فتنة الرياء في القراء أكثر من غيرهم، بدلالة السنة، وهذا وعيد عظيم وتحذير شديد، ومما يعينهم على الحذر تعاهد نياتهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رسول الله ﷺ: (أكثرُ مُنافِقي أمتي قُرّاؤها) [١]، الألباني؛ صحيح لغيره، السلسلة الصحيحة (٧٥٠).
قول عامة العلماء بأن الحديث في النفاق الأصغر لا ينفي عظم خطورة الأمر.
فقد فسروا النفاق الأصغر هنا برياء القراء في قراءتهم، والرياء شرك أصغر، والشرك الأصغر أكبر من جميع الكبائر.
بل إن بعض معاصي القلوب أعظم من الزنا في الطرقات، قاله ابن تيمية رحمه الله.
ففي الحديث وعيد عظيم وتحذير شديد للقراء من الحفاظ والعلماء والدعاة.
والحديث معقول المعنى من جهة أن النفع العام المرئي يطرأ عليه من الرياء بسبب كثرة الثناء والعجب ما لا يطرأ على العمل الخفي.
يؤكده أن الحديث لم ينص على أن أكثر القراء منافقون (مراؤون)، وإنما نص على أن أكثر المنافقين (المرائين) من طائفة القراء.
وذلك لأن عملهم ظاهر معلوم، فيطرأ عليه الرياء.
والمقارنة أظهر بينهم وبين غيرهم من أهل السبق العاملين.
وأما ضعاف الإيمان والعمل، فقد لا تكون لهم أعمال صالحة مستحبّة أو مشابهة للواجب، فلا يوجد عندهم ما يراءون به من هذا الجانب.
وفتنة ضعاف الإيمان والعمل من العامّة بالرياء هي بنحو دعوى سلامة قلوبهم وقوّة إيمانهم وحسن نيّاتهم وأخلاقهم.
وما يدفعهم لهذه الدعاوى هو حسد القراء وأهل الاستقامة والصلاح.
وأعظم باب ترد منه فتنة القراء بالرياء هو عدم تعاهد الإخلاص في أعمالهم.
فإن الإنسان لا يسلم من أن تعرض حظوظ نفسه على بعض أعماله.
والفرق بين الموفق والمفتون هو في معالجة النية.
ففساد النية عند الموفق يحدث بصفة عارضة سريعة الزوال، فتنقلب سيئته حسنة لمجاهدة نفسه وحرصه على الإخلاص في عمله.
قال ابن تيمية رحمه الله: (الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه) [٢].
وذلك مصداق قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما علمنا أن أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ كان يريد الدنيا وعرَضَها، حتى كان يومئذ) في قول الله تعالى ذِكْرُه: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾.
والصحابة رضي الله عنهم عندهم من الحسنات الماحية ما ليس عند غيرهم، حتى إن أهل بدر غفر لهم ما تقدم وتأخر من كبائر ذنوبهم.
وقد سُمي هذا الهوى بالخفي لأن صاحبه لا يشعر به، فقد يكون الإخلاص لله مشوباً بحظ للنفس قليل، فإذا عظُم حظ النفس صار هوىً خفياً لا يشعر به صاحبه.
فإذا كان العمل مما يبتغى به الأجر الأخروي مع جواز ابتغاء شيء قليل من الدنيا به، فليزم فيه أن تكون نية الدنيا أقل من نية الآخرة، فإذا زادت نية الدنيا عن حدها بطل العمل.
فسبب خفاء هذا الهوى على صاحبه هو اشتراك النيات، فلا يدري صاحبها أيتها الأعلى من هذه النيات المشتركة.
ومثل هذا الهوى عارضٌ يزول سريعاً عند الموفق، وقد يطول أمده لا سيما عند غير الصحابة رضي الله عنهم لأسباب منها قوة شبهة لم يجد صاحبها ما يدفعها عنه.
فالنية القليلة للدنيا التي لا تساوي نية الآخرة ولا تزيد عليها لا تفسد العمل الصالح الذي يجب ابتغاء الآخرة به.
وقد أذن الشارع في بعض المسائل التي يُبتغى بها الآخرة ابتغاء شيءٍ قليل من الدنيا بها.
قال الله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١۰) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ نوح [٧١: ١۰-١١].
وابتغاء الدنيا القليل ونيل الأجر القليل فيها ينقص الأجر الأخروي فيما لا يجوز ابتغاء الدنيا به.
روى مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (ما مِن غازِيَةٍ، أوْ سَرِيَّةٍ، تَغْزُو فَتَغْنَمُ وتَسْلَمُ، إلّا كانُوا قدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ، وما مِن غازِيَةٍ، أوْ سَرِيَّةٍ، تُخْفِقُ وتُصابُ، إلّا تَمَّ أُجُورُهُمْ) [٣].
والإخلاص هو بتقديم محابّ الله ومرضاته على محابّ النفس وحظوظها ورغباتها، وليس بتركها.
ومن تقديم مرضاة الله ومحابّه أن نبتغي الأجر الأخروي فيما شرعه الله لأجل ابتغاء الأجر الأخروي فقط ونهانا أن نبتغي به الدنيا.
فكلّها حظوظ نفس سواء كان الأجر في الدنيا أو الآخرة.
فالله عز وجل غني عن عبادتنا.
وأعظم أسباب الفتن التي تقع بين القرّاء ضعف الإخلاص الذي يسبّب الحسد والبغي.
فما أحبّ أحد الزعامة إلا حسد وبغى.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الخميس ١٠ ربيع الثاني ١٤٤٧هـ، ٢ أكتوبر ٢٠٢٥م.
مصادر ومراجع
[١] أخرجه أحمد (٤/ ١٥١)، والطبراني في ((الكبير)) (١٧/ ٣٠٥)، والبيهقي في ((الشعب)) (٥/ ٣٦٣) باختلاف يسير.
[٢] منهاج السنة النبوية (ج٤/ص٥٤٣) - ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ).
[٣] صحيح مسلم (١٩٠٦).
[٢] منهاج السنة النبوية (ج٤/ص٥٤٣) - ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ).
[٣] صحيح مسلم (١٩٠٦).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق