الاغتيالات وقتل كعب بن الأشرف

لا خلاف في تحريم الغدر، وحقيقة الغدر هي عدم الوفاء بالعقود، والعقد مع الكفار إما عهد أو هدنة أو أمان أو ذمة، فالعهد والهدنة ما كان بين مسلمين وكفار، والأمان أحد طرفيه فرد واحد؛ إما لمسلم مع كفار، أو لكافر مع مسلمين، وصورته كما سبق دخول الحربي دار الإسلام بأمان المسلمين أو دخول المسلم دار الحرب بأمان منهم، وأما الذمة فهي تُشبه الأمان من جهة أنها عقد أحد طرفيه فرد واحد إلا أن عقد الذمة مطلق يشبه المواطنة.
والفرق بين الغدر والخداع في الحرب هو أن الخداع ليس فيه عدم وفاء بعهد أو هدنة أو أمان أو ذمة كما تقدم في كلام الحافظ النووي رحمه الله تعالى في مبحث؛ الإفساد في ديار الحرب، وتقدم كذلك ذكر كلام أهل العلم في أنَّ شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدماء وعصمة الأموال والأعراض.
وتقدم كذلك في مبحث؛ حكم العهد المطلق أن خداع من غدر بعهد أو أمان أو ذمة ليس غدراً، وتقدم في بيان ذلك ذِكرُ خروج النبي صلى الله عليه وسلم سراً إلى مكة بعد سنتين من صلح الحديبية والذي كانت مدته عشر سنوات بسبب غدر أهل مكة، لأن حقيقة الغدر هي عدم الوفاء بالعهد، والعهد انتقض بفعل الغادر، إلا إذا تفاوض المسلمون مع الغادر على أمان أو عهد جديد بشرط ترك الغدر أو رأى المسلمون أنَّ المصلحة في ترك قتاله.
ولذا فقد تقدم أن من لم يثبت غدره ولكن ظهرت أمارات خيانته من أصحاب العهود لا يجوز خداعه إلا بعد النبذ، وأن النبذ هو الإعلام بنقض العهد، وأنَّ النبذ يُسمى في عصرنا بقطع العلاقات الدبلوماسية، فالنبذ هو بمثابة الإنذار بالحرب كما تقدم في كلام الطبري رحمه الله تعالى، فخداع من لم يثبت غدره من أصحاب العهود من غير النبذ يُعد غدراً محرماً في الشرع.
وسب الذمي وشتمه النبي صلى الله عليه وسلم نقض للذمة والعهد في دولة إسلامية  أو دولة وطنية تنص قوانينها على أن حكم ساب النبي صلى الله عليه وسلم القتل، ولا يعد ذلك غدراً ولا نقضاً للعهد في دولة تُغلِّب عقد المواطنة على عقد الإسلام إلا إذا نصت قوانينها على قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك أنَّ أهل مكة سبوا النبي صلى الله ووصفوه بالمجنون وآذوه ومع ذلك لم يؤمر بقتلهم.
بل أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقابلة الإساءة بالإحسان، قال الله تعالى ذكره: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، جاء في تفسير القرطبي؛ (قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بعد أن كان عدواً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام حميماً بالقرابة، وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ)[1].
يدل على ما سبق أيضاً تعليل العلماء لجواز قتل الذمي الساب كما سيأتي النقل عن ابن تيمية رحمه الله وغيره إن شاء الله تعالى، ويدل على ذلك أيضاً أن الذمي لا يُقتل بما هو أولى من ذلك، مثل سبه الله تعالى بنسبة الولد أو الإعياء والتعب إليه، ولا يخفى أن سب النبي صلى الله عليه وسلم فيه نقض للعهد مع الدولة الإسلامية، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو من قامت الدولة على أساس ما جاء به من الدين.
وحادثة مقتل كعب بن الأشرف متفق عليها في البخاري ومسلم وغيرهما، وخلاصتها هي أنه لما نقض العهد غدراً بسب النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه وإعلانه العداوة بذلك بعد تحريضه كفار قريش على المسلمين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فاستأذن محمد بن مسلمة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُعرِّض في الكلام مع كعب بن الأشرف ليستدرجه بما يُفهم منه أنه راجع عن الإسلام وعن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في التعريض بذلك.
ثم إن محمد بن مسلمة أتى الحصن وطلب من كعب أن يسلفه بعد أن عرَّض بقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الرجل قد طلب منا الصدقة، وإنه قد عنَّانا) من العناء الذي قصد به مجرد التكليف ليفهم كعب أنه سئم من كثرة طلب الصدقة، فطلب كعب رهناً، ثم تفاوضوا في الرهن، ثم وافق كعب على أن يرهنوه السلاح.
ثم جاء محمد بن مسلمة بعد ذلك ليلاً إلى الحصن ومعه أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادوه بعد أن قال لهم عمرو بأنه سيستأذن كعباً في شم رائحة الطيب الذي في شعر كعب ليتمكن منه ثم يقتله الآخرون، وكان كما قال، المصدر؛ صحيح البخاري » كتاب المغازي » باب قتل كعب بن الأشرف.
سب النبي صلى الله عليه وسلم في ظل عهد أو أمان أو ذمة أو هدنة مع دولة إسلامية غدرٌ وخيانة لا تخفى على الكافر المعاهد أو الذمي أو المستأمن، وتقدَّم أن خداع الغادر ليس غدراً لأن العقد انتقض بغدر الغادر، ما لم يُجدد له العقد بشرط ترك الغدر، وقد ورد عند البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد مقتل كعب بن الأشرف: (الحرب الخدعة).
وخلاف العلماء في حادثة قتل كعب بن الأشرف ليس في أن قتله لم يكن غدراً، وإنما خلافهم في سبب عدم تسمية ما فعله النفر الذين قتلوه من الصحابة رضي الله عنهم أماناً، وفي اعتبار السبب الذي به عُد كعبٌ ناقضاً للعهد الذي كان بينه وبين المسلمين، كما اختلفوا في تسمية قتل كعب فتكاً.
من سمى قتل كعب بن الأشرف فتكاً من العلماء إنما قصد المعنى اللغوي للفتك؛ وهو القتل على حين غرة جهاراً، ومن عرَّف الفتك اصطلاحاً بأنه قتل من له أمان غدراً استنكر تسمية قتل كعب بن الأشرف فتكاً، والغيلة لغةً القتل خُفيةً، ولم أجد من اعترض على تسمية قتل كعب بن الأشرف غيلة.
ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ خداع كعبٍ ليس أماناً لأنهم لم يصرحوا له بالأمان، وهذا لا يصح لأن شبهة الأمان كحقيقته، والأمان يثبت بأقل من فعلهم بكثير، والصحيح أنَّ فعلهم ليس أماناً لأنَّ الأمان قد نقضه كعب قبل ذلك، فهو خدعة حربية، ولا يصح تسميته أماناً لأن ذلك يوحي بأنه غدرٌ، وتقدم أنَّ المعاملة بالمثل ليست غدراً لأن حقيقة الغدر عدم الوفاء بالعهد، والعهد نقضه البادي وهو الغادر، إلا إذا أعطي أماناً جديداً بشرط ترك الغدر فإنه لازم.
قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى: (ذكر مسلم فيه قصة محمد بن مسلمة مع كعب بن الأشرف بالحيلة التي ذكرها من مخادعته، واختلف العلماء في سبب ذلك وجوابه.
فقال الإمام المازري: إنما قتله كذلك لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه وسبه، وكان عاهده ألا يعين عليه أحداً، ثم جاء مع أهل الحرب معيناً عليه، قال: وقد أشكل قتله على هذا الوجه على بعضهم، ولم يعرف الجواب الذي ذكرناه.
قال القاضي: قيل هذا الجواب، وقيل: لأن محمد بن مسلمة لم يصرِّح له بأمان في شيء من كلامه، وإنما كلمه في أمر البيع والشراء، واشتكى إليه، وليس في كلامه عهد ولا أمان، قال: ولا يحل لأحد أن يقول إن قتله كان غدراً، وقد قال ذلك إنسان في مجلس علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأمر به علي فضرب عنقه، وإنما يكون الغدر بعد أمان موجود، وكان كعب قد نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ورفقته، ولكنه استأنس بهم فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان.
وأما ترجمة البخاري على هذا الحديث بباب الفتك في الحرب فليس معناه الحرب، بل الفتك هو القتل على غرة وغفلة، والغيلة نحوه، وقد استدل بهذا الحديث بعضهم على جواز اغتيال من بلغته الدعوة من الكفار وتبييته من غير دعاء إلى الإسلام
)[2].
قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: (قدْ ذهب بعْض من ضلّ فِي رَأْيه، وزلّ عنِ الْحق، إِلى أَن قتل كَعْب بْن الْأَشْرَف كَانَ غدرًا، وفتكًا، فأبعد الله هَذَا الْقَائِل: وقبّح رَأْيه من قَائِل، ذهب عليْهِ معنى الْحدِيث، والتبس عليْهِ طريقُ الصَّوَاب، بل قدْ رُوِي عنْ أبِي هُريْرة، عنِ النّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنّهُ قَالَ: «الإِيمانُ قيْدُ الفتْكِ، لَا يفْتِكُ مُؤْمِنٌ»، والفتكُ أَن يُقتل من لهُ أَمَانه فَجْأَة، وَكَانَ كَعْب بْن الْأَشْرَف مِمَّن عَاهَدَ رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن لَا يُعين عليْهِ أحدا، وَلَا يُقاتله، ثُمّ خلع الْأمان، وَنقض الْعَهْد، وَلحق بِمَكَّة، وَجَاء مُعْلنا معاداة النّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهجوه فِي أشعاره، ويسبه، فَاسْتحقَّ الْقَتْل لِذلِك)[3].
وكذلك اختلفوا في سبب الغدر الذي استحق به كعب بن  الأشرف المعاملة بالمثل، فذهب بعضهم إلى أن سبب ذلك هو أنَّ كعباً نقض العهد بتحريضه أهل مكة على قتال النبي صلى الله عليه وسلم عندما لحق بمكة كما سبق في كلام البغوي والمازري رحمهما الله، وذهب آخرون إلى أن سبب ذلك هو إعلان عداوته بسب النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه بعد عودته من مكة إلى المدينة.
ورجح ابن تيمية رحمه الله القول الثاني، وهو الصحيح، لأن سب النبي صلى الله عليه وسلم غدرٌ في ظل عهد مع دولة إسلامية، ولأن عداوته ثبتت بعد عودته المدينة ومجاهرته بسب النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه والتشبيب بنساء المسلمين، والمعلوم أن الحدود تُدرءُ بالشبهات، وأنه لا يعاقب إلا من ثبتت إدانته.
وأشكل على بعض الناس ما قد يبدو من تسمية ابن تيمية للخدعة أماناً ظناً منهم أنه يجيز الغدر، وليس الأمر كما ظنوا كما سيأتي مزيد نقل وتوضيح إن شاء الله تعالى، فقد بين ابن تيمية في مواضع كثيرةٍ من كتاب الصارم المسلول أن كعباً كان ناقضاً للعهد، وأنَّ سب النبي صلى الله عليه وسلم نقض للعهد والأمان، ولذا سماه في موضع من المواضع؛ ظاهر أمان لبيان أنه ليس بأمان ولا بشبهة أمان، وقد تقدم أن أمان الغادر لا يعد أماناً بعد نقضه إياه بغدره وإنما يعد خدعة حربية إلا إذا جُدد له الأمان بشرط ترك الغدر في حق غير الساب.
فمما قد يُشكل على بعض الناس قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم، والنفر الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن الأشرف جاؤوا إليه على أن يستلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد آمنهم على دمه وماله، وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه، ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى وهذا كله يثبت الأمان)[4].
فقوله: (يثبت الأمان)؛ يعني في حق غير الغادر، وأما في حق الغادر المُحارب فهو خدعة، والعهد في قوله: (وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه) ليس هو العهد الذي كان بين كعب والمسلمين، وإنما هو العهد بينه وبين محمد بن مسلمة ومن معه رضي الله عنهم عندما واعده محمد بن مسلمة على أن يأتوه ليلاً ليرهنوه السلاح.
مما يزيل الإشكال في فهم كلام ابن تيمية السابق قوله فيمن يسب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة: (ولا يقال فيهم؛ فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان وشبهة الأمان كحقيقة، فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أماناً كان في حقه أماناً وإن لم يقصده المسلم.
لأنا نقول؛ لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا وسب نبينا، وهم يدرون أنا لا نعاهد ذمياً على مثل هذه الحال، فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها
)[5].
حقيقة قول ابن تيمية رحمه الله في قتل كعب بن الأشرف هي أن قتله كان لغدره بسب النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه وإعلانه المحاربة بذلك، وأنه لم يكن لنقض العهد الأول ولا لمجرد الكفر مع عدم العهد، وأن من نقض العهد غدراً بسب النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعقد له عهد بعد السب يُعصم به دمه سواءٌ كان أماناً أو هدنةً أو ذمةً، وعلل ذلك بأنه حد لا يسقط بشيء من ذلك.
يؤكد ذلك رده قول الواقدي رحمه الله بأنَّ كعباً لم يكن معاهداً مع بيان أن السب نقض، ومن ذلك قوله: (الدليل السابع؛ أن ناقض العهد بسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه حاله أغلظ من حال الحربي الأصلي وخروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين وأذى الله ورسوله ومثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة يزجر أمثاله عن مثل حاله)[6].
ومما قد يُشكل على بعض الناس كذلك قول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وقد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان ونقض العهد قبل هذا، وزعم أن مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغرة، لكن يقال: هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمناً، وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر، فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه، وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله ومن حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان ولا عهد)[7].
فاعتراض ابن تيمية رحمه الله على قول الخطابي رحمه الله في أمرين؛ الأمر الأول؛ قول الخطابي أن الغدر الذي به قتل كعب هو الأول الذي كان في مكة، لأن الصحيح هو أن الغدر الأول تأكد بالثاني وهو سب النبي صلى الله عليه وسلم، فالغدر الثاني هو سبب قتل كعب بن الأشرف، والأمر الثاني؛ قول الخطابي رحمه الله بجواز مثل هذا الخداع في الكافر الذي لا عهد له، وتمثيله لذلك بالتبييت والإغارة على من لا عهد له، ولذا رد عليه ابن تيمية رحمه الله بأنه لو كان كذلك لصار مستأمناً بالكلام الذي كلموه به، بخلاف الغادر الذي استحق المُعاملة بالمثل لانتفاء العهد بنقضه أياه بغدره، وقوله: (ومن حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان ولا عهد)؛ يعني أنه لا يجوز تجديد الأمان والعهد للساب.
فما حدث من النفر الذين قتلوا كعباً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ليس بأمان ولا عهد، وإنما هو خدعة حربية، وقد سبق أن من غدر بغير ذلك وأُعطي أماناً جديداً بشرط ترك الغدر أنه يجب الوفاء بالعهد الجديد معه، فعدم الوفاء بالعهد الجديد غدر محرم، وخدعة الغادر من غير تجديد العهد بشرط ترك الغدر ليس غدراً كما سبق، لأن العهد انتقض بغدر الغادر إلا إذا جُدِّد بشرط ترك الغدر في حق غير الساب والحدود.
يؤكد المراد من كلام ابن تيمية قوله رحمه الله: (وقد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف، فظن أن دم مثل هذا يعصم بذمة متقدمة أو بظاهر أمان، وذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حتى ظن أن العهد لا ينتقض بذلك)[8].
فالمعنى أن الذمة تتضمن التزام الذمي بعدم السب كما تقدم، فقوله متقدمة عن الذمة فيه تأكيد بيان أن الساب نقضها وأنه لم تعد له ذمة بسبه، وقوله ظاهر أمان فيه إشارة إلى أنه خداع ظاهره أمان، وقوله بأن العهد ينتقض بالسب فيه بيان أن الساب غادر، وقد كرر ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا المعنى كثيراً في كتاب الصارم المسلول.
ثم قال ابن تيمية رحمه الله: (ذُكِر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين: كان قتله غدراً، فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تنكر؟ والله لا يظلني وإياك سقف بيت أبداً، ولا يخلوا لي دم هذا إلا قتلته)[9].
وقال ابن حجر رحمه الله: (وروى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف كان شاعراً، وكان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه كفار قريش)[10].
فاغتيال كعب بن الأشرف لم يكن غدراً بإجماع العلماء واتفاقهم، وإنما كان لنقضه العهد غدراً، فقد دخل كعب بن الأشرف في أمان المسلمين ثانية بعودته إلى المدينة، وكان قد غدر قبل ذلك بالمسلمين بتحريض كفار قريش عليهم، ثم أعلن الغدر بعد عودته إلى المدينة بسبه النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه والتشبيب بنساء المسلمين، فكان بذلك محارباً معلناً للعداوة.
فإذا ثبت هذا فإن الاغتيالات التي يدعو لها الغلاة غدر محرم، وما لم يكن منها غدر فإنَّ ضررها أعظم، وفارقت هذه العلميات أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف من جهة أن كعباً كان يعلم أنه بسبه وهجائه النبي صلى الله عليه وسلم قد نقض العهد غدراً كما سبق في كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولا يمكن أن يعلم غير المسلمين بذلك في ظل دولة تغلب عقد المواطنة على عقد  الإسلام، فلا يكون السب غدراً إلا في ظل دولة إسلامية أو دولة ينص دستورها على قتل الساب، وفارقت علميات الغلاة قتل كعب أيضاً من جهة أن الآمر بقتله هو ولي أمر المسلمين وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جهة رجحان المصلحة في قتله.
فالعمليات في بلاد الكفار فيها غدر بالأمان، لسماح الكفار بالدخول كطلاب دراسة أو لجوء ونحو ذلك، وسبق أنه لا فرق بين تأشيرة مزورة وحقيقية لاتفاق الفقهاء على أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدماء.
وأما اغتيال الكفار في بلاد المسلمين فهو كذلك غدر، لأن الكفار يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات وأمان من المسلمين أو أحدهم، وإذا كان الحاكم أو من أمنهم كافراً، فتلك شبهة أمان لأن الكفار لا علم لهم بذلك ولا بما يلزمهم في بلاد المسلمين مما يقره شرعنا، بل قد يعلمون أن كثيراً من حكام المسلمين يسمحون لهم بما لا ينبغي لهم لغلبة عقد المواطنة على عقد الإسلام في كثير من بلاد المسلمين اليوم.

المصادر

[1] تفسير القرطبي (ج15/ص362) » [سورة فصلت (41): الآيات 33 إلى 36]، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ - 1964 م.
[2] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (ج12/ص160) » كتاب الجهاد والسير » باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392.
[3] شرح السنة (ج11/45)، حقيق: شعيب الأرنؤوط-محمد زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ - 1983م.
[4] الصارم المسلول ص 287، تحقيق؛ محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية.
[5] الصارم المسلول، ص 12.
[6] الصارم المسلول ص 288.
[7] الصارم المسلول ص 89.
[8] الصارم المسلول، ص 89-90.
[9] الصارم المسلول، ص 90.
[10] فتح الباري (ج7/ص337) » كتاب المغازي » باب قتل كعب بن الأشرف، دار المعرفة - بيروت، 1379هـ.
pdf

الإفساد في ديار الحرب     المحتويات    حكم المناصرة على بلد الإقامة أو التجنس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق