الله في بيان هذه القاعدة: (والشرك قد تقدَّم أن أصله ترك المأمور به من عبادة الله، واتباع رسله. وتحريم الحلال فيه ترك ما أمروا به من الاستعانة به على عبادته. ولما كان أصل المنهي عنه الذي فعلوه الشرك والتحريم روي في الحديث (بعثت بالحنيفية السمحة)، فالحنيفية ضد الشرك، والسماحة ضد الحجر والتضييق) [3].
التحريم إذا كان محدوداً فليس فيه مشقة لأنه ترك وليس بفعل، فإعفاء اللحية مثلاً ترك، فالتكليف في حلقها لا في إعفائها، ومن يحلقها يحتاج إلى حلقها كل يوم، وإنما يكون في التحريم ضيق وحرج عند التوسع فيه وتحريم ما يُحتاج إليه ولا يتضمن تفويت أنفع ولا حصول أضر، ودائرة التحريم أضيق في الشريعة لأن الأصل في الأشياء الإباحة إلا لنص.
وهذه القاعدة في جنس الواجبات والمحرمات لا في آحادها، فرد السلام واجب، ومع ذلك فترك رد السلام ليس أعظم من الموبقات والكبائر كالقتل والزنى، فقد يكون فعل محرم أعظم من ترك واجب من حيث الآحاد.
التفريق بين الواجب والحرام هو أن الواجب أمرٌ بفعل ونهي عن ترك، والحرام أمرٌ بترك ونهي عن فعل، فرد السلام أمرٌ بفعل ونهي عن ترك فهو واجب، وإعفاء اللحية أمرٌ بترك ونهي عن فعل، فحلقها حرام، فالحلق هو الفعل المنهي عنه.
ونظير ذلك؛ قول العلماء؛ البدعة شر من المعصية، فالمقصود جنس البدعة شر من جنس المعصية، فالبدع المكروهة كراهة تحريم ليست شراً من المعاصي العظيمة كترك الصلاة وعقوق الوالدين والسحر والقتل، فالبدع متفاوتة كما فصل ذلك الشاطبي رحمه الله في؛ الاعتصام [4].
وقد قال ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المُستقيم إن الاحتفال بالمولد بدعة مكروهة، ولعله قصد كراهة التحريم لعموم الحديث؛ (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، فالصحيح كما ذكر أهل العلم أن البدعة ليس فيها مكروه كراهة تنزيه، ولكن فيما يُشبه البدع ما يكون خلاف الأولى كما قال الشيخ العثيمين رحمه الله في السبحة، وقد فصل ذلك الشاطبي رحمه الله تعالى في؛ الاعتصام [5].
ولأن البدع متفاوتة قال ابن تيمية رحمه الله: (وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به. ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة) [6].
وقد أشكل على البعض قول ابن تيمية رحمه الله في تلك الصفحة: (فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده)، فقال المحقق العلامة الفقي رحمه الله في تحقيقه للكتاب بأن هذا مخالف لحديث: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وليس في كلام ابن تيمية رحمه الله مخالفة للحديث، لأنه في الأجر على العمل القلبي الصحيح وليس على العمل المبتدع، وهو فيمن لم تبلغه الحجة، وأما من بلغته الحجة فهو ممن زين له عمله، فيُعاقب على بدعته ولا يؤجر على قصده الحسن.
ومما يدل على صحة كلام ابن تيمية رحمه الله حديث الرجل الذي أمر بتحريق جسمه، فإنه أتى ببدعتين؛ إحداهما مكفرة وهي الشك في قدرة الله، والثانية إحراق الجنازة، فسنة الأنبياء الدفن، وأدخله الله الجنة لعمله القلبي وهو خوف الله تعالى.
ويدل عليه كذلك حديث الأجر والأجرين في اجتهاد الحاكم، فالأجر الواحد لم يشمل أجر الإصابة للمجتهد وأجر العمل لمقلده، فبقي فقط أجر الاجتهاد للمجتهد وأجر النية الحسنة وتحري الحق للمقلد.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
يوم الأربعاء، 12 شعبان 1439هـ، 7 مايو 2018م
لوند، السويد

المصادر

[1] مجموع الفتاوى (ج20/ص85)؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.
[2] مجموع الفتاوى (ج20/ص137-138)، الطبعة السابقة.
[3] مجموع الفتاوى (ج20/ص114)، الطبعة السابقة.
[4] الاعتصام (ج2/ص539)؛ [4]. الباب السادس في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة » فصل هل في البدع صغائر وكبائر، دار ابن عفان، السعودية الطبعة: الأولى، 1412هـ - 1992م.
[5] الاعتصام (ج2/ص530)؛ الباب السادس في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة » فصل كل بدعة ضلالة.
[6] اقتضاء الصراط المستقيم (ج2/ص126)، تحقيق؛ ناصر العقل، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة السابعة.
pdf
رجوع إلى قسم قواعد وأصول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق