العذر في مسائل العقيدة

رجوع إلى قسم شبهات وردود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
يردد كثير من السروريين المدافعين بالباطل عن جماعة الإخوان المسلمين أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل في العقيدة، ويمثلون لذلك بخلاف عائشة رضي الله عنها لغيرها من الصحابة رضي الله عنهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه وفي مسألة سماع الموتى كلام الأحياء، ويرددون كلام ابن تيمية رحمه الله الذي ذكر فيه هاتين المسألتين وذكر فيه أن الصحابة رضي الله عنهم ربما اختلفوا في مسائل علمية وعملية، وقد تأثر بهم بعض إخواننا، وهؤلاء أشكل عليهم  فهم معنى مصطلح العقيدة، ولم يفرقوا في العذر بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وفي أحكام الدينا لم يفرقوا بين من يعذر لاحتمال جهله كالأعرابي وغيره.
أورد أولاً سؤالين ليتفكر فيهما القاريء، ليتبين له الفرق في أحكام العذر وما يقع من لبس في مصطلح مسائل الفقه ومسائل العقيدة ونحوها من مفردات يستخدمها العلماء من أهل السنة والمتصوفة والمتكلمين وغيرهم.
السؤال الأول؛ هل يُعذر من يشكك في قدرة الله عز وجل من المسلمين؟ وقد ورد في السنة حديث الرجل الذي شك في قدرة الله فأدخله الله تعالى الجنة، فهو معذور في أحكام الآخرة.
السؤال الثاني؛ هل يصح أن يخالف أحد في وجوب الوضوء للصلاة؟ وهل هذه المسألة من مسائل الفقه الفرعية العملية؟ وهل المعلوم في الدين بالضرورة من العقيدة أم لا؟
وأهل السنة متفقون على تحريم زواج المتعة، رغم أنه متعلق بمسائل الفقه العملية، بل قال الطحاوي رحمه الله تعالى في عقيدته؛ ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر، وذكر أئمة السنة مسألة تحريم الخروج على أئمة الجور في كتب العقيدة وعدوها من أصول معتقد أهل السنة والجماعة.
المعروف أن مسائل الفقه عملية فرعية ومسائل العقيدة علمية أصولية، ولكن هذه المصطلحات الواردة في النصوص أو في كلام العلماء تحتاج إلى دقة في الفهم حتى لا يحدث اللبس، ومن ذلك مصطلح؛ عقيدة وشريعة وأصول وفروع وإيمان وعمل ومسائل علمية وعملية ومسائل اجتهادية وخلافية ومسائل قطعية وظنية ومعلومة بالضرورة وظاهرة وخفية، ولا أود التفصيل في كل هذه المُفردات للاختصار والتيسير.
فالعقيدة من إحكام الربط والعقد، وتُطلق على كل مسألة يقينية مطلقاً، وإنما قلت مطلقاً للتفريق بين ما جزم به صحابي أو إمام أو عالم خالفه فيه غيره وبين ما أجمعوا عليه، فبعض المسائل اليقين فيها نسبي، يرى بعض العلماء أو بعض الأئمة أنها الحق الذي لا ريب فيه ومع ذلك وُجِد فيها خلاف، بل قد يكون الحق أحياناً في غير ما جزم به بعضهم.
والأصل هو ما يُبنى عليه غيره، ومن ذلك أركان الإيمان وأركان الإسلام، وأركان الإيمان علمية اعتقادية وأركان الإسلام عملية، ولكن بينهما تلازم، فكل عمل يسبقه علم، فوجوب الصلوات الخمس من المسائل العلمية العقدية الأصولية مع أن الصلاة عملية وأحكامها تُبحث في كتب الفقه لا العقيدة والأصول، واعتقاد أن الله غفور رحيم يترتب عليه عمل وهو سؤال الله عز وجل المغفرة والرحمة، فبين العلم والاعتقاد من جهة والعمل من جهة أخرى تلازم.
بل قد يطلق على العمل إيمان كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم، وقد يُطلق على الإيمان إسلام وعلى الإسلام إيمان، وفهم ذلك يكون حسب السياق والقرائن كما نص على ذلك أهل العلم، وليس هذا موضع تفصيل ذلك.
والتلازم والتداخل بين المُفردات ودرجات ما يندرج تحت كلٍ منها كثير في مسائل الشرع، وقد ذكرتُ لذلك أمثلة في كثيرٍ من المقالات والرسائل كالاجتهاد والتقليد والترجيح والحلال والحرام، وكثير ما يقع اللبس بل البدعة المخالفة للأصول بسبب عدم معرفة التداخل والتلازم بين المُفردات والتفاوت بين ما يندرج تحت المفردة الواحدة.
ولأن العقيدة من إحكام العقد والربط، فلا تُطلق إلا على  المسائل التي فيها نصوص صريحة مستفيضة معلومة أو ثبت فيها الإجماع، فلا يصح أن تطلق كلمة عقيدة على المسائل التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم إلا إذا استقر فيها الإجماع في قرنهم أو بعدهم، كمسألة زواج المتعة التي استقر الإجماع على تحريمها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وابن تيمية رحمه الله لم يقل أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في العقيدة، وإنما قال اختلفوا في مسائل علمية وعملية، ونص كلامه عندما أورد مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ومسألة سماع الموتى هو: (وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع) [1].
وأما العذر بالجهل؛ فكثير من الناس حتى من بعض إخواننا يظن أن باب التكفير والتبديع واحد من كل وجه، وهذا خطأ، فمن الفروق أن التأويل من موانع التكفير وليس من موانع التبديع، والقول باشتراط إقامة الحجة في التبديع يرد عليه أنَّ مخالفة النص تشريع وهو شرك وكفر.
فتبديع المعيَّن بمجرد المخالفة إنمَّا يصحُّ إذا خالف في أمرٍ يعود على ركن من أركان الإيمان أو أركان الإسلام بالنقض كالمخالفة في أصول القدر أو أن دعاء غير الله شرك أكبر أو خالف في قاعدة كليَّةٍ من قواعد الإسلام كالمخالفة في إجماع الصحابة، أو خالف في جزئيات متعدِّدة تعود على كلي بالنقض، أو خالف في أمر ظاهر متواتر معلوم لا يجهله طالب علم في عصره ومصره.
ويلحق بأهل البدع من جعل بدعته الجزئية أصلاً عظيماً يوالي عليها ويعادي ويفرق بها جماعة المسلمين ويكفرهم بمخالفتها ويستحل بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم كما تفعل الخوارج، فإن فعل ذلك فهو من أهل البدعة والفرقة وليس من أهل السنة والجماعة.
ولذا يعد عوام الإباضية مبتدعة ضلال مع أن كثيراً منهم جهلة لم يجد من يبين لهم الحجة، فقد يكونون معذورين في أحكام الآخرة.
ولا يعد مبتدعاً من خالف في جزئيات معدودة ولو تعلقت بأحد الأركان ما لم تعد عليه بالنقض، وتعد المخالفة من الزلات والفلتات، إلا إذا دلت القرائن على أن سبب المخالفة الهوى فقد يبدع صاحبها ولكن بشرط اعتبار المصالح والمفاسد المترتبة على تبديعه.
ومن المُخالفة في أصل عظيم وقاعدة كلية؛ المخالفة في أهميَّة الدعوة إلى التوحيد؛ فما أُرسلت الرسل ولا أُنزلت الكتب وما أسست المساجد ولا بنيت الكعبة وما شرع الجهاد إلا لإقامة التوحيد، وهي مخالفة في أمرٍ كلي لأنه لا معنى لأمر من أمور الإسلام من غير التوحيد، وما الجنة إلا دار للموحدين وما النار إلا مقر للمشركين.
الفقرات الخمس الأخيرة منقولة من؛ مدونتي » إصلاح وتكميل » الموجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير » الغلو في التبديع.
وحول عدم تكفير عوام الرافضة الإمامية يُرجى الرجوع إلى أقوال ابن تيمية رحمه الله تعالى في ذلك في؛ مدونتي » إصلاح وتكميل » الموجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير » ضوابط التكفير.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأربعاء 6 شوال 1439هـ، 20 يونيو 2018م

المصادر

[1] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج24/ص172)، مجمع الملك فهد، 1416هـ/1995م.

رجوع إلى قسم شبهات وردود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق