إحداث كلمة "مُوَاطِنٍ" اقتضاه الواقع، والشرع يعتبر الواقع، وهو إحداث حسن لغة لجريانه على قواعد العربية ومعاني كلماتها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه ومن استن بسنتهم إلى يوم الدين.
ورود تعريف كلمة "مُوَاطِنٍ" في المعاجم العربية المعاصرة يدل على إقرار كتابها ومراجعيها بها، والمعجم الوسيط من إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
ويشترط للإحداث أن يكون لحاجة مقتضية وأن يكون المحدث موافقاً لقواعد اللغة العربية.
ومن الإحداث الحسن في العربية كلمة "حاسوب"، لأنه اسم آلة كساطور وناقوس وناقور وجاروف.
ووزن فاعول له أصل كفاروق وكطاغوت على قول بعضهم.
"مُوَاطِنٌ" لفظ محدث، وهو اسم فاعل من الفعل "واطَنَ".
والأفعال الأصيلة في العربية المتعلقة بالوطن هي؛ وَطَنَ وأَوْطَنَ واسْتَوْطَنَ.
تقول العرب؛ وَطَنَ بِه بمعنى أَقام فيه وألفه واتخذه وطناً، واسم الفاعل منه وَاطِنٌ.
وأما أَوْطَنَه واسْتَوْطَنَه فهما بنفس المعنى؛ أقام في بلد غريب واتخذه وطناً.
واسم الفاعل من أَوْطَنَ هو مُوْطِنٌ.
واسم الفاعل من اسْتَوْطَنَ هو مُسْتَوْطِنٌ.
وقد ورد الفعل "واطَنَ" بمعنى مختلف عن المعنى المحدث له.
قال ابن منظور رحمه الله: (وواطنَهُ على الأَمر: أَضمر فعله معه) [١].
وأما المعنى المحدث للفعل "واطَنَه" فهو؛ وَطَنَ معه، مثل ساكنه بمعنى سكن معه، والمعنى؛ اتخذه معه وطناً سياسياً.
وفي "وَطَنَ معه" معنى الموافقة والاتفاق كما في "واطَنَه عليه".
والوطن السياسي هو بلد بين أهلها وقادتها عهد، فناسب أن يسمى مُوَاطِناً كل معاهِد على اتخاذها وطناً سياسياً.
والوطن الحقيقي غير السياسي، فالوطن الحقيقي هو بلد المولد والنشأة والعشيرة.
ولكن الأوطان السياسية تضم الأوطان الحقيقية لغالب مواطنيها.
أما أسماء الأفعال الأصيلة؛ "وَاطِنٌ" و "مُوْطِنٌ" و "مُسْتَوْطِنٌ"، فهي تصلح لمن أقام بوطن حقيقي واتخذه موطناً ولا تصلح للوطن السياسي.
وبعد استحداث كلمة "مُوَاطِنٍ" استخدمها العرب للأصيل والمستحق واستخدموا كلمة "مُسْتَوْطِنٍ" للدخيل والدعي، وذلك في مثل قولهم مستوطن إسرائيلي ومواطن فلسطيني.
ويعرف مراد العرب لهذه المعاني بالسياق والقرائن اللفظية والحالية، فلا زالت العرب تستخدم كلمة مستوطن للمستحق الغريب المقيم بوطن حقيقي.
فالسين والتاء في استفعل تعني الطلب كاستعان بمعنى طلب العون، وتعني التحول الحقيقي كاستحجر بمعنى صار حجراً، وتعني التحول المدعى والمجازي كاستنسر البغاث، واستنوق الجمل، واستتيست العنز؛ إن البغاث بأرضنا يستنسر.
قال الحميري رحمه الله: (استنوق الجملُ: إِذا تشبه بالناقة) [٢].
وقال ابن منظور رحمه الله: (تقول: عربٌ عارِبةٌ وعَرْباءُ: صُرَحاءُ. ومُتَعَرِّبةٌ ومُسْتَعْرِبةٌ: دُخَلاءُ، ليسوا بخُلَّصٍ) [٣].
وبنو إسماعيل مستعربة حقيقة على قول من قال ليسوا عاربة وهو الراجح، فمعنى مستعربة هنا هو أنهم ليسوا بخلص.
وإنما يعرف المعنى المراد بالسياق والقرائن اللفظية والحالية كما سبق في معاني استفعل، وأن من معانيها تحول حقيقة، وأن من معانيها تحول ادعاءاً ومجازاً.
فعندما تقول المستوطن اليهودي يفهم العربي بتذوقه السليم للغة الدعي والدخيل من اليهود في فلسطين.
والقرينة حالية في المستوطن اليهودي الذي لم يكن من مواطني فلسطين قبل الاحتلال والتمهيد له.
فالمستوطن اليهودي الغاصب في أرض فلسطين دعي ودخيل لأنه استوطن فلسطين كرهاً أو غشاً لأهلها وقادتها الأصليين والمستحقين.
وأما المواطن الفلسطيني فقد استحقها لكونه أصيلاً في الأرض أو برضا أهلها، فهو تواثق عن تراض وتشاور.
فلا يزال الذوق العربي موجوداً، وقد استحدث العوام كلمات أقرتها مجامع لغوية، وذلك للحاجة وتكرر الاستخدام.
ولعل من ذلك أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة أجاز كلمة "ترويسة"، وذكر أن وجه الإجازة هو أن أصل الواو في الترويسة هو الهمزة؛ فهي في الأصل "ترئيسة" من الفعل "رأّس".
وقد استنكرت كلمة كهروماغنطيسية، فهي تبدو نحتاً على الطريقة الإنجليزية.
وقد وجدت في المعاجم المعاصرة أنهم يستخدمون كلمة كهرطيسيَّة، ولعل هذا بناءً على قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة بجواز النحت في العلوم والفنون بصياغتها على أي وزن عربي.
ولو قالوا كَهْمَغِيَّة لكان نحتاً على وزن فَعْلَلَ؛ كَهْمَغَ، يُكَهْمِغُ، كَهْمَغَة، فهو كَهْمَغِيٌّ، وهي كَهْمَغِيَّة.
وذلك لأن المنحوت "فَعْلَلَ" يُبْنَى من جُزأي المركب بفاء كل منهما وعينه، فإذا حدث تكرار أو ثقل جاز إكمال البناء بلام أحدهما أو الاختزال غير المتساوي ونحوهما.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأحد ٢١ رمضان ١٤٤٥هـ، ٣١ مارس ٢٠٢٤م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق