التقابض في الحلي

الرّاجح في الحلي المصنّع من الذهب والفضة أنّه مثل السلع التي لا يجري فيها ربا البيوع.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا خلاف في جريان ربا البيوع في الذهب والفضة سواء كانت مسكوكة (دنانير ذهبية ودراهم فضية) أو لم تكن [١].
قال ابن القيم رحمه الله: (الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان) [٢].
ومما يدلّ عليه؛ أنّ بيع العرايا مستثنى استثناءاً عاماً من ربا البيوع.
وربا البيوع محرّم لغيره إذا لم يكن ربا قروض، فبينهما تداخل [١].
والمحرّم لغيره يجوز للاحتياج، فإذا كانت الحاجة لأمرٍ عامّةً، فاستثناؤه عام.
وإذا ضاق الأمر اتّسع، وإذا اتّسع ضاق.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما (أنّ النبيّ ﷺ نهى عن المُزابَنة) [٣]، وعن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه: (أنّ النبيّ ﷺ رخّص في العَرايا بخَرْصِها) [٤].
المزابنة؛ بيع الرطب بالتمر.
العرايا؛ بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر.
والمقصود بقول ابن القيم: (جنس الأثمان) الذهب والفضة ولو لم تكن مسكوكة، لأنّ الأثمان تصنع منها، ولعدم جواز استعمالها إلا في الأثمان وحلي النساء وخاتم الفضة للرجل والضبة اليسيرة.
فعدم فهم قصد ابن القيم هنا ربما كان سبباً في ردّ بعضٍ كلامه.
فلا يمكن أن يكون قصده مخالفاً لمثل هذا المعلوم بالنص والإجماع.
فجنس الأثمان قد يُقصد به ما تصنع منه (الذهب والفضة).
ومن ذلك أنّ لجريان ربا البيوع في النقدين عند بعض الشافعية علتين؛ الثمنية وكونهما جنس الأثمان (تصنع منهما)، وهي علة قاصرة، والأولى متعدّية.
الحلي يباع ويشترى عادةً بغرض الحلي لا الاستفادة من المعدن المصنّع منه.
فيجري ربا البيوع في آنية الذهب والفضة، لأنّ استعمالها محرّم، فلا يجوز شراؤها إلا للاستفادة من المعدن.
قال ابن القيم رحمه الله: (الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان.
ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإنّ هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها.
ولا يدخلها: «إما أن تقضي وإما أن تربي» إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل. ولا ريب أنّ هذا قد يقع فيها، لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر.
يوضحه: أنّ الناس على عهد نبيهم ﷺ كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكنّ يتصدقن بها في الأعياد وغيرها. ومن المعلوم بالضرورة أنّه كان يعطيها المحاويج، ويعلم أنّهم يبيعونها. ومعلوم قطعاً أنّها لا تباع بوزنها فإنّه سفه، ومعلوم أنّ مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي ديناراً، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله، وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله، من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس.
يوضحه: أنّه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنّه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنّما هو في الصرف.
يوضحه: أنّ تحريم ربا الفضل إنّما كان سداً للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم.
وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال، حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة.
وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها، لأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنّما كان سداً للذريعة.
فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع.
وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها.
وإذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلساً، ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة؛ فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصياغة؟ وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلاً ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذاك، وهل هذا إلا عكس للمعقول والفطر والمصلحة؟) [٢].
وفي المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية؛ (ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل. ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً ما لم يقصد كونها ثمناً) [٥].
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور.
لوند، السويد.
الجمعة ٢٩ ربيع الثاني ١٤٤٦هـ، ١ نوفمبر ٢٠٢٤م.

مصادر ومراجع

[١] الفرق بين ربا القروض وربا البيوع.
[٢] أعلام الموقعين عن رب العالمين (ج٢/ص٤٨٥) - ط عطاءات العلم - ابن القيم (ت ٧٥١).
[٣] البخاري (٢١٧٢)، ومسلم (١٥٤٢).
[٤] مسلم (١٥٣٩) باختلاف يسير.
[٥] المستدرك على مجموع الفتاوى (ج٤/ص١٧) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق