تنقسم العقود باعتبار مدتها إلى أربعة أقسام؛ مؤقتة، ومطلقة، وكلاهما إما جائزة أو لازمة.
والعقود المطلقة اللازمة تسمى دائمة، ولكن كلمة دائمة في العقود موهمة، وذلك لأنه لا يوجد عقد دائمٌ بحيث لا يمكن إلغاؤه بأي حال، فالعقود اللازمة تُلغى عند وجود سبب، وكثيراً ما تحدث أسباب الإلغاء.
فالعقود اللازمة هي التي لا يجوز لأحد طرفي العقد إلغاءها إلا بسبب، وهي تقابل الجائزة التي يجوز لأحد الطرفين إلغاءها دون سبب.
العقود المؤقتة لازمة إلى انتهاء المدة ما لم يُنص على أنّها جائزة.
والعقود المطلقة لازمة إذا كان العقد على مصلحة ضرورية، أو إذا ترتب على إلغائها ظلم الطرف الآخر، وذلك لأن المصلحة الضرورية هي التي يترتب على فواتها ضرر.
والعقود المطلقة جائزة إذا كانت على مصلحة حاجية ولم يترتب على إلغائها ظلم.
والعقود مع الكفار إما ذمّة أو أمان (فردي) أو عهد (جماعي).
والذمة عقد مطلق لازم (دائم)، والأمان مؤقت إما بدخول الحربي دار الإسلام أو دخول المسلم دار الحرب بأمان.
العقد الجماعي مع الكفار يجوز مطلقاً ومؤقتاً.
والأصل في علاقات السِلم الإطلاق، ولذا قال ابن القيم رحمه الله: (وعامة عهود النبي ﷺ مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة) [1]، ويأتي الكلام على قوله: (جائزة غير لازمة).
فلأنّ مصلحة السلم ضرورية، ولآية نبذ العهد إلى من خيفت خيانتهم، فلا يجوز إلغاء عهد السلم المُطلق إلا بسبب خوف الخيانة بظهور أماراتها لاحقاً أو سابقاً.
ومن الأسباب السابقة؛ قتال المسلمين قبل قوة المُسلمين أو إخراجهم من ديارهم أو التضييق عليهم.
ودليل هذا هو قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾.
وهذه الآية أصل في حكم النبذ (قطع العلاقات الدبلوماسية).
ووردت الإشارة إلى نبذ العهد إلى المعاهدين في قول الله تعالى: ﴿بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾.
وتدلّ آيات السيف على أنّ البراءة من عهود المشركين كانت بسبب خوف خيانتهم بسبب ما فعلوه بالمسلمين قبل قوتهم.
منها قول الله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ۸].
وقد دلّ العرف على عدم الإلزام بالعهد مع ظهور أمارات الغدر لدلالة العقل على أن فيه ضرر على من لا يغدر، ودل العُرف كذلك على أن عهد من احتُلت ديارهم وأخرجوا منها جائز، وذلك لدلالة العقل على أنهم مضطرون للعهد.
ويستثنى من ذلك ما إذا نُص في الاتفاق على أن العهد المُطلق جائز، كما في قول النبي ﷺ ليهود خيبر: (نقركم ما شئنا) أو (ما أقركم الله).
ولكن يُشترط إذا خيفت الخيانة نبذ العهد إلى الطرف الآخر قبل إعلان حربه ما لم يغدر.
فإذا غدر جازت مباغتته، وذلك لأن العهد انتقض بالغدر.
والنبذ إلى المعاهد هو إعلامه بإلغاء العهد، ويُعرف النبذ إلى المعاهدين اليوم بقطع العلاقات الدبلوماسية.
والعلاقات الدولية في عصرنا كذلك مطلقة، ولذا صرح زعماء بعض الدول بأنه ليس لهم أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون وأنَّ مصالحهم هي الدائمة.
فالعلاقات الاستراتيجية لا تحددها مدة العلاقة، وإنما تحددها المصالح الدائمة المشتركة.
والمصلحة الكلية الضرورية المقدَّمة على كل المصالح عند المسلمين هي مصلحة الدين؛ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في العهود المطلقة مع الكفار: (وذلك أنَّ الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا) [2].
وأصل جواز العهد المطلق في القرآن والسنة والقواعد المجمع عليها.
أما في القرآن فعموم الآيات التي فيها جواز السلم، ومن ذلك قول الله تعالى ذكرُهُ: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وقول الله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
فهذه الآية عامة في أصحاب العهود المقيدة والمطلقة، فهي تشمل من كان على عهد مطلق قبل الحديبية مثل بني ضمرة وبني مدلج، ثم جددوا عهدهم بدخولهم في حِلف قريش، وفي مبحث آيات السيف والبراءة مزيد تفصيل.
وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين أنَّ النبي ﷺ قال لأهل خيبر: (نقركم ما شئنا)، أو (ما أقركم الله).
وفي الحديث عقد مطلق جائز بإقرار اليهود على البقاء في خيبر وعلى نصف تمرها، وهو جائز لأنّ النبي ﷺ نص فيه على الخيار للمسلمين، وهذا بسبب غدر اليهود.
أما القواعد المجمع عليها فقد دلّت على أن الأصل في وسائل العبادات التي هي من جنس الأشياء الدنيوية الإرسال إلا لنص (مصالح مرسلة).
ولهذا استدل ابن القيم رحمه الله على جواز العهود المطلقة بأن الأصل في العهود مراعاة المصلحة.
فكما أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا لنص، فالأصل فيها إذا كانت وسائل عبادات أنها مصالح مرسلة، ولولا أنها عبادة لكونها وسيلة لعبادة لكانت من المباحات.
وتُعرف الأشياء الدنيوية بكونها مشتركة بين المسلمين وغيرهم كالنوم والطب ونحوهما، والعهود مشتركة بين الناس.
والفرق بين المصالح المرسلة والمباحات؛ أن المصالح المرسلة يُشترط لها عدم وجود المصلحة المقتضية لها أو وجود مانع من فعلها في عهد الرسالة، بينما لا تشترط هذه الشروط للمباح.
وشروط المصلحة المرسلة إنما هي بالنسبة إلى عهد الرسالة والتشريع لا غيره.
فالعهود المطلقة مثل المؤقتة في وجوب الوفاء بها، فالغدر محرمٌ مطلقاً، فلا يجوز نبذ العهود المطلقة والمؤقتة عندما يتقوى المُسلمون إلا بسبب خوف الخيانة ما لم يُشترط جواز النبذ.
وسبق أن خوف الخيانة يكون بظهور أماراتها بعد العهد أو قبله، قبله بنحو قتال المسلمين وإخراجهم من ديارهم والتضييق عليهم، وبعده بنحو التضييق على الأقليات ومنع الدعوة والإعداد لقتال المسلمين.
وسبق كذلك أن النبذ شرط لإعلان الحرب، وأنه يعني الإعلام بإلغاء العهد، وأنه يُعرف حديثاً بقطع العلاقات الدبلوماسية.
والمباغتة قبل النبذ غدرٌ لأن خوف الخيانة ظن بخلاف الخيانة، وذلك خلافاً لخداع من ثبتت خيانته، فلا يشترط إعلام من ثبتت خيانته لأن العهد انتقض بخيانته.
فإذا غدر العدو ونقض شرطاً في عهد مؤقت أو مُطلق جاز خداعه وجازت مباغتته بغير نبذ إليه، لأن العهد انتقض بغدره.
فالنبي ﷺ خرج لقتال أهل مكة سراً بعد سنتين من صلح الحديبية الذي كانت مدته عشر سنوات، وذلك لغدر قريش بإعانة حلفائها على حلفاء المُسلمين.
وليس في نبذ عهد من خيفت خيانته غدر، لأن خوف الخيانة يكون بظهور أماراتها لاحقاً أو سابقاً.
قال الطبري رحمه الله في تفسير الآية: (وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر) [3].
وقال أيضاً: (فإن قال قائل: وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة، و"الخوف" ظن لا يقين؟ قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: إذا ظهرت أمار الخيانة من عدوك، وخفت وقوعهم بك، فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب. وذلك كالذي كان من بني قريظة) [4].
اشتراط التأقيت في كل العلاقات لا يصح من جهة النظر بعد النص، فعهد السلام المطلق هو المتعارف عليه بين البشر، ولم يكن بالإمكان أن تكون العقود كلها مؤقتة، فقد كان المسلمون قلة في المدينة، وكانت حولهم قرى ومدن ودول قوية وامبراطوريتين عظيمتين.
وفي هذا تأكيد قول ابن القيم رحمه الله: (وعامة عهود النبي ﷺ مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة) [1].
قال الطبري رحمه الله تعالى في إشارة إلى جواز العهد المطلق (أجل غير محدود): (انسلاخ الأشهر الحرم، إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين مع رسول الله ﷺ، والأشهر الأربعة لمن له عهد، إما إلى أجل غير محدود، وإما إلى أجل محدود قد نقضه) [5].
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في جواز العهود المطلقة: (والقول الثاني - وهو الصواب - أنه يجوز عقدها مطلقة ومؤقتة، فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة، ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة، والوكالة، والمضاربة، ونحوها جاز ذلك، لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء. ويجوز عقدها مطلقة، وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد، بل متى شاء نقضها، وذلك أن الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا) [2].
إطلاق القول بجواز النبذ إلى أصحاب العهود المطلقة بدون سبب مخالفٌ للنص الواضح في اشتراط خوف الخيانة لنبذ العهود إلى أصحابها.
ومستند هذا القول وقول من اشترط التأقيت في العهود هو أنّ اللزوم يؤدي إلى إلغاء جهاد الطلب، وهو وهمٌ لأنّ الأصل في الكفار العداوة والمقاتلة ونقض العهود.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾.
فالعهود المطلقة لازمة ما لم يُشترط فيها الجواز.
وذلك لعموم قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾.
فدلّت الآية بعمومها على أنها لا تختص بأصحاب العهود المؤقتة كما زعم بعضهم، وهي صريحة في أنها تشمل كل صاحب عهد مطلقاً كان أو مؤقتاً.
وفي الآية نصٌ على اشتراط خوف الخيانة لجواز نبذ العهد بأداة الشرط إنْ التي أُدغمت نونها في ما، وجواب الشرط متوقفٌ على فعله.
ومفهوم الشرط حجّة ما لم يدلّ الشرع على إلغائه أو يدل السياق على أنه غير مراد أو تدل على ذلك القرائن، فكيف إذا شهدت باعتباره الأدلة الشرعيّة والقواعد المرعيّة؟
ولذا قال ابن القيم رحمه الله في معنى هذه الآية: (فإذا لم يخف منهم خيانة لم يجز النبذ إليهم) [6]، ولكن لا يصح تخصيصه الآية بأصحاب العهود المؤقتة.
ويدل على عموم الآية أن قوم نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، فهي تشمل أصحاب العهود المطلقة والمؤقتة، بل وتشمل غير المعاهدين المُسالمين باعتبار العهد العُرفي.
وقول المفسرين بأن الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير يدل على شمولها لأصحاب العهود المُطلقة، وذلك لأن عهد النبي ﷺ مع بني قريظة وبني النضير كان مطلقاً.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: (فكذلك حكم كل قوم أهل موادعة للمؤمنين ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله ﷺ وأصحابه من قريظة منها) [7].
وقول النبي ﷺ: (نقركم ما شئنا) فيه دليل على أنه إذا لم يُشترط إلغاء العهد المُطلق دون سبب كان لازماً، لأنه لو لم يكن لازماً في الأصل ما احتاج إلى قوله: (نقركم ما شئنا).
يؤكد أن خوف الخيانة شرط؛ قول المُفسرين بأن شرطي النبذ وخوف الخيانة لإعلان حرب هما للسلامة من الغدر والخيانة، فإنَّ قبول السلم حال الضعف ثم فرض الجزية حال القوة لغير سبب فيه انتهازية واضحة تنزه عنها الشريعة الباهرة التي تدل بكمالها على أنها من لدن حكيم خبير، ولهذا قال الله عز وجل في آخر الآية:إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾، وفي مبحث؛ آيات السيف والبراءة مزيد شرح واستدلال.
يُؤكد لزوم العهود المُطلقة أن آيات براءة تشمل أصحاب العهود المطلقة كما قال أهل التفسير، وفي آيات براءة نبذ عهود المُشركين، وفيها من الاحتياط لعدم الغدر؛ إمهال المشركين لأجلٍ قدرُهُ أربعة أشهر لأصحاب العهود، وانسلاخ الأشهر الحُرم لمن ليس له عهد، وهذا من كمال هذه الشريعة وتنزهها عن الغدر.
ولدلالة العقل والعرف على أن السِلم المُطلق لازمٌ، فلا ينتقض إلا بحدوث خيانة، ولا يُلغى إلا بسبب خوف الخيانة بأمارات سابقة لقوة المسلمين أو بعدها.
ولا يصح تشبيه عقود السِلم بعقود الشراكة ونحوها، لأن مصلحة السلم ضرورية والأصل في مصلحة الشراكة المُطلقة أنها حاجية.
واختلف العلماء في عقود الشراكة المطلقة هل هي عقود جائزة أم لازمة، وذهب المالكية إلى أن الأصل فيها أنها لازمة وأنها تكون جائزة باشتراط ذلك، وحجّتهم في ذلك حديث؛ (نقركم ما شئنا) لأنّه في الصُلح والمساقاة.
وأصح الأقوال في عقود الشراكة المُطلقة أنها جائزة ما لم يترتب على إلغائها ضرر وظلم، وذلك لأن مصلحة الشراكة حاجيّة في الأصل، ولأن الأصل في المُعاملات الإباحة إلا لنص، ولم يرد نص يدل على أن الشراكة لازمة في كل حال، ودلت النصوص على منع كل ما فيه ظُلم أو ضرر.
وحال الأمم مع المسلمين هو أنهم إما معاهدون أو غير معاهدين، والعهد إما أن يكون مؤقتاً أو مطلقاً.
وتقدّم أنّه لا يوجد في العلاقات الدولية القديمة والحديثة عهد دائمٌ لا يُلغى بحال، فالعهد المطلق يجوز إلغاؤه بسبب خوف الخيانة بظهور علاماتها لاحقاً أو بظلم سابق.
وتقدم حكم أصحاب العهود المطلقة والمؤقتة، فما حُكم من لا عهد لهم مع المسلمين؟
اختلف الفقهاء في حُكم إنذار من لا عهد لهم قبل غزوهم، والصحيح أن حكمهم حكم أصحاب العهود المطلقة.
وذلك للإطلاق في قول الله جل ثناؤهُ: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾، فهي شاملة لأصحاب العهود العرفيّة.
فيجب في كل المسالمين إنذارهم، ولا يُغزون ولا يلزمون بجزية إلا بسبب خوف الخيانة بظهور أماراتها بنحو التضييق على الأقليات في الدعوة إلى الإسلام.
فالغرض هداية الخلق، وللأمر بالإحسان إلى الناس وتأليف قلوبهم للإسلام، ولأن الأصل في العلاقات السِلم، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
مما سبق يُعلم أن العهد المطلق مع من يُخرج المسلمين من ديارهم ويحتلها جائزٌ غير لازم، وذلك لأنّ المُحتل غادر ومخالف للأعراف والمواثيق الدولية.
وتجوز العلاقات المطلقة مع أهل البدع المغلظة كالروافض، على أن تكون علاقةً حذرة.
فالعلاقة الكلية المستقرة (الاستراتيجية) تبنى على المصالح الضرورية الدائمة المشتركة.
ومصلحة حفظ الدين مقدّمة على غيرها، وضرر أهل البدع المكفرة على المسلمين أعظم من ضرر الكافر الأصلي، إضافة إلى استحلالهم دماء وأعراض وأموال أهل السنة.
ويجوز في العهود المطلقة والمؤقتة أن يصحبها تبادل المنافع التجارية والمعرفية ونحوها من المنافع، بما في ذلك التمثيل الدبلوماسي بإنشاء السفارات والقنصليات والمراكز والأبحاث ونحو ذلك.
فالأصل في السياسة الشرعية الإرسال (مصالح مرسلة) والإباحة إلا لنص.
ومصالح الدنيا الضرورية لحفظ الدين مقدمة كذلك، فالدنيا تخدم الدين، ولذا قدم الله تعالى ذكر جهاد المال على جهاد النفس.
فالتهور في قطع العلاقات وخوض الحروب فيه ضرر على المسلمين وقوتهم الاقتصادية والعسكرية، وتعريض المسلمين للمصائب التي لا يطيقونها فيه خطورة على دينهم كما في أسر النساء والأطفال.
ومن تمام التوكل على الله عز وجل عدم خوف العيلة والفقر بامتثال ما أمر الله به حال قوة المسلمين.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
وإذا كان الفقهاء قد قالوا بجواز دفع مال للكفار عند ضعف المسلمين لكف شرهم، فمن باب أولى جواز اتفاقات معهم فيها مصلحة مالية للكفار وبعض المنافع للمسلمين.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم، فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه، وهو مذهب الشافعي; لأن فيه صغاراً للمسلمين، وهذا محمول على غير حال الضرورة، فأما إن دعت إليه ضرورة، وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر، فيجوز; لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال، فكذا ها هنا، ولأن بذل المال إن كان فيه صغار، فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه، وهو القتل، والأسر، وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم) [8].
المصادر
[1] أحكام أهل الذمة (ج2/ص877)، الطبعة السابقة.
[2] أحكام أهل الذمة (ج2/ص876)، المحقق؛ يوسف بن أحمد البكري - شاكر بن توفيق العاروري، الناشر: رمادى للنشر – الدمام، الطبعة الأولى، 1418 – 1997م.
[3] تفسير الطبري (ج11/ص238) » [الأنفال: 58]، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
[4] تفسير الطبري (ج11/ص239) » [الأنفال : 58]، الطبعة السابقة.
[5] تفسير الطبري (ج11/ص317) » [التوبة: 1]، الطبعة السابقة.
[6] أحكام أهل الذمة (ج2/ص883)، الطبعة السابقة.
[7] تفسير الطبري جامع البيان (ج١١/ص٢٣٨) - ط هجر - أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت ٣١٠).
[8] المغني لابن قدامة (ج9/ص297)، الناشر: مكتبة القاهرة، تاريخ النشر؛ 1388هـ - 1968م.
[2] أحكام أهل الذمة (ج2/ص876)، المحقق؛ يوسف بن أحمد البكري - شاكر بن توفيق العاروري، الناشر: رمادى للنشر – الدمام، الطبعة الأولى، 1418 – 1997م.
[3] تفسير الطبري (ج11/ص238) » [الأنفال: 58]، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
[4] تفسير الطبري (ج11/ص239) » [الأنفال : 58]، الطبعة السابقة.
[5] تفسير الطبري (ج11/ص317) » [التوبة: 1]، الطبعة السابقة.
[6] أحكام أهل الذمة (ج2/ص883)، الطبعة السابقة.
[7] تفسير الطبري جامع البيان (ج١١/ص٢٣٨) - ط هجر - أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت ٣١٠).
[8] المغني لابن قدامة (ج9/ص297)، الناشر: مكتبة القاهرة، تاريخ النشر؛ 1388هـ - 1968م.
![]() |
![]() |
---|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق