تنقسم العقود باعتبار مدتها إلى ثلاثة أقسام؛ مؤقتة، ومطلقة جائزة، ومطلقة لازمة.
والعقود اللازمة تسمى دائمة، ولكن كلمة دائمة في العقود مضللة، وذلك لأنه لا يوجد عقد دائمٌ بحيث لا يمكن إلغاؤه بأي حال، فالعقود اللازمة تُلغى عند وجود سبب، وكثيراً ما تحدث أسباب الإلغاء.
فالعقود اللازمة هي التي لا يجوز لأحد طرفي العقد إلغاءها إلا بسبب، وهي تقابل الجائزة التي يجوز لأحد الطرفين إلغاءها دون سبب.
العقود المطلقة لازمة إذا كان العقد على مصلحة ضرورية، أو إذا ترتب على إلغائها ظلم الطرف الآخر.
والعقود المطلقة جائزة إذا كانت على مصلحة حاجية ولم يترتب على إلغائها ظلم.
العهود مع الكفار تجوز مطلقةً ومؤقتة، والأصل في علاقات السِلم الإطلاق، ولذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وعامة عهود النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة) [1].
وبما أن مصلحة السلم ضرورية، فلا يجوز إلغاء عهد السلم المُطلق إلا بسبب خوف الخيانة بظهور أماراتها لاحقاً أو سابقاً، ومن الأسباب السابقة؛ تكرار الغدر قبل قوة المُسلمين، والقتال في الدين، والإخراج من الديار، والمُظاهرة "المُعاونة" على شيء من ذلك، وذلك بدلالة النصوص والقواعد والمعاني الشرعية والعُرف.
دليل جواز نبذ العهد بسبب خوف الخيانة قول الله جل ثناؤُهُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.
وهذه الآية أصل في حكم النبذ (قطع العلاقات الدبلوماسية)، ووردت الإشارة إليه في قول الله تعالى: ﴿بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾.
وتدل آيات السيف على أن البراءة من عهود المشركين كانت بسبب خوف خيانتهم بسبب ما فعلوه بالمسلمين قبل قوتهم، منها قول الله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ۸].
وقد دل دل العرف على عدم الإلزام بالعهد مع ظهور أمارات الغدر لدلالة العقل على أن فيه ضرر على من لا يغدر، ودل العُرف كذلك على أن عهد من احتُلت ديارهم وأخرجوا منها جائز، وذلك لدلالة العقل على أنهم مضطرون للعهد.
ويستثنى من ذلك ما إذا نُص في الاتفاق على أن العهد المُطلق جائز، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر: (نقركم ما شئنا) أو (ما أقركم الله).
ولكن يُشترط إذا خيفت الخيانة نبذ العهد إلى الطرف الآخر قبل إعلان حربه ما لم يغدر، فإذا غدر جازت مباغتته، وذلك لأن العهد انتقض بالغدر، والنبذ هو الإعلام بإلغاء العهد، ويُعرف النبذ اليوم بقطع العلاقات الدبلوماسية.
والعلاقات الدولية في عصرنا كذلك مطلقة، وإذا كانت دائمة فإنها تكون دائمة بشروط تجعلها مثل المُطلقة اللازمة، ولذا صرح زعماء بعض الدول بأنه ليس لهم أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون وأنَّ مصالحهم هي الدائمة.
فالعلاقات الاستراتيجية لا تحددها مدة العلاقة، وإنما تحددها المصالح الدائمة المشتركة، والمصلحة الكلية الضرورية المقدَّمة على كل المصالح عند المسلمين هي مصلحة الدين؛ {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في العهود المطلقة مع الكفار: (وذلك أنَّ الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا) [2].
وأصل جواز العهد المطلق في القرآن والسنة والقواعد المجمع عليها.
أما في القرآن فعموم الآيات التي فيها جواز السلم، ومن ذلك قول الله تعالى ذكرُهُ: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وقوله تعالى -على الأرجح-: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
فالصحيح أن هذه الآية فيمن كان على عهد مطلق قبل الحديبية مثل بني ضمرة وبني مدلج، ثم جددوا عهدهم بدخولهم في حِلف قريش، وفي مبحث آيات السيف والبراءة مزيد تفصيل للراجح في معنى هذه الآية.
وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل خيبر: (نقركم ما شئنا)، أو (ما أقركم الله)، وفي الحديث إقرار اليهود على البقاء في خيبر وعلى نصف تمرها، فهو صُلح مطلق ومزارعة مطلقة، وكلاهما اتفاق جائز غير لازم لأنه اشتُرط فيه الجواز.
أما القواعد المجمع عليها؛ فقد دلت القواعد الفقهية المجمع عليها على أن الأصل في وسائل العبادات التي هي من جنس الأشياء الدنيوية الإرسال إلا لنص، يعني أنها مصالح مرسلة، ولهذا استدل ابن القيم رحمه الله تعالى على جواز العهود المطلقة بأن الأصل في العهود مراعاة المصلحة.
فكما أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا لنص، فالأصل فيها إذا كانت وسائل عبادات أنها مصالح مرسلة، ولولا أنها عبادة لكونها وسيلة لعبادة لكانت من المباحات، وتُعرف الأشياء الدنيوية بكونها مشتركة بين المسلمين وغيرهم كالنوم والطب ونحوهما، والعهود مشتركة بين الناس.
والفرق بين المصالح المرسلة والمباحات؛ أن المصالح المرسلة يُشترط لها عدم وجود المصلحة المقتضية لها أو وجود مانع من فعلها في عهد الرسالة، بينما لا تشترط هذه الشروط للمباح، وشروط المصلحة المرسلة إنما هي بالنسبة إلى عهد الرسالة والتشريع لا غيره.
والعهود المطلقة يجب الوفاء بها كالمؤقتة، وذلك لأن الغدر محرمٌ مطلقاً، فلا يجوز نبذ العهود المطلقة والمؤقتة عندما يتقوى المُسلمون إلا بسبب خوف الخيانة ما لم يُشترط جواز النبذ.
وسبق أن خوف الخيانة يكون بظهور أماراتها بعد العهد أو قبله، ومن ذلك؛ تكرار الغدر قبل قوة المُسلمين، والقتال في الدين، والإخراج من الديار، واحتلال الديار والأموال، والمُظاهرة على شيء من ذلك.
وسبق كذلك أن النبذ شرط لإعلان الحرب، وأن النبذ هو الإعلام بإلغاء العهد، وسبق أن النبذ يُعرف حديثاً بقطع العلاقات الدبلوماسية.
والمباغتة قبل النبذ غدرٌ لأن خوف الخيانة ظن بخلاف الخيانة، وذلك خلافاً لخداع من ثبتت خيانته، فلا يشترط إعلام من ثبتت خيانته لأن العهد انتقض بخيانته.
فإذا غدر العدو ونقض شرطاً من شروط عهد مؤقت أو مُطلق جاز خداعه وجازت مباغتته بغير نبذ إليه، لأن العهد انتقض بغدره، يدل على ذلك خروج النبي صلى الله عليه وسلم لقتال أهل مكة سراً بعد سنتين من صلح الحديبية الذي كانت مدته عشر سنوات، وذلك لغدر قريش بإعانة حلفائها على حلفاء المُسلمين.
وليس في نبذ عهد من خيفت خيانته غدر، لأن خوف الخيانة يكون بظهور أماراتها لاحقاً أو سابقاً بتكرار الغدر قبل قوة المُسلمين وسائر أنواع المُحاربة.
قال الطبري رحمه الله تعالى في تفسير الآية: (وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر) [3].
وقال أيضاً: (فإن قال قائل: وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة، و"الخوف" ظن لا يقين؟ قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: إذا ظهرت أمار الخيانة من عدوك، وخفت وقوعهم بك، فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب. وذلك كالذي كان من بني قريظة) [4].
اشتراط التأقيت في كل العلاقات لا يصح من جهة النظر بعد النص، فعهد السلام المطلق هو المتعارف عليه بين البشر، ولم يكن بالإمكان أن تكون العقود كلها مؤقتة، فقد كان المسلمون قلة في المدينة، وكانت حولهم قرى ومدن ودول قوية وامبراطوريتين عظيمتين، وفي هذا تأكيد قول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وعامة عهود النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة) [1].
قال الطبري رحمه الله تعالى في إشارة إلى جواز العهد المطلق (أجل غير محدود): (انسلاخ الأشهر الحرم، إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشهر الأربعة لمن له عهد، إما إلى أجل غير محدود، وإما إلى أجل محدود قد نقضه) [5].
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في جواز العهود المطلقة: (والقول الثاني - وهو الصواب - أنه يجوز عقدها مطلقة ومؤقتة، فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة، ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة، والوكالة، والمضاربة، ونحوها جاز ذلك، لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء. ويجوز عقدها مطلقة، وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد، بل متى شاء نقضها، وذلك أن الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا) [2].
وفي إطلاق القول بجواز النبذ إلى أصحاب العهود المطلقة لغير سبب نظر، فلا يصح القول بعدم جواز أن تكون العهود المطلقة لازمة التأبيد، ومستند هذا القول وقول من اشترط التأقيت في العهود هو أن اللزوم يؤدي إلى إلغاء جهاد الطلب، وليس الأمر كذلك لأن إلغاء العهد المطلق اللازم جائز عند خوف الخيانة بسبب لاحق للعهد أو سابق له.
فكما سبق فإن الأصل أن العهود المطلقة لازمة ما لم يُشترط فيها الجواز، فلا يجوز نبذها إلا بسبب خوف الخيانة، وذلك بظهور أماراتها بعد العهد أو قبله بتكرار الغدر قبل قوة المُسلمين، والقتال، والإخراج من الديار، والمُعاونة على شيء من ذلك.
ولتكرر غدر اليهود بالمسلمين اشترط عليهم النبي صلى الله عليه وسلم جواز العهد المطلق بقوله: (نقركم ما شئنا) أو (نقركم ما أقركم الله).
وذلك لعموم قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، فدلت الآية بعمومها على أنها لا تختص بأصحاب العهود المؤقتة، وأنها تشمل كل صاحب عهد مطلقاً كان أو مؤقتاً.
وفي الآية نصٌ على اشتراط خوف الخيانة لجواز نبذ العهد بأداة الشرط إنْ التي أُدغمت نونها في ما، وجواب الشرط متوقفٌ على فعله.
والصحيح الذي لا شك فيه في مفهوم الشرط أنه حجة ما لم يدل الشرع على إلغائه أو يدل السياق على أنه غير مراد أو تدل على ذلك القرائن، فكيف إذا شهدت باعتباره أدلة الشرع والقواعد المرعية؟
ولذا قال ابن القيم رحمه الله في معنى هذه الآية: (فإذا لم يخف منهم خيانة لم يجز النبذ إليهم) [6]، ولكن لا يصح تخصيصه الآية بأصحاب العهود المؤقتة.
ويدل على عموم الآية أن قوم نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، فهي تشمل أصحاب العهود المطلقة والمؤقتة، بل وتشمل غير المعاهدين المُسالمين باعتبار العهد العُرفي.
وقول المفسرين بأن الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير يدل على شمولها لأصحاب العهود المُطلقة، وذلك لأن عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع بني قريظة وبني النضير كان مطلقاً.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نقركم ما شئنا) فيه دليل على أنه إذا لم يُشترط إلغاء العهد المُطلق دون سبب كان لازماً، لأنه لو لم يكن لازماً في الأصل ما احتاج إلى قوله: (نقركم ما شئنا).
ولدلالة العقل والعرف على أن السِلم المُطلق لازمٌ في الأصل، فلا ينتقض إلا بحدوث خيانة، ولا يُلغى إلا بسبب خوف الخيانة، وخوف الخيانة يكون بظهور أماراتها بعد العهد أو قبله بتكرار الغدر قبل قوة المسلمين والقتال والإخراج من الديار واحتلالها والمظاهرة على شيء من ذلك، والمعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً.
ولا يصح تشبيه عقود السِلم بعقود الشراكة ونحوها، لأن مصلحة السلم ضرورية والأصل في مصلحة الشراكة المُطلقة أنها حاجية، فإلغاء عهد السلم يترتب عليه ضرر، بخلاف عقد الشراكة المطلقة الذي غالباً ما يترتب على إلغائه فوات مصلحة حاجية فقط.
واختلف العلماء في عقود الشراكة المطلقة هل هي عقود جائزة أم لازمة، وذهب المالكية إلى أن الأصل فيها أنها لازمة وأنها تكون جائزة باشتراط ذلك، وحجتهم في ذلك حديث؛ (نقركم ما شئنا) لأنه في الصُلح والمساقاة.
وأصح الأقوال في عقود الشراكة المُطلقة أنها جائزة، ولكن بشرط ألا يترتب على إلغائها ضرر أو ظلم، وذلك لأن مصلحة الشراكة المطلقة حاجية في الأصل، ولأن الأصل في المُعاملات الإباحة إلا لنص، ولم يرد نص يدل على أن الشراكة لازمة في كل حال، ودلت النصوص على منع كل ما فيه ضرر أو ظُلم.
يؤكد أن خوف الخيانة شرط؛ قول المُفسرين بأن شرطي النبذ وخوف الخيانة لإعلان حرب هما للسلامة من الغدر والخيانة، فإنَّ قبول السلم حال الضعف ثم فرض الجزية حال القوة لغير سبب فيه انتهازية واضحة تنزه عنها الشريعة الباهرة التي تدل بكمالها على أنها من لدن حكيم خبير، ولهذا قال الله عز وجل في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، وفي مبحث؛ آيات السيف والبراءة مزيد شرح واستدلال.
يُؤكد لزوم العهود المُطلقة أن آيات براءة تشمل أصحاب العهود المطلقة كما قال أهل التفسير، وفي آيات براءة نبذ عهود المُشركين، وفيها من الاحتياط لعدم الغدر؛ إمهال المشركين لأجلٍ قدرُهُ أربعة أشهر لأصحاب العهود، وانسلاخ الأشهر الحُرم لمن ليس له عهد، وهذا من كمال هذه الشريعة وتنزهها عن الغدر.
وحال الأمم مع المسلمين هو أنهم إما معاهدون أو غير معاهدين، والعهد إما أن يكون مؤقتاً أو مطلقاً، وتقدم أنه لا يوجد في العلاقات الدولية القديمة والحديثة عهد دائمٌ لا يُلغى بحال، وذلك لأن العهد المطلق اللازم يجوز إلغاؤه بسبب خوف الخيانة بظهور علاماتها لاحقاً أو بظلم سابق كتكرار الغدر قبل قوة المسلمين.
وتقدم حكم أصحاب العهود المطلقة والمؤقتة، فما حُكم من لا عهد لهم مع المسلمين؟
اختلف الفقهاء في حُكم إنذار من لا عهد لهم قبل غزوهم، والصحيح أن حكمهم حكم أصحاب العهود المطلقة، فيجب إنذارهم، ولا يُغزون ولا يلزمون بجزية إلا بسبب خوف الخيانة بظهور أماراتها، أو بسبب منع الدعوة إلى الإسلام في بلادهم، وذلك لأن الغرض هداية الخلق، وللأمر بالإحسان إلى الناس وتأليف قلوبهم للإسلام، ولأن الأصل في العلاقات السِلم، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
يدل على ذلك عموم كلمة قوم في قول الله جل ثناؤهُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، فهي شاملة لمن لا عهد لهم من جهة أن المُفترض في حقهم مُراعاة العهد العُرفي، فاستحق من يباغتهم عند خوف خيانتهم دون إعلام وصف الخيانة.
مما سبق يُعلم أن العهد المطلق مع من يُخرج المسلمين من ديارهم ويحتلها جائز غير لازم، فالمُحتل غادر ومخالف للأعراف والمواثيق الدولية، فيجوز النبذ إليه عندما يقوى المُسلمون.
وتجوز العلاقات المطلقة مع أهل البدع المغلظة كالشيعة الروافض، ولكن يجب أن تكون العلاقة معهم حذرة، ولا يمكن أن تكون علاقةً استراتيجية، وذلك لأن العلاقة الاستراتيجية تبنى على المصالح الضرورية الدائمة المشتركة، وتقدَّم أنَّ مصلحة حفظ الدين مقدمة على غيرها، وضرر أهل البدع المكفرة على المسلمين أعظم من ضرر الكافر الأصلي، إضافة إلى استحلالهم دماء وأعراض وأموال أهل السنة.
ويجوز في العهود المطلقة والمؤقتة أن يصحبها تبادل المنافع التجارية والمعرفية ونحوها من المنافع، بما في ذلك التمثيل الدبلوماسي بإنشاء السفارات والقنصليات والمراكز والأبحاث ونحو ذلك، لأن الأصل في السياسة الشرعية الإرسال (مصالح مرسلة) والإباحة إلا لنص، وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على نصف تمر خيبر.
والعهد المطلق لا يؤدي إلى تعطيل جهاد الطلب عند القدرة لأنَّ كثيراً من الدول الكُبرى والصغرى تخون وتغدر وتُعد لذلك فتظهر منهم أمارات الخيانة.
تقدَّم أن المصلحة الكبرى المقدمة على غيرها عند المسلمين هي مصلحة الدين، ولكن الدنيا تخدم الدين، ولذا قدم الله جهاد المال على جهاد النفس، والتهور في قطع العلاقات وخوض الحروب فيه ضرر على المسلمين وقوتهم الاقتصادية والعسكرية وبالتالي على حفظ الدين، وتعريض المسلمين للمصائب التي لا يطيقونها فيه خطورة على دينهم كما في أسر النساء والأطفال.
ومن تمام التوكل على الله عز وجل عدم خوف العيلة والفقر بامتثال ما أمر الله به حال قوة المسلمين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وإذا كان الفقهاء قد قالوا بجواز دفع مال للكفار عند ضعف المسلمين لكفاية شرهم، فمن باب أولى جواز اتفاقات مع الكفار فيها مصلحة مالية للكفار وبعض المنافع القليلة للمسلمين.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم، فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه، وهو مذهب الشافعي; لأن فيه صغاراً للمسلمين، وهذا محمول على غير حال الضرورة، فأما إن دعت إليه ضرورة، وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر، فيجوز; لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال، فكذا ها هنا، ولأن بذل المال إن كان فيه صغار، فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه، وهو القتل، والأسر، وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم) [7].
المصادر
[1] أحكام أهل الذمة (ج2/ص877)، الطبعة السابقة.
[2] أحكام أهل الذمة (ج2/ص876)، المحقق؛ يوسف بن أحمد البكري - شاكر بن توفيق العاروري، الناشر: رمادى للنشر – الدمام، الطبعة الأولى، 1418 – 1997م.
[3] تفسير الطبري (ج11/ص238) » [الأنفال: 58]، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
[4] تفسير الطبري (ج11/ص239) » [الأنفال : 58]، الطبعة السابقة.
[5] تفسير الطبري (ج11/ص317) » [التوبة: 1]، الطبعة السابقة.
[6] أحكام أهل الذمة (ج2/ص883)، الطبعة السابقة.
[7] المغني لابن قدامة (ج9/ص297)، الناشر: مكتبة القاهرة، تاريخ النشر؛ 1388هـ - 1968م.
[2] أحكام أهل الذمة (ج2/ص876)، المحقق؛ يوسف بن أحمد البكري - شاكر بن توفيق العاروري، الناشر: رمادى للنشر – الدمام، الطبعة الأولى، 1418 – 1997م.
[3] تفسير الطبري (ج11/ص238) » [الأنفال: 58]، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
[4] تفسير الطبري (ج11/ص239) » [الأنفال : 58]، الطبعة السابقة.
[5] تفسير الطبري (ج11/ص317) » [التوبة: 1]، الطبعة السابقة.
[6] أحكام أهل الذمة (ج2/ص883)، الطبعة السابقة.
[7] المغني لابن قدامة (ج9/ص297)، الناشر: مكتبة القاهرة، تاريخ النشر؛ 1388هـ - 1968م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق