الطلاق لا يقع بالحلف به لأنه مجرد إلزام للنفس لم يوقع بعد، وكفارة الحنث فيه هي كفارة اليمين، وهو ليس من الشرك الأصغر لأن معناه هو إلزام النفس به، فهو ليس تعظيماً للمخلوق بالحلف به، وكذا الحلف بالعتاق والحرام ونحوهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أخشى أن يكون القول بأن الحلف بالطلاق شرك شائعاً، فقد رأيت مشايخ يقولون به.
وشيوع مثل هذا الخطأ ليس بمستغرب، لأنه بسبب عدم معرفة معنى كلمتي الحلف واليمين في مثل هذا الحال.
بل الحلف بالطلاق ونحوه بهذا المعنى ليس محرماً ما لم يكن فيه ابتذال، وشرعت الكفارة على الحانث منعاً للابتذال.
وكنت قد كتبت بحثاً في حكم الحلف بالطلاق ومعناه، ثم وجدت فتوى للشيخ ابن باز رحمه الله تطابق نتيجة البحث [١]، ففرحت بها لما في كلامه من اعتبار وقبول.
المقصود بالحلف بالطلاق والإعتاق والحرام ونحوها مما ورد عن السلف والفقهاء هو إلزام الإنسان نفسه بأمر، كقول؛ علي الطلاق إن فعلت كذا.
فقول؛ "علي الطلاق" يعني؛ "يلزمني الطلاق".
فالحلف واليمين يردان في اللغة بمعنى إلزام النفس، قال ابن منظور رحمه الله: (الحَلِفُ؛ اليمين، وأصلها العَقْد بالعزم والنية) [٢].
قال ابن تيمية رحمه الله: (كذا إذا قال: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا فهذه يمين باتفاق أهل اللغة والفقهاء) [٣].
ولذا فالصحيح من أقوال العلماء أن الطلاق لا يقع بالحلف به، وذلك لأن من حلف بالطلاق لم يطلق بحلفه به، وإنما ألزم نفسه بأن يطلق حال وقوع شرطه، فله أن يحنث وتلزمه كفارة اليمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يستطع صام ثلاثة أيام.
فقد أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله ﷺ قال: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفر عن يمينه، وليفعل) [٤].
وأما وجوب كفارة اليمين على من ألزم نفسه بالطلاق من غير حلف بالله، فلعموم معنى الحلف واليمين في النصوص، ولدلالة السنة على أن كفارة النذر هي كفارة اليمين.
فقد أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله ﷺ قال: (كفارة النذر كفارة اليمين) [٥].
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: (من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً أطاقه فليف به)، صححه الألباني رحمه الله موقوفاً [٦].
قال الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فنزول الآية في الحلف بالله لا يخصص عمومها، فتشمل كل إلزام للنفس بأمر متعلق بحكم شرعي كالعتق والطلاق والحرام.
فأصل اليمين العهد على النفس، وإنما سميت يميناً بسبب أنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امرئٍ منهم يمينه على يمين صاحبه.
قال ابن تيمية رحمه الله: (القول بثبوت الكفارة في جميع أيمان المسلمين هو القول الذي تقوم عليه الأدلة الشرعية التي لا تتناقض وهو المأثور عن أصحاب رسول الله ﷺ وأكابر التابعين) [٧].
الإلزام للنفس بمثل قول؛ "علي الطلاق إن فعلت كذا" ليس بشرك أصغر لأنه ليس حلفاً بشيء معظم، والصحابة والتابعون والأئمة لم ينهوا عن مثله مع عده يميناً منعقدة.
فصيغة الحلف بشي معظم هي بدؤه بالواو أو الباء أو التاء كقول؛ والله وبالله وتالله، وأما الحلف بالطلاق الوارد عن السلف فهو مجرد إلزام بأمر ذي بال مكروه للنفس، وليس حلفاً لمجرد التعظيم.
ولذا نص ابن تيمية رحمه الله على أن الحلف بالطلاق من أيمان المسلمين وأنه ليس من الحلف بالمخلوقات، ولو كان محرماً لما عد من أيمان المسلمين.
قال ابن تيمية رحمه الله في الطلاق بالحلف: (اليمين في كتاب الله وسنة رسوله نوعان؛ نوع محترم منعقد مكفَّر كالحلف بالله، ونوع غير محترم ولا منعقد ولا مكفَّر وهو الحلف بالمخلوقات، فإن كانت هذه اليمين من أيمان المسلمين؛ ففيها الكفارة، وهي من النوع الأول) [٨].
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
الرياض، السعودية
١٥ ذو القعدة ١٤٤٥هـ، ٢٤ مايو ٢٠٢٤م
مصادر ومراجع
[١] بيان كون الحلف بالطلاق ليس شركاً، الموقع الرسمي لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله.
[٢] لسان العرب (ج٩/ص٥٣) - ابن منظور (ت ٧١١).
[٣] مجموع الفتاوى (ج٣٣/ص٢٢٣) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[٤] صحيح مسلم (١٦٥٠) - ط التركية (ج٥/ص٨٥) مسلم (ت ٢٦١).
[٥] صحيح مسلم (١٦٤٥) - ط التركية (ج٥/ص٨٠) - مسلم (ت ٢٦١).
[٦] إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (ج٨/ص٢١٠) - ناصر الدين الألباني (ت ١٤٢٠)، أخرجه أبو داود (٣٣٢٢) مطولاً واللفظ له، وابن ماجه (٢١٢٨) مختصراً.
[٧] مجموع الفتاوى (ج٣٣/ص٢٢٢) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[٨] الطبعة السابقة.
[٢] لسان العرب (ج٩/ص٥٣) - ابن منظور (ت ٧١١).
[٣] مجموع الفتاوى (ج٣٣/ص٢٢٣) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[٤] صحيح مسلم (١٦٥٠) - ط التركية (ج٥/ص٨٥) مسلم (ت ٢٦١).
[٥] صحيح مسلم (١٦٤٥) - ط التركية (ج٥/ص٨٠) - مسلم (ت ٢٦١).
[٦] إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (ج٨/ص٢١٠) - ناصر الدين الألباني (ت ١٤٢٠)، أخرجه أبو داود (٣٣٢٢) مطولاً واللفظ له، وابن ماجه (٢١٢٨) مختصراً.
[٧] مجموع الفتاوى (ج٣٣/ص٢٢٢) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[٨] الطبعة السابقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق