الخلاف والعذر في العقيدة

المحتويات

اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل علمية لا عقدية، وكل مسألة عقدية علمية، ولا ينعكس، والعذر في أحكام الدنيا والآخرة بحسب المسائل والتمكن من فهمها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
يردد بعضٌ أنّ الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل في العقيدة، ويمثلون لذلك بخلاف عائشة رضي الله عنها لغيرها من الصحابة رضي الله عنهم في رؤية النبي ﷺ ربه وفي سماع الموتى كلام الأحياء، وخلاف الصحابة رضي الله عنهم في معنى كلمة ساق في قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: ٤٢].
ويرددون كلام ابن تيمية رحمه الله الذي ذكر فيه هذه المسائل وقال فيه بأنّ الصحابة رضي الله عنهم ربما اختلفوا في مسائل علمية كما اختلفوا في مسائل عملية.
ولم أطّلع على قول له يقول فيه أنهم اختلفوا في العقيدة.
والصحابة رضي الله عنهم لم يختلفوا في إثبات صفة الساق لله سبحانه وتعالى، وإنما اختلفوا في معنى كلمة الساق في هذه الآية، وليس في الآية إضافة الكلمة لله سبحانه وتعالى.
وأما رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا وسماع الأموات، فتعلقها بأصول المعتقد (أركان الإيمان وأركان الإسلام) غير مباشر.
فرؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا ليست صفة من الصفات ولا اسماً من الأسماء، وإن تعلقت بالصفات بطريقة غير مباشرة.
والعقيدة أوسع من أصولها، ففي العقيدة والأصول فروع نسبية.
والذين فهموا أن كلمة علمية مرادفة لكلمة عقدية ظنوا أن كل مسألة علمية عقدية، والصحيح أن كل مسألة عقدية علمية ولا ينعكس.
هذا إضافة إلى أنهم لم يفرقوا في العذر بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وفي أحكام الدينا لم يفرقوا بين من يعذر لاحتمال جهله جهلاً يعذر به في أحكام الدنيا كحديث العهد بالإسلام والبدوي ومن لا يحتمل في مثله هذا الجهل.
أورد هنا سؤالين ليتفكر فيهما القاريء، ليتبين له الفرق في أحكام العذر وما يقع من لبس في مفردة فقهية وعملية وعلمية وعقدية، وأبدأ بالأول.
السؤال الأول؛ هل يصح أن يخالف أحد في وجوب الوضوء للصلاة؟ وهل هذه المسألة من مسائل الفقه الفرعية العملية؟ وهل مثل هذا المعلوم في الدين بالضرورة من العقيدة أم لا؟
وأهل السنة متفقون على تحريم زواج المتعة، وهو أمر متعلق بمسائل الفقه العملية.
بل قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته؛ (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر) [١].
وعد أئمة السنة مسألة تحريم الخروج على أئمة الجور من مسائل العقيدة ومن أصول أهل السنة وذكروها في كتب العقيدة.
المعلوم أنّ مسائل الفقه عملية فرعية ومسائل العقيدة علمية أصولية، ولكن هذه المصطلحات متداخلة.
فكل مسألة عقدية علمية، لأن العقيدة محلها القلب، ولكن ليست كل مسألة علمية عقدية من حيث المعنى اللفظي ومن حيث الاصطلاح.
أما من حيث المعنى اللفظي، فتشمل العلمية المسائل العقدية والسيرة النبوية وعلم مصطلح الحديث وعلم أصول الفقه ... إلى غير ذلك من المسائل.
والعقيدة في اللغة من إحكام الربط والعقد، وتُطلق على كل مسألة يقينية بالنص المعلوم المشتهر والإجماع اليقيني المعلوم بلا خفاء.
وسواء كان الإجماع هو إجماع السلف أو من بعدهم حال كان خلاف السلف فيها غير مستقر أو غير معتبر [٢].
فمسألة زواج المتعة مثلاً استقر الإجماع على تحريمها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وثمة مسائل حدث فيها الإجماع بعدهم كمسألة وجوب الغسل من التقاء الختانين وتحريم ربا الفضل.
فلا يدخل في هذا المعنى للعقيدة المسائل اليقينية النسبية التي جزم فيها بعض السلف بقولهم وخالفهم غيرهم، كجزم بعضهم بزمان ليلة القدر ومنع عمر رضي الله عنه حج التمتع.
فلا يصح اصطلاحاً أن يقال؛ اختلف الصحابة رضي الله عنهم في العقيدة، كما لا يصح أن يقال الزنا مكروه، هذا مع أنّ الزنا مكروه لغةً وبنص القرآن.
وتسمية المسائل التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم بالعلمية بدل العقدية من دقة فهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ونص كلامه عندما أورد مسألة رؤية النبي ﷺ ربه ومسألة سماع الموتى هو: (وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين.
نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع.
فعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أنّ محمداً ﷺ رأى ربه وقالت: «
من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية» وجمهور الأمة على قول ابن عباس مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضي الله عنها.
وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي
) [٣].
وقال: (ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة) [٤].
والدقيق الخفي لا يسمى عقدي.
ومن الخطأ الظن بأنّ المسائل الفقهية والعقدية لا تتداخل، وكذا المسائل العلمية والعملية.
فهذه التقسيمات وغيرها متداخلة، ولا يوجد الحد الذي ليس فيه تداخل إلا في الأذهان، فالسواد والبياض درجات متفاوتة بسبب تداخلهما، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فبعض المسائل الفقهية عقدية، والمسائل العقدية فقهية من حيث المعنى اللغوي، لأنّ الفقه معناه الفهم، ولكنها ليست عقدية اصطلاحاً.
وكل مسألة علمية عملية من وجه، وكل مسألة عملية علمية من وجه.
والفرق بين العلمية والعملية هو في العلاقة المباشرة وغير المباشرة بين العلم والعمل في كل من هذين القسمين.
فاعتقاد أن الله غفور رحيم يترتب عليه عمل وهو سؤال الله عز وجل المغفرة والرحمة، وبمعرفة الصفات عموماً يعظم الخالق فيعبد، وبمعرفة السيرة والقصص تستفاد العظات والعبر، وهكذا.
ولصحة الوضوء لابد من معرفة أحكامه اليقينية والظنية، والمعرفة علم، فكل عمل يسبقه علم.
وأركان الإيمان علمية اعتقادية وأركان الإسلام عملية، ولكن بينهما تداخل.
فوجوب الصلوات الخمس من المسائل العلمية العقدية مع أن الصلاة عملية وأحكامها تُبحث في كتب الفقه لا العقيدة والأصول.
وقد يطلق على العمل إيمان كما في قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ يعني صلاتكم.
وقد يُطلق على الإيمان إسلام وعلى الإسلام إيمان، وفهم ذلك يكون حسب السياق والقرائن كما نص على ذلك أهل العلم.
والتداخل بين معاني المُفردات ودرجات ما يندرج تحت كلٍ منها كثير ، وقد ذكرتُ لذلك أمثلة في عددٍ من المقالات والرسائل كالاجتهاد والتقليد واتباع العلماء والترجيح والحلال والحرام.
وكثير ما يقع اللبس بل البدعة المخالفة للأصول بسبب عدم معرفة التداخل بين المُفردات والتفاوت بين ما يندرج تحت المفردة الواحدة.
ومن الأخطاء الشائعة ظن بعض طلاب العلم أنّ بعض المسائل التي ذكرها السلف في كتب العقيدة سميت عقيدة لمخالفة أهل البدع فيها، كمسألة المسح على الخفين.
والصواب أنها مسائل عقدية بذاتها، وأن السلف لا يذكرون من مسائل العقيدة في كتبهم إلا ما خالف فيه أهل البدع غالباً، فلا يصح أن تصير عقدية بمجرد مخالفة أهل الأهواء فيها لا شرعاً ولا عقلاً.
وأمّا السؤال الثاني، فهو؛ هل يُعذر من يشك في  بعثه بعد الموت من المسلمين وفي شيء من كمال قدرة الله عز وجل؟ وقد ورد في السنة حديث الرجل الذي شك في قدرة الله تعالى على بعثه بعد حرق جثته وذر رمادها في البحر، فأدخله الله تعالى الجنة، فهو معذور في أحكام الآخرة.
والبوذي كافرٌ في أحكام الدنيا، والصحيح في حُكم أعيان الكفار في الآخرة أنه إلى الله سبحانه وتعالى مع الشهادة على جملتهم بالنار عند المرور بقبورهم [٥].
كثير من الناس يظن أن باب التكفير والتبديع واحد من كل وجه، وهذا خطأ، فمن الفروق أن التأويل من موانع التكفير ولكنه ليس بالضرورة من موانع التبديع.
ولذا يُعدّ عوام الإباضيّة مبتدعة ضلّالاً مع أنّ كثيراً منهم جهلة لم يجدوا من يبيّن لهم الحجة، فقد يكونون معذورين في أحكام الآخرة.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم؛ وإن كان قد يكون معذوراً فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد) [٦].
فالمعيَّن يبدع بمجرد المخالفة إذا خالف في أحد أربعة أمورٍ، وأما القسم الخامس والسادس من المخالفات التالية فلا يبدع بهما المعين إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع، والمخالفات هي؛
الأولى؛ المخالفة في أصلٍ عظيمٍ يعود على ركن من أركان الإيمان أو أركان الإسلام بالنقض كالمخالفة في أصول القدر أو أن دعاء غير الله شرك أكبر.
الثانية؛ المخالفة في قاعدة كليَّةٍ من قواعد الإسلام كالمخالفة في حُجية إجماع الصحابة رضي الله عنهم أو المُخالفة في جزئيات متعدِّدة تعود على كلي بالنقض.
الثالثة؛ ويُعد من أهل البدعة والفرقة لا من أهل السنة والجماعة؛ من جعل بدعته الجزئية أصلاً يوالي عليها ويعادي ويفرق بها جماعة المسلمين ويكفرهم بمخالفتها ويستحل بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم كالخوارج.
الرابعة؛ المخالفة في شارةٍ لأهل البدع لا يجهلها طالب علم في عصره ومصره كالقول بأنّ القرآن مخلوق.
فإن غلب الجهل في عصر أو مصر بشارةٍ لأهل البدع وكانت جزئيّة فرعيّة نسبيّاً (نسبة لأصول المعتقد)؛ فإنّ المخالفة فيها كالمخالفة في المخالفتين الخامسة والسادسة في اشتراط تحقّق شروط وانتفاء موانع للتبديع بها.
الخامسة؛ يُلحق بأهل البدع من يجالسهم مجالسة صحبة ومودة، وهذا حكم نوع وليس بالضرورة حكم عين، وهو للحذر مع المُجالس مجهول الحال.
والمجالسة مأخوذة من كلمة الجليس الواردة في السنة، وتعني الصحبة والصداقة، وهي غير مطلق الجلوس الذي هو من قبيل الهجر.
السادسة؛ المخالفة الجزئيّة الفرعيّة نسبيّاً (نسبةً لأصول المعتقد) يُنظر في أمر من خالف فيها، فهي قد تعدّ من الزلات والفلتات حتى ولو تعلّقت بأحد أركان الإيمان ما لم تنقضه.
من وقع في أحد المخالفات الأربع الأولى فهو مبتدع ضال في أحكام الدنيا حتى ولو كان مجتهداً معذوراً في الأحكام الأخروية.
ومن المُخالفة في أصل عظيم وقاعدة كلية؛ المخالفة في أهميَّة الدعوة إلى التوحيد.
فما أُرسلت الرسل ولا أُنزلت الكتب وما أسست المساجد ولا بنيت الكعبة وما شرع الجهاد إلا لإقامة التوحيد.
وهي مخالفة في أمرٍ كلي لأنه لا معنى لأمر من أمور الإسلام من غير التوحيد، وما الجنة إلا دار للموحدين وما النار إلا مقر للمشركين.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الأربعاء ٦ شوال ١٤٣٩هـ، ٢٠ يونيو ٢٠١٨م
[١] متن العقيدة الطحاوية - شرح وتعليق الألباني (ج١/‏ص٧٠) - الطحاوي (ت ٣٢١)، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثانية، ١٤١٤هـ.
[٢] مسألة الإجماع بعد خلاف.
[٣] مجموع الفتاوى (ج٢٤/‏ص١٧٢) - ابن تيمية (ت ٧٢٨)، مجمع الملك فهد، ١٤١٦هـ/١٩٩٥م.
[٤] مجموع الفتاوى (ج٢٠/‏ص١٦٥) - ابن تيمية (ت ٧٢٨)، الطبعة السابقة.
[٥] العذر بالجهل ومُفصل الإيمان.
[٦] مجموع الفتاوى (ج١٠/ص‏٣٧٥) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).

رجوع إلى قسم شبهات وردود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق