من تجب على الرجل نفقتهم

الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع لنا أحسن الشرائع، والصلاة والسلام على رسول الله الذي بين لنا شرائع ديننا وأمور دنيانا أفضل بيان، والصلاة والسلام على الصحب والأتباع إلى يوم الدين.
سبق أنَّ الأرحام هم الوارثون جميعاً ومن في درجتهم من غير الوارثين ممن صلتهم عن طريق أنثى، وأنَّ آخر الأرحام هم؛ أبناء وبنات العمومة والخؤولة مهما نزلوا ومهما علت العمومة والخؤولة، للمزيد ومعرفة الدليل؛ مدونتي » أحكام » من هم الأرحام؟
كنتُ سابقاً أقول بأن من تجب نفقتهم هم الزوجات والأصول والفروع، وكان ذلك تقليداً لبعض مشايخنا، ثم بحثتُ المسألة.
والتقليد جائز عند التعذر أو التعسر، والأفضل البحث ومعرفة الحجة والدليل والبرهان، بل إن العِلم بالمسائل واجب إذا لم يكن في العِلم بها بحجتها مشقة أو تفويت مصلحة دينية أو دنيوية.
وقبل البحث تأملت في المعاني والحِكَم والمقاصد، فظهر لي أن ثمة علاقةٌ بين الميراث والنفقة، ثم وجدت أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال بوجوب النفقة على الوارث مستدلاً بقوله تعالى ذكره: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.
وكنت قد استنبطت في مقال؛ "من هم الأرحام؟" من آية في كتاب الله تعالى أن الأرحام هم الوارثون ومن في درجتهم ممن صلتهم عبر أنثى، ثم عندما بحثت في زاد المعاد وجدت أن كلام ابن القيم رحمه الله يتوافق مع هذا الاستنباط وأن من تجب نفقتهم هم الأرحام وأن للوراثة صلة بالنفقة من حيث المعاني والحِكَم، وفي الكتاب والسنة إشارة للمعاني والحِكَم بياناً لها وحضاً على القياس والاستنباط.
ومما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد من استدلالات ظهر لي أنَّ القول الراجح في المسألة هو وجوب النفقة لكل الأرحام، وأن من تجب عليهم النفقة هم الوارثون من الأرحام الذكور، وهذا هو المعقول من نصوص الشرع الباهر بحكمه العظيمة.
وشرط وجوب النفقة على الأرحام مشابه للحجب في الميراث، وهو أن الوارث الأقرب رحماً القادر على النفقة يُسقط الوجوب عن الأبعد رحماً أو يُنقص قدر النفقة الواجبة على الأبعد.
وأظن أن كلام ابن  القيم رحمه الله تعالى الذي توافق مع ما ظننته في المسألة قد يغنيني عن مشقة البحث، ولهذا فأكتفي بالتالي، وكله مبني على نقل عن ابن القيم رحمه الله تعالى.
قال الله جل ثناؤه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإن لم يكن ذلك حق النفقة فلا ندري أي حق هو) [1].
وقال الله تعالى ذكرُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فأوجب سبحانه وتعالى على الوارث مثل ما أوجب على المولود له، وبمثل هذا الحكم حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فروى سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه حبس عصبة صبي على أن ينفقوا عليه، الرجال دون النساء) [2]، وقال: (وقد تقدم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس عصبة صبي أن ينفقوا عليه وكانوا بني عمه) [4].
عن طارق بن عبدالله المحاربي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدُ المعطي العُليا، وابدَأ بمن تعولُ أُمَّكَ وأباكَ وأُخْتَكَ، وأخاكَ، ثمَّ أدناكَ فَأدناكَ) [3].
وهذا الحديث صريح في وجوب النفقة على الأخت والأخ.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا مذهب الإمام أحمد وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة، وإن كان مذهب أبي حنيفة أوسع منه من وجه آخر حيث يوجب النفقة على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل وهو الذي تقتضيه أصول أحمد ونصوصه وقواعد الشرع وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل، وحرم الجنة على كل قاطع رحم، فالنفقة تستحق بشيئين؛ بالميراث بكتاب الله، وبالرحم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس عصبة صبي أن ينفقوا عليه وكانوا بني عمه، وتقدم قول زيد بن ثابت: إذا كان عم وأم فعلى العم بقدر ميراثه، وعلى الأم بقدر ميراثها، فإنه لا مخالف لهما
) [4].
وقد استدل ابن القيم رحمه الله تعالى على وجوب النفقة بقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ} ولكنه قال بعدها أن النفقة تُستحق بالرحم بالسنة، فلعل الصحيح أنها بالكتاب والسنة، وأن القرآن يدل على وجوب النفقة على الوارث.
مما يدل على أن شرط النفقة على الرجل ألا يستطيع الإنفاق على نفسه، وألا يوجد الأقرب من الأرحام من يستطيع الإنفاق عليه ما ورد عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه: (أعتق رجلٌ من بنى عذرةَ عبدًا له عن دبْرٍ فبلغ ذلك رسولَ اللهِ ﷺ فقال ألك مالٌ غيرُه؟ قال: لا، فقال رسولُ اللهِ: من يشتريه مني فاشتراه نعيمُ بنُ عبد اللهِ العدوي بثمانمائةِ درهمٍ، فجاء بها رسولُ اللهِ فدفعها إليه ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها، فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول: بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ) [5].
الأرجح في حد النفقة الواجبة على ذي الرحم أنها مثل نفقة المولود له على زوجته كما سبق في النقل عن ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنَّ النفقة واجبة على الوارث بقدر إرثه.
والنفقة تجب على الأقرب فالأقرب من الأرحام، فتسقط النفقة عن ذي الرحم البعيد بذي الرحم القريب.
وحد النفقة الواجبة على الزوجات يختلف باختلاف حال الزوج ما بين الموسر والمعسر والمعدم.
فحدها على الموسر هو الوسط العرفي، فتحد النفقة في المسكن والملبس والمأكل والعلاج والنقل والاتصالات بمتوسط النفقة في البلدة.
وبالمثال يتضح المقال؛ فمن كان يسكن في قرية لا يوجد في غالب بيوتها كهرباء، فلا يجب عليه توصيل الكهرباء لأهل بيته، وأما من يعيش في مدينة في غالب بيوتها كهرباء، فيجب عليه إن كان قادراً توصيل الكهرباء لأهل بيته.
وأما المعسر، فلا يُكلف ما لا يستطيع .
وأما المعدم وشبه المُعدم، فللزوجة أن تطلب الطلاق وليس لها أن تكلفه ما لا يستطيع.
مما يدل على أن النفقة الواجبة حسب العُرف، قول الله تعالى ذكره: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَلَهُنَّ علَيْكُم رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمَعروفِ)، صحيح مسلم (١٢١٨).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره) [6].
ولذا من لم يسم مهرها، لها مهر المثل، وفي كفارة اليمين؛ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}.
وأما الأدلة على أن المُعسر لا يكلف ما لا يطيق، فمنها قول الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.
وأبعد الأرحام هم أولاد العمومة والخؤولة مهما نزلوا ومهما علت العمومة والخؤولة، وهؤلاء تجب نفقتهم على الأقرب إن وُجد وكان قادراً، ولكن من صلة الرحم تفقد الأحوال وسؤال من هو أقرب عن حاجة من قد تخفى حاجته.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأثنين 11 جمادى الأول 1441ه، 6 يناير 2020م

المصادر

[1] زاد المعاد في هدي خير العباد (ج5/ص484)، الناشر؛ مؤسسة الرسالة، بيروت، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون، 1415هـ /1994م.
[2] زاد المعاد في هدي خير العباد (ج5/ص485)، الطبعة السابقة.
[3] الدارقطني وابن حبان، وصححه الألباني رحمه الله تعالى في؛ صحيح وضعيف النسائي (٢٥٣١).
[4] زاد المعاد في هدي خير العباد (ج5/ص488)، الطبعة السابقة.
[5] أخرجه مسلم (٩٩٧)، والنسائي (٢٥٤٦) واللفظ له، وخرجه الألباني رحمه الله تعالى في؛ صحيح وضعيف النسائي (٢٥٤٦).
[6] تفسير القرآن العظيم (ج1/ص479)، المحقق؛ محمد حسين شمس الدين، الناشر؛ دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ.
pdf
الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق