العربية لغة إفصاح وبيان، لا تلتبس معانيها بتداخل ضمائر ولا واو حال، ففي تبرير الددو ميل ولدد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
التأويلات البعيدة
مع استبعاد إرادة الددو النيل من مقام النبوة فالخطأ اللفظي واضح لا تمحوه فذلكة ذكي ولا لجاجة غبي، ولا يبعد تقصيره في قدر النبوة.
ولا تزال العربية حاضرة في المؤسسات التعليمية والقنوات الإعلامية والخطب المنبرية يفهمها العامة.
بل اعتمدت مجامع لغوية كلمات عامية مستحدثة لتطابقها مع قواعد اللغة [١].
استبعدت في مقال سابق بعنوان الددو ومقام النبوّة أن يكون الددو قد تعمّد النيل من قدر النبي ﷺ اعتباراً لحاله لا مقاله.
فاعتذرت له باحتمال السهو، كقول من أخطأ من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
ولم أفهم من كلامه (بدون اعتبار حاله) غير النيل من قدر النبي ﷺ، ولذا أقحمت كلمة (هم بكتابته) في إحدى الجمل الحالية الواردة بعد كلامه في أن النكبة الأولى لنكبات حرفت الأمة عن مدارها هي وفاة النبي ﷺ.
ثم اطلعت على تعليق منسوب إليه، رأيت فيه ميلاً عن الصواب ولدداً في الجواب.
فقد جعل الفضلة في أقل تركيب لغوي فضلة في كل معنى جزئي وكلي.
ولا خلاف في أن الحال فضلة، وأن واو الجملة الحالية واو حال لا عطف.
ولكن الفضلة هي ما يمكن تركيب معنى تام بدونها.
فكلمة مرَحاً حال في قول الله تعالى: ﴿ولا تمش في الأرض مرَحاً﴾.
ولا يمكن الاستغناء عنها في مثل هذه الجملة.
والعمدة ما لا يكتمل معنى بدونها (أقل ما يتألّف منه الكلام)، فلا يمكن حذفها بدون دليل عليها.
ولذا فالعمدة هي؛ المبتدأ والخبر (في الجملة الاسمية)، والفعل والفاعل ونائبه (الجملة الفعلية)، وما عدا ذلك فهو فضلة.
وأما اللدد في الجواب فظهر في تسفيه فهم كل من خالف قول الددو ورد عليه بمن فيهم المخاطبون بعبارة "علماءنا الكرام".
فمما نسب إلى الددو قول: (فمن كان من أهل اللغة العربية يعرف أن الحال فضلة، وهي ما يسوغ حذفه من الكلام لغير دليل، ومن لم يميز بين الواو العاطفة وواو الحال ظن أن الجمل الحالية معطوفة على وفاة رسول الله ﷺ، وحينئذ يلقي الشيطان في ذهنه أن هذه الأحوال عمدة لا فضلة).
وهذا ذكرني تأويل الددو كلام البوصيري لتصحيحه لا للاحتياط في تكفيره.
والبيت الذي أوله لا يفهم منه بذاته (بدون اعتبار حال قائله) غير أنه خطاب للنبي ﷺ، وهو قوله: فإن من جودك الدنيا ... إلخ.
فقد قال البوصيري في البردة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به # سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسولَ الله جاهك بي # إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها # ومن علومك علم اللوح والقلم
ولو قال أنه التفات لكان أقرب إلى تسلسل الكلام من قوله تداخل ضمائر.
فيمكن أن يقال مراد البوصيري الالتفات للاحتياط في تكفيره لا أنه التفات صحيح.
فالخطأ المتعلق بأصل الدين لابد من بيانه وإنكاره.
فلا يصح في الفصحى التفات من ضمير غائب إلى ضمير مخاطب إذا التبس بضمير آخر في السياق.
فقوله "جاهك"؛ خطاب للرسول ﷺ، وبعد "تجلّى" ضمير مستتر عائد للكريم سبحانه وتعالى.
فالصحيح أن يقول بعده بدون التفات؛ فإن من جوده الدنيا ... إلخ.
فالالتفات الصحيح لا يلبس المعنى، بل ينشط الذهن ويكسر الملل، وتصحبه فوائد أخرى عادة.
مثل فائدة الوعيد في قول الله تعالى: ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولداً (۸۸) لقد جئتم شيئاً إدّاً﴾.
فهذا التفات من غيبة إلى خطاب يزيد الكلام فصاحة وتأثيراً.
وقبل هذا يجب بيان بطلان اللوذ بالنبي ﷺ طلباً للشفاعة.
فشراح البردة يقولون بأن الحادث العمم مراد به يوم القيامة.
والشفاعة تطلب من مالكها الذي لا تنفع عنده إلا بإذنه.
قال الله تعالى: ﴿أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون (٤٣) قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون﴾.
وبدلالة السياق يجوز عود الضمير إلى مذكور بعيد.
وقول الله تعالى: ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً﴾ كلام فصيح.
لأن الضمير في تعزروه وتوقروه عاد إلى المضاف (رسول)، وكرر الضمير المضاف إليه (الهاء في رسوله) في؛ تسبحوه.
فدلالة السياق هنا هي ترتيب الضمائر وجواز أن يعود الضمير إلى المضاف وأن يعود إلى المضاف إليه والوقف الجائز قبل وتسبحوه.
فهو كقول؛ لتؤمنوا بالله ورسول الله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه.
والوقف استئناف، فيعود ما قبله إلى الرسول ﷺ وما بعده إلى الله تعالى، وتعود كلها إلى الله تعالى عند الوصل.
ومن عود الضمير إلى المضاف قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
ومن عود الضمير إلى المضاف إليه قول الله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.
وكذا فليتأمّل تعدّد الضمائر في قول الله تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾.
فدلالاتها كلها فصحى.
فبعضها يعود إلى أقرب مذكور، وما يعود منها إلى مذكور بعيد يدل السياق على معناه مثل ﴿لنريه﴾، وأما ﴿إنه﴾ فهو مثل الآية السابقة في الاستئناف والضمير المضاف إليه في ﴿عبده﴾.
والله تعالى أعلم.
قد يلتمس للددو عذر بما هو خارج عن نص كلامه الصريح في النيل من مقام النبي ﷺ، لأنه كفر صريح وهو مسلم، وأعظم منكر في كلامه هو عدم مراعاة قدر النبوة كما ينبغي.
انتشر كلام للددو ظاهره نيل من مقام النبي ﷺ.
تأوّلت له بما هو خارج عن نص كلامه، وهو السهو، لاعتبار أنه مسلم لا يكفر إلا بيقين.
فلو حملنا كلامه على ظاهره لكان كافراً زنديقاً، لا سيما مع انتفاء الجهل عن مثله.
وهذا ليس مثل الاعتذار لابن عربي، لأنه قتل ردة، ولم يقصد بكلمة التوحيد إلا وحدة الوجود [٢].
فإنّ مقصد الكلام يعرف بحال قائله.
بوضع كلام الددو بين "علامتي تنصيص" وكلامي بين (معقوفتين)؛ فربما أراد أن يقول التالي؛
"هذه الأمة المحمدية نكبت نكباتٍ، وهذه النكبات أنا أُقدر أنها إلى وقتنا هذا ستّ نكبات كبرى حرفتها عن مدارها.
النكبة الأولى: كانت وفاة الرسول ﷺ، والوحي أشدُّ ما يكون تتابعًا، والنبي ﷺ في أوج قوّته ونشاطه، ليس في وجهه ورأسه عشرون شعرة بيضاء، ولم يكتب لنا دستورًا (هم بكتابته فحال دونه الاختلاف واللغط)، ولم يبيّن لنا طريقة اختيار الحاكم ومحاسبته وعزله، ولم يعيّن لنا حاكمًا معيّنًا، وكانت أزمة ارتدّ بسببها جمهور المسلمين عن الإسلام".
وكلمتي النكبة والأزمة ربما قالهما لخطأ فهمٍ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب ذلك الكتاب).
فربما التبس عليه معنى حديث الصحيحين؛ (هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لما حُضر النبي ﷺ قال، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: (هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده). قال عمر: إن النبي ﷺ غلبه الوجع، وعندكم القرآن. فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت، اختصموا: فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله ﷺ كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي ﷺ قال: (قوموا عني).
قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم) [٣].
وليس في الحديث دلالة على نقص في التشريع بعد وفاة النبي ﷺ.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله ﷺ أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده فخشيت أن تفوتني نفسه قال قلت إني أحفظ وأعي قال أوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم) [٤].
وليس الحديث في السياسة، فقد صح أن النبي ﷺ قال: (لقد هممت، أو أردت، أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو: يدفع الله ويأبى المؤمنون) [٥].
فلا أتوقع من مثل الددو النيل من مقام النبي ﷺ، وقد درس بالطريقة التقليدية وحفظ، ويبقى أعظم منكر في كلامه هو عدم مراعاة قدر النبوة كما ينبغي.
وكنت قد كتبت في مقال في التحذير من برنامج لأحمد السيد بتاريخ ٢٠ يناير ٢٠٢٤ [٦] في مذهب الددو؛ (وهذا ذكرني دفاع بعض إخواننا عن الددو - ربما نكاية أو عدم ثقة في مزمل فقيري - فترة من الزمن حتى ظهر أنه أشعري متصوف، وكنت أقول وقتها لمن يسألني عنه؛ لا أطمئن لعناية الإعلام الحركي بإظهاره مع وجود من هو أعلم منه في بلاد شنقيط).
وفي الحركيين التكفيري والمرجيء والأشعري والسلفي (في الأسماء والصفات) والصوفي والسني (في البعد عن بدع العبادات) والعصراني المتوسع في الاجتهاد والمتمذهب المقلد.
فحركيو مصر يميلون للعصرانية، وحركيو المغرب العربي وبلاد العجم يميلون للتمذهب وتبعهم بعض حركيي الخليج.
ومن فوائد التأني غلق باب استعطاف الناس، كما حدث لما قيل في سيد قطب أنه يجوز لغير الله أن يشرع، حتى دافع عنه مثل بكر أبو زيد رحمه الله بما لا ينبغي.
وأنقل [٧] في هذا التالي؛
في الطبعة الأولى من كتاب "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل"؛ قال الشيخ ربيع عن سيد قطب: (رجع إلى عين منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله).
وقد حُذفت هذه العبارة وتقريظ الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق اليوسف في طبعات لاحقة.
تعجبتُ وقتها في مدح سلفي سيد قطب بهذه الطريقة، فهو لم يرجع لدعوة التوحيد والسنّة، ولعلي قرأت الكتاب عام ١٤٠٨هــ - ١٩٨٨م، ولم أسمع قبل ذلك بالشيخ ربيع.
ومع هذا استنكرت قول المدخلي رحمه الله فيما بعد وأنا طالب في المدينة عن سيد قطب أنه يجيز لغير الله أن يشرع مع علمي بأن له كلاماً في الاشتراكية.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الأربعاء ٩ ربيع الثاني ١٤٤٧هـ، ١ أكتوبر ٢٠٢٥م
مصادر ومراجع
[١] مواطن، إحداث لغوي حسن.
[٢] العذر بالجهل ومجمل الإيمان.
[٣] البخاري (٧٣٦٦)، ومسلم (١٦٣٧).
[٤] أحمد شاكر؛ إسناده حسن، تخريج المسند (ج٢/ص٨٤).
[٥] البخاري (٧٢١٧)، ومسلم (٢٣٨٧).
[٦] يطلب العلم من المعروفين.
[٧] الإخوان بين اليوسف والمدخلي وأنصار السنة.
[٢] العذر بالجهل ومجمل الإيمان.
[٣] البخاري (٧٣٦٦)، ومسلم (١٦٣٧).
[٤] أحمد شاكر؛ إسناده حسن، تخريج المسند (ج٢/ص٨٤).
[٥] البخاري (٧٢١٧)، ومسلم (٢٣٨٧).
[٦] يطلب العلم من المعروفين.
[٧] الإخوان بين اليوسف والمدخلي وأنصار السنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق