الإنشاد بدون توسع ليس من البدع، والتعبد بالسماع بدعة، ومن البدع جعل التوسع في المباحات وسيلة عبادة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه ومن استن بسنتهم إلى يوم الدين.
الإنشاد في استعمال الفقهاء هو الترنم بالشعر والرَّجز بنسق لا يجري على قواعد الإيقاع الموسيقي التي تحمل على الرقص والتمايل المستقبح.
الإنشاد بهذا المعنى مباح لأنه مثل الترنم بالشعر والرَّجز على طريقة الحُدَاء والنَّصْب.
فيبدو أن ضابط تشبيه الإنشاد بحداء الإبل والنصب هو ألا يحمل على الرقص والتمايل المستقبح.
وذكر الفقهاء أن الغناء المنضبط بالإيقاع الموسيقي ورد على العرب من بلاد العجم.
ويطلق الإنشاد أيضاً على رفع الصوت بالشعر.
ولا يكره احتواء كلمات الإنشاد على أمر ديني.
(فقد كان الأنصار يرجزون عند حفر الخندق بقولهم؛ "نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما حيينا أبداً"، فيجيبهم رسول الله ﷺ بضرب من ضروب الرَّجَز (دون الشعر) بقوله؛ "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجره") [١].
وإباحة الدف للنساء في العرس والعيد استثناء من تحريم المعازف.
والغناء محرم ولو كان بدون معازف.
فإذا عددنا التغني على سبيل حداء الإبل والنصب غناءاً، فإباحته استثناء من التحريم العام.
فيبدو أن معنى الترنم والتغني واحد بأنواعه المتعددة.
والتلحين هو التغني على النسق الموسيقي، كما ورد في معجم معاصر ودلت عليه أقوال الفقهاء.
قال ابن حجر رحمه الله: (واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب، وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط، وأفرط قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقاً بالألحان التي تشتمل عليها الموسيقى) [٢].
ونقل عن ابن عبد البر رحمه الله قوله في الغناء: (وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم) [٢].
ذم السماع المنقول عن أئمة الفقه خاص بالتعبد به وجعله وسيلة لتزكية النفس.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (ما تقول في أهل القصائد؟ قال: (بدعة، لا يُجالسون)) [٣].
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (خلّفتُ ببغداد شيئاً أحدثتْه الزنادقة يسمّونه التغبير، يصدُّون به الناس عن القرآن) [٤].
وأما لو اتخذ الإنشاد وسيلة لعبادة كتأليف من ابتلي بالغناء، فلا يكون بدعة إلا بتوسع مذموم.
وكل مخالف للسنة محدث بعد السلف بدعة ولو لم يكن من جنس العبادات.
وفي التوسع في المباحات عن قدر الحاجة كراهة، فجعله وسيلة عبادة يعد من جنس البدع، ولذا كره بعض العلماء مصطلح الإنشاد الإسلامي.
فيحمل قولهم بأنه بدعة على التوسع فيه لا على أصل اتخاذه وسيلة عبادة.
ولا يقال إسلامي لما كان فرقه عن المباحات من وسائل العبادة مجرد النية، فلا يقال نوم إسلامي ولا أكل إسلامي لمجرد الاحتساب.
وفارقت المصالح المرسلة المباحات التي تنقلب عبادات كالنوم من جهة أن المصلحة المرسلة عبادة بطريقة استعمالها وليس بمجرد الاحتساب.
والمباحات هي الأشياء الدنيوية التي يشترك في فعلها المسلم والكافر، وتشمل الأعيان والمعاملات والعادات.
ولولا أن المصالح المرسلة عبادات لكونها وسيلة لها لكانت من المباحات، ومن أمثلتها؛ حفر الخندق، وجمع المصحف، وأحكام التجويد.
فلا بأس بالإنشاد وسيلة دعوة وحث على العمل والجهاد بشرط عدم التوسع فيه على نحو التوسع المكروه أو المخالف للأولى في المباحات.
ولا يجوز التضييق عن القدر المشروع.
عن عائشة رضي الله عنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله ﷺ: (يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) [٥].
والاحتياج (الحاجة الملجئة لغير المشروع) يقدر بقدره كالاضطرار.
وكلما ضاق الأمر اتسع وكلما اتسع ضاق.
ووسائل الدعوة توقيفية لأنها عبادة، ولكن الأصل فيها الإرسال (مصالح مرسلة) إلا لنص.
وكذا جميع وسائل العبادات، وذلك لأن وسائل العبادات عبادات، والعبادات توقيفية.
والفرق بين مرسلة ومباحة من حيث الشروط هو أن المصالح المرسلة يشترط لها عدم وجود مقتضيها أو وجود مانع منها في عهد الرسالة، بينما المباح لا تشترط له هذه الشروط.
وإرسال وسائل العبادة (المصالح المرسلة) هو من جهة أصلها لا من جهة صفة فيها كالزمان والمكان.
فخالف الإرسالُ هنا إطلاقَ العبادة الذي يذكره العلماء.
فالعبادات النصية قد تكون مطلقة من جهة صفة فيها لا من جهة أصلها.
وإلجام المرسل بدعة، وكذا تقييد المطلق، كإرسال المنصوص عليه وإطلاق المقيد.
ولذا أفتى العلماء بجواز ترجمة خطبة الجمعة ومنع ترجمة الأذان، لأن الأذان مقيد بصيغة نصية تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتهليل، بينما صيغة الخطبة مطلقة.
فبعض وسائل العبادات مرسلة (أصلها) وبعضها مطلقة أو مقيدة (بصفات)، فخطبة الجمعة مثلاً مقيدة بوقت ومطلقة في صيغتها.
وخطبة الجمعة وسيلة دعوية تعليمية، والأذان وسيلة دعوة لعبادة.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
السبت ٢٧ صفر ١٤٤٦هـ، ٣١ أغسطس ٢٠٢٤م
المراجع
[١] أخرجه البخاري (٣٧٩٦)، ومسلم (١٨٠٥).
[٢] فتح الباري (ج١٠/ص٥٤٣) - ابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢).
[٣] الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه (ج١٣/ص٢٢٨) - أحمد بن حنبل (ت ٢٤١).
[٤] الكلام على مسألة السماع (ج١/ص٢٤٩) - ابن القيم (ت ٧٥١).
[٥] صحيح البخاري (٥١٦٢).
[٢] فتح الباري (ج١٠/ص٥٤٣) - ابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢).
[٣] الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه (ج١٣/ص٢٢٨) - أحمد بن حنبل (ت ٢٤١).
[٤] الكلام على مسألة السماع (ج١/ص٢٤٩) - ابن القيم (ت ٧٥١).
[٥] صحيح البخاري (٥١٦٢).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق