يطلق السبب ويراد به المقصد وهو الحِكمة، فسبب تشريع الجهاد بمعنى مقصده هو منع عدوان الكفار وصدهم عن الدين والدعوة إليه.
يدل على ذلك النصوص التي تحرض المؤمنين على الجهاد معاملةً بالمثل.
من تلك النصوص؛ ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾، ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾، ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، ﴿وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، ﴿وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾.
وسمّى الله تعالى إيقاد نار الحرب إفساداً في الأرض في قوله جل ثناؤه: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.
قال ابن نجيم الحنفي رحمه الله: (وسبب الجهاد عندنا كونهم حرباً علينا وعند الشافعي هو كفرهم) [١].
وفي هذا المبحث بيان أنّ سبب الجهاد عند الشافعي قد يكون هو المحاربة أيضاً خلافاً لما فُهم من بعض إطلاقاته بدون ربطها بإحدى قواعده.
فتلك حِكمة تشريع الجهاد، وأمّا علّته فهي مركّبة من وصفين، يختلف الثاني حسب نوع الجهاد.
فجزء العلّة الأول في كلا نوعي الجهاد الكفر.
وجزء العلّة الثاني في جهاد الدفع المقاتلة.
وأمّا في جهاد الطلب فجزء العلّة الثاني هو خوف الخيانة.
وجهاد الطلب هو ما فيه تخيير بين الإسلام والجزية والقتال.
وخوف الخيانة يكون بظهور أماراتها لاحقاً أو بمحاربةٍ سابقة أو غدرٍ سابقٍ للعهد وقوّة المسلمين.
فمن لا تُخشى خيانتهم لا يُلزمون بجزية عند قوّة المسلمين والقدرة عليهم.
فلا يشرع أيّاً من نوعي الجهاد إلا بوجود جزأي علّته المركّبة ليكتمل الوصف علّةً مركّبةً للحُكم.
وهاتان العلّتان المركّبتان لنوعي الجهاد مناسِبتان للحُكمين بتضمّنهما المقاصد والحِكَم.
والعلة هي علامة الحُكم، وهي وصف ظاهر منضبط مناسب، يدور معه الحُكم وجوداً وعدماً.
والنصوص الدالّة على الجزء الثاني من علّة جهاد الطلب محكمة غير منسوخة، منها قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾.
فهذه الآية صريحة في اشتراط خوف الخيانة لنبذ العهد، وهي صريحةٌ كذلك في شمولها كلّ عهد مؤقّتاً كان أو مطلقاً عُرفياًّ كان أو نصيّاً.
وسبق في مبحث؛ حُكم العهد المطلق أنّ شمول الآية لأصحاب العهد العرفي هو بسبب عموم كلمة قوم (نكرةٌ في سياق الشرط)، وأنّ نبذ العهد إلى أصحابه هو إعلامهم بإلغائه، وأنّه يُعرف اليوم بقطع العلاقات الدبلوماسيّة.فتخصيص الآية بأصحاب العهود المؤقّتة لا دليل عليه كما شُرح في المبحث السابق
وأمّا النصوص الأخرى التي تدلّ دلالة صريحة مع آية نبذ العهد إلى أصحابه على علّة جهاد الطلب؛ فمنها قول الله جلّ ثناؤه: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ التوبة [۹: ١٣].
وهذا تعليل راسخٌ في النفوس مقرّر بالشرع، فإنّ الأسئلة التقريريّة والاستنكاريّة تخاطب الفطرة والبداهة العقليّة والشرعيّة، وقد وردت هذه الأسئلة في عدد من الآيات.
فمن تلك الأسئلة الاستنكاريّة قول الله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ [التوبة: ۸].
ففي هذه الآية تعليل وجوب ابتداء القتال بخوف الخيانة، وفي الآية السابقة ذكر أمارة خوف الخيانة، وهي أنهم بدؤوا الحرب ظلماً وعدوناً؛ ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
وهاتان الآيتان في سياق نبذ عهود المشركين إليهم بآيات براءة، فهما تفسير لآية نبذ عهود من خيفت خيانتهم إليهم، وأفضل تفسير للقرآن هو تفسيره بالقرآن.
فآيات السيف نبذت عهود المشركين إليهم؛ ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ التوبة [۹: ٣].
ولأنّ هذه الآيات من آيات السيف والبراءة، فإنها ليست منسوخة قطعاً، ودلالاتها محكمة، فلزم القول بها.
والنصوص المحكمة التي لم يُنقل أنّها منسوخة تقدّم على الإجماع الظني.
ولذا فإنّ أيّ قول مخالف لدلالتها يعتبر قولاً شاذاً، وأيّ إجماعٍ ظني مخالفٍ لدلالتها يعدّ متوهّهماً.
للمزيد حول الإجماع المظنون المخالف للنصوص؛ مدونتي » قواعد وأصول » الاتّباع في دليل الإجماع.
فهذه العلل مستنبطة من النصوص بفهم سلفي.
فالجهاد إنّما شرع لأنّ همّة الكفّار مقاتلة المسلمين، وتُعرف همّتهم بمحاربة سابقة أو بظهور علاماتها لاحقاً، إذ لو كانت تُعرف بمجرّد معرفتنا بها لما كان للشرط في آية نبذ العهد إلى من خيفت خيانتهم معنىً.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (فإن قال الإمام: أخاف خيانة قومٍ، ولا دلالة له على خيانتهم من خبرٍ ولا عيانٍ، فليس له - والله تعالى أعلم - نقض مدّتهم إذا كانت صحيحة؛ لأنّ معقولاً أنّ الخوف من خيانتهم الذي يجوز به النبذ إليهم لا يكون إلا بدلالة على الخوف) [٢].
وسبق نقل قول الطبري رحمه الله في أنّ خوف الخيانة يكون بظهور أماراتها وعلاماتها في؛ حكم العهد المطلق.
ولذا فإنّ؛ ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ ليست منسوخة ولا تعني نفي جهاد الطلب، فالمعنى؛ الذين همّتهم مقاتلتكم.
قال ابن كثير رحمه الله: (حتى قال: هذه منسوخة بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) [ التوبة : ٥ ] وفي هذا نظر; لأنّ قوله: (الذين يقاتلونكم) إنّما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همّتهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم.
كما قال: (وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة) [ التوبة : ٣٦ ]; ولهذا قال في هذه الآية: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) أي: لتكن همّتكم منبعثة على قتالهم، كما أن همّتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصاً) [٣].
وأمّا الحديث المتفق عليه؛ (أمرت أن أقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله، وأنَّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا منّي دماءهم وأموالهم، إلا بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله) [٤]، فلِفهمه على وجهه المراد، يجب فهم ثلاث مسائل؛
الأولى؛ الراجح في لام التعريف (ال) أنّها للعهد، فالمعنى؛ أمرتُ أن أقاتل هؤلاء الناس (مشركي العرب المحاربين الممتنعين عن دفع الجزية)، ويُلحق بهم من ماثلهم في المحاربة مع الامتناع عن دفع الجزية.
وعلى القول بأنّ الجزية لا تقبل من المشركين العرب أو كلّ المشركين عرباً وعجماً، يكون المراد المحاربين منهم.
وقد تكون لام التعريف (ال) التي للعهد في الحديث لأهل مكّة ومن حولها، ويكون سبب عدم قبول الجزية منهم شدّة محاربتهم الإسلام لا لكونهم مشركين ولا لكونهم عرباً، فيلحق بهم كل من اشتد في عدوانه قبل قوة المسلمين.
الثانية؛ أنّ الحديث في القتال وليس القتل.
الثالثة؛ أنّ الغاية في قوله: (حتى يشهدوا) هي غاية الكف عن القتال وليست غاية المقصد.
أمّا المراد بالناس، فلرواية؛ (أمرت أن أقاتل المشركين).
والإمام الشافعي رحمه الله يرى أنّ الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، وأنّ المشركين عرباً وعجماً لا تقبل منهم الجزية، وهو قول مرجوح.
فعلى هذا القول يكون الحديث فيمن خيفت خيانتهم من المحاربين من المشركين عرباً وعجماً.
ولا يبعد أن يكون هذا مراد الشافعي رحمه الله، فإنّ القول بابتداء قتال من لم يحارب ولم نخف خيانته مخالف للمقرّر بالنصوص المحكمة المستقرّ في الفطرة.
فممّا قد يبيّن قول الشافعي رحمه الله المطلق تقييده في مواضع منها ما يلي:
قال الإمام الشافعي رحمه الله فيمن تقبل منهم الجزية: (ومن كان من أهل الكتاب من المشركين المحاربين قوتلوا حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) [٥].
وقال أيضاً: (فإن اختلف حال العدوّ، فكان بعضهم أنكى من بعضٍ أو أخوف من بعضٍ، فليبدأ الإمام بالعدو الأخوف أو الأنكى) [٦].
وقد سبق نقل كلامه في أنّ خوف الخيانة يكون بدليل عليها لا بمجرد معرفة الإمام.
وقال أيضاً: (فلم يكن من الناس أحدٌ في أوّل ما بعث أعدى له من عوام قومه ومن حولهم، وفرض الله عز وجل عليه جهادهم فقال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ فقيل: فيه فتنة شرك ويكون الدين كلّه واحداً لله، وقال: في قومٍ كان بينه وبينهم شيء ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ﴾ الآية مع نظائر لها في القرآن) [٧].
وأمّا قول الإمام الشافعي رحمه الله بأنّ الهدنة لا تكون إلا مؤقتةً أو بالنص على جواز إلغائها إذا كانت مطلقة، فلأنّه يرى أنّ العهود النصيّة لا تلزم إلا مع من فيه محاربة.
يدل على ذلك قوله عندما تحدّث في اشتراط التأقيت في العهد: (إذا نزلت بالمسلمين نازلة)، ويؤكّد ذلك قاعدته في اعتبار الألفاظ في العقود، ولم يكن في عصره عهود نصيّة عبر منظمات دوليّة وإقليمية.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (فأحبّ للإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة - وأرجو أن لا ينزلها الله عز وجل بهم إن شاء الله تعالى - مهادنةً يكون النظر لهم فيها، ولا يهادن إلا إلى مدّة، ولا يجاوز بالمدّة مدّة أهل الحديبية، كانت النازلة ما كانت، فإن كانت بالمسلمين قوة قاتلوا المشركين بعد انقضاء المدة، فإن لم يقو الإمام فلا بأس أن يجدد مدّة مثلها أو دونها) [٨].
فقوله: (نزلت بالمسلمين نازلة) يدلّ على أن كلامه في معاهدة المحاربين من الكفّار.
ورأيه هذا هو بسبب ظنّه أنّ العهود المطلقة تؤدّي إلى إلغاء جهاد الطلب، وليس فيه ما يدلّ على أنّه يرى أنّ جهاد الطلب ليس خاصّاً بالمحاربين ومن خيفت خيانتهم.
فأقواله تدلّ على أنّه يمنع العهد المطلق لكونه لازمٌ ولأنّ الأصل وجوب قتال الكفّار حتى يُسلموا أو يعطوا الجزية، وقد قيّد الكفّار بالمحاربين في المواضع التي سبق نقلها.
قال الشافعي رحمه الله: (وليس للإمام أن يهادن القوم من المشركين على النظر إلى غير مدّةٍ هدنةً مطلقةً، فإنّ الهدنة المطلقة على الأبد وهي لا تجوز لما وصفت، ولكن يهادنهم على أنّ الخيار إليه حتى إن شاء أن ينبذ إليهم) [٩].
وفي القول بأنّ الهدنة المطلقة أبديّة نظر، وذلك لأنّ الهدنة لا تكون إلّا مع محارب، والعهد مع المحارب غير ملزمٍ (جائزٌ) لأنّ ابتداءه محاربة المسلمين ظلماً وعدواناً أمارةٌ سابقةٌ من أمارات خوف خيانته.
وأما غير المحارب فلا يكون العهد المطلق معه أبديّاً إلّا مع استقامته، والأصل في الكفّار الذين لا ترجى توبتهم العداوة، فلابدّ أن تظهر علامات خيانة منهم.
ولا يختلف اثنان في وجود عهود عرفيّة مطلقة في عهد الرسالة قبل قوّة المسلمين.
ولكن الإمام الشافعي لا يعتبر العقود العرفيّة، وهي قاعدة يخالفه فيها سائر الأئمة والعلماء.
ولا يصحّ التفريق بين العهد المؤقّت والمطلق في جواز النبذ بخوف الخيانة، فكلاهما لازمٌ مع الفرق في مدّة اللزوم.
والإمام الشافعي يجيز نبذ العهد المؤقّت إلى أصحابه بخوف الخيانة قبل نهاية مدّته، وهو لازمٌ قبل نهاية المدّة.
وسبق في مبحث؛ حكم العهد المطلق أنّ النصوص صريحة الدلالة على أنّ النبذ إلى كل معاهد خيفت خيانته ونقل كلام الإمام الطبري في هذا المعنى.
وفي عموم معنى الحديث قال ابن تيمية رحمه الله: (وقول النبي ﷺ (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة؛ ويؤتوا الزكاة) مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم) [١٠].
وقال قبل ما سبق: (وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة) [١١].
وقال: (وكذلك ظنّ من ظنّ أنّ الجزية لا تؤخذ من مشركي العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين. وجمهور العلماء على أنّه لا يفرّق بين العرب وغيرهم) [١٢].
وقال حكايةً عمّن قال من العلماء تؤخذ الجزية من كلّ كافر: (قالوا: فدان المشركون كلّهم كافّة بالإسلام ولم يرضوا بذلّ أداء الجزية) [١٣].
فما في هذا النقل مع شدّة عداوة مشركي العرب قبل فتح مكّة يدلّان على أنّ من مشركي العرب من امتنع عن الجزية والإسلام قبل أن يسلموا، فلا يبعد أن يكون النبي ﷺ قد عرض الجزية على أهل الطائف مثلاً أثناء حصارها.
وكانت غزوتا حنين والطائف بعد فتح مكّة، فبعد هزيمة قبيلتي هوازن وثفيف في حنين تحصنوا بالطائف، فحاصرهم المسلمون فيها، فلم ينالوا منهم، فأمر النبي ﷺ بالرحيل، ثمّ أسلمت ثقيف السنة التي بعدها.
فوقوع تفاوضٍ على الجزية في مثل هذا الحصار الذي لم يتمكّن فيه المسلمون من عدوّهم وارد، فقد نُسخ السلم بدون جزية بعد فتح مكّة.
وقد دلّت السنّة على أنّ النبيّ ﷺ عرض الجزية على المشركين.
من ذلك أنّ النبيّ ﷺ قال لبريدة بن الحصيب رضي الله عنه: (وإذا لقيت عدوّك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال) ... إلى قوله: (فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم) [١٤].
ومن ذلك أنّ النبيّ ﷺ أمر معاذاً رضي الله عنه أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدّ له معافرياً ولم يميّز بين المشركين وأهل الكتاب، فدلّ ذلك على أنّ المشركين من العرب آمنوا، قاله ابن تيمية رحمه الله [١٥].
والروايات المختلفة تشرح معنى الحديث، سواء روي الحديث بالمعنى أو بنصّه أو تكرّر من النبي ﷺ، فإذا روي بالمعنى فإنّ فهم السلف مقدّم على غيرهم.
ففي رواية البخاري المعلّقة وغيره؛ (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها) [١٦].
والعام قد يراد به الخصوص، فلا شك أنّ الناس هنا لا تشمل المسلمين.
ومثال إرادة الخصوص بكلمة الناس؛ قول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ آل عمران [٣: ١٧٣].
والخصوصيّة الثابتة في الأحكام هي لجزيرة العرب لا للعرب في أنفسهم.
وأصحّ الأقوال في إجلاء الكفّار من جزيرة العرب أنّها للمصلحة الضرورية إضافةً لخصوصيّة جزيرة العرب.
والمصلحة الضرورية هي التي يترتب على فواتها ضرر، والضرر هنا هو المحاربة.
يدلّ على ذلك إقرار النبي ﷺ اليهود والنصارى على الجزية في جزيرة العرب قبل أن يأمر بإخراجهم، فقد كان أمره ﷺ بإخراج الكفّار من جزيرة العرب في آخر حياته بعد ظهور خطرهم ومحاربتهم.
قال رسول الله ﷺ: (لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع إلا مسلماً) [١٧].
وهذا ما فهمه الخلفاء الراشدون فعملوا بالفعل الخاص المتقدّم أوّلاً، ولم يعملوا بالأمر العام المتأخّر إلّا بعد خوف خيانة من أجلوهم بظهور أماراتها سابقاً أو لاحقاً.
فهذا ما فعله عمر رضي الله عنه بأهل نجران، فقد أجلاهم لنقضهم العهد الذي صولحوا عليه تنفيذاً للأمر المتأخّر.
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أهل نجران؛ (وكان عمر يخافهم أن يميلوا على المسلمين) [١٨].
ونجران ليست من الحجاز، مما يدلّ على أنّ جزيرة العرب المرادة بإخراج الكفّار منها أوسع من الحجاز.
وأصحّ الأقوال فيها هو أنّها تشمل أرض العرب كلّها، وذلك لعدم الدليل على الخصوص.
قال أبو الوليد الباجي: (وقال مالك: جزيرة العرب منبت العرب قيل لها جزيرة العرب لإحاطة البحر والأنهار بها) [١٩].
ولكن الحجاز أخصّ من غيرها لورود نص خاص في إخراجهم منها.
فهذا العموم في معنى جزيرة العرب مع إقرار الخلفاء الراشدين بقاء الكفّار في اليمن والشام ونحوهما يدلّ على أنّ إجلاءهم متعلّق بالمصلحة الضروريّة.
ومن ذلك أنّ عمر رضي الله عنه أجلى يهود خيبر إلى الشام، والشام من جزيرة العرب على الأرجح، ولم يخرجهم إلا بعد تجدد عدوانهم مع أنّ عهدهم كان جائزاً غير لازم، وكان النبي ﷺ قد أجلاهم من المدينة إلى خيبر بسبب غدرهم.
قال ابن القيّم رحمه الله: (ولا خلاف أنّ خيبر من جزيرة العرب، فعمل الخليفتان الراشدان بالخاص المتقدّم، وقدّماه على العام المتأخّر، وأُقرّ أهل خيبر فيها إلى أن أحدثوا في زمن عمر رضي الله عنه ما أحدثوا وعلم، فأجلاهم إلى الشام) [٢٠].
والخاص المتقدّم هو إقرار النبي ﷺ أهل خيبر فيها، والعام المتأخّر هو أمره بإخراج الكفّار من جزيرة العرب.
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (قام عمر خطيباً فقال: إنّ رسول الله ﷺ كان عامل يهود خيبر على أموالهم، وقال: (نقركم ما أقركم الله). وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك، فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم) [٢١].
ولكن عموم قول النبي ﷺ: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) يدلّ على عدم جواز إدخال من لم يكن من سكّانها من الكفّار للإقامة فيها إلا مروراً أو لمصلحة ضروريّة كما نصّ على ذلك العلماء.
واختلفوا في مرورهم بمكّة فذهب الجمهور إلى عدم جواز مرورهم بها، وذلك لعموم قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾.
والغاية في حديث (أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ...إلخ) هي غاية الكفّ والحبس، وكذا قوله؛ (فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم)، وذلك لأنّ الحديث في القتال لا القتل.
ولو كانت الغاية هي غاية المقصد لكان أولى الناس بالقتل في الحرب هم الرهبان ولجاز قتل النساء.
وممّا يدلّ على أنّ الغاية ليست غاية المقصد أيضاً قبول الجزية ممّن لم يقبل الدخول في الإسلام.
والإسلام هو غاية الكفّ والحبس لأنّ الكفر هو سبب الشحّ والحسد وعداوة المسلمين وقتالهم واستضعاف الشعوب والأمم وسرقة خيراتها والعدوان على الناس، ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾.
وهذا المعنى هو المراد كذلك بقول النبي ﷺ: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له)، رواه الإمام أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع.
فالمعنى أنّه إذا عُبد الله وحده تحقّق الكفّ عن السيف، لأنّ الشحّ والصد عن سبيل الله يكون مع الشرك ولابدّ.
وأما قول الحق تبارك وتعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، فالآية خبر عن واقع، وهي عامّة في مثله.
وذلك لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية عامّة فيمن كانت صفتهم مثل صفة من نزلت فيهم.
وقد نزلت الآية في قتال الروم بعد الفراغ من قتال مشركي العرب وإسلامهم.
فالآية فيمن خُشي شره بظهور علاماته بمحاربةٍ سابقة قبل قوّة المسلمين أو بظهور علامات الشر لاحقاً.
مما يدلّ على ذلك ما رواه البخاري من قول عمر رضي الله عنه: (ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا) [٢٢].
قال ابن عاشور رحمه الله تعالى في تفسير الآية: (ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم، فأخذوا يستعدون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسان سادة بلاد الشام في ملك الروم.
ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال "كان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا وأنهم ينعلون الخيل لغزونا.
فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال: افتح افتح فقلت: أجاء الغساني؟ قال : بل أشد من ذلك اعتزل رسول الله ﷺ نساءه" إلى آخر الحديث) [٢٣].
وإذا كان من العلماء من نصّ على أنّ قيد غاية الجزية لا مفهوم له لأنّ الآية حكاية عن واقع، فمن باب أولى القول بأنّها عامّة فيمن حالهم مثل حال من نزلت فيهم.
قال الشيخ السعدي رحمه الله في قيد أهل الكتاب في الآية: (وقيل: إنّ الجزية تؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، لأنّ هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم، فيكون هذا القيد إخباراً بالواقع، لا مفهوم له) [٢٤].
والأولى أن يقال أنّ الآية تدلّ على معاملة المشركين كمعاملة أهل الكتاب بدلالة الأولى كما نصّ على ذلك ابن تيمية رحمه الله، فالنهي عن معاهدة المشركين بدون جزية أولى من النهي عن معاهدة أهل الكتاب بدون جزية.
فقد كان العهد مع المحاربين قبل آيات براءة بدون جزية، ثم لمّا نزلت آيات براءة أمر النبي ﷺ بغزو جميع المحاربين حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
وأمّا ترك النبي ﷺ الإغارة عند سماع الأذان، فهو بسبب خشية إصابة من في دار الحرب من المسلمين.
في الحديث المتفق عليه؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله ﷺ إذا غزا قوماً لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار بعد ما يصبح، فنزلنا خيبر ليلاً) [٢٥].
ولا شكّ في خطأ القول بأنّ الغرض من تسمُّع النبي ﷺ الأذان معرفة ما إذا كان أهل البلدة مسلمين أم لا، بدليل قول أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبي ﷺ تسمَّع الأذان عند خيبر، وذلك لأنّ النبي ﷺ يعلم أنّ أهلها يهود.
وكان اليهود قد غدروا وخانوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي ﷺ.
ففي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلاً، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب) [٢٦].
قال القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله: ("وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم" أي: كان يتثبت فيه ويحتاط في الإغارة، حذراً عن أن يكون فيهم مؤمن فيغير عليه غافلاً عنه جاهلاً بحاله) [٢٧]، ولهذا بوب له من وضع أبواب صحيح مسلم بِ؛ (باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر، إذا سمع فيهم الأذان) [٢٨].
وفي سماع الأذان في دار الكفر دلالةٌ على أنّ أهلها راضون بإعلان الأذان غير صادّين عن الدين.
وبما أنّ خوف الخيانة ظن غالب وليس بيقين، فإنّ رضا الكفار بإعلان الأذان في دارهم سبب آخر لعدم الإغارة عليهم يضاف إلى الحذر من إصابة مسلمين بين الكفار.
قال ابن هُبَيْرَة رحمه الله: (وأما قوله: (فإن سمع أذاناً أمسك) فإن الأذان إذا أعلن به معلن في حي فقد دل على أن أهل ذلك الحي راضون ذلك الإعلان، فتحرم دماؤهم وأموالهم) [٢٩].
وجب ترك الإغارة عند سماع الأذان في دار الحرب لأنّ ضرر ترك جهاد طلب أخفّ من ضرر إراقة دم المسلم.
وهذا على خلاف جهاد الدفع، فقد يلزم فيه قتل من تترس بهم الكفار من غير تقصدهم، فترك القتال قد يؤدّي إلى قتل أعداد أكبر من المسلمين وتسلّط الكفّار على المسلمين.
قال الله تعالى في منع المؤمنين من عمرة الحديبية: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
فقوله: ﴿لو تزيلوا﴾ أي تمايزوا، فلمّا كان بمكّة مؤمنون يُخفون إسلامهم، فقد تأخر فتحها خشية أن يقتلهم المسلمون وهم يجهلون حالهم.
القول بأنّ الغرض من تسمُّع النبي ﷺ الأذان معرفة كُفر أهل البلد التي تُغزى، يوحي بأنّه كان يغزو الكفار دون سبب، وهذا مناقض لما تقرر بالنصوص المُحكمة.
والقول بأنّ الإسلام انتشر بالسيف هو قول أعداء الملّة والأمّة، وهو مما ينفّرون به الناس عن دين الله عز وجل، وهو مخالف للنصوص البيّنة والمسلّمات المحكمة.
ومن غير فهم سبب مشروعية جهاد الطلب تحرج الدولة الإسلامية في عصرنا بسؤال المستشرقين وأعداء الأمة؛ ماذا تفعلون إذا قويت شوكتكم بأصحاب العهود المطلقة؟
ولم يكن الأمر في بداية الإسلام مختلفاً عما هو عليه الآن، فلما كانت دولة المسلمين صغيرة ناشئة في المدينة كانت ثمة إمبراطوريتين عظيمتين وقبائل ودول حولها.
وكما يحاول العلمانيون اليوم الاستعانة بالغرب والشرق ضد المسلمين، فقد حاول المشركون واليهود الإيقاع بين المسلمين وملك الحبشة وبين المسلمين وملوك الروم.
وسيرة النبي ﷺ معلومة في قتال من قاتله دون غيره، ثمّ لمّا أعزّ الله الإسلام والمسلمين تبرّأ من عهود المشركين الذين ظهرت أمارات مؤامرتهم قبل أو بعد قوة المسلمين.
فنُسخت آيات السلم بآيات السيف، والعنى نسخ السلم بدون جزية، وهو بسبب القدرة على الغزو ابتداءً لإرغام المحاربين، فهو معلّق بالقدرة.
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحداً على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته، لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم.
فلما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدءوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقاتل بعضهم. وكذلك لما هادن قريشاً عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقض عهده، فحينئذ غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم الخندق، ويوم بدر أيضاً هم جاءوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم) [٣٠].
كلام ابن القيم هذا كان في سياق رد شبهة اليهود والنصارى في أنّ الإسلام انتشر رغبة في الدنيا أو رهبة من السيف.
ورغم ما في كلام ابن القيّم رحمه الله من عموم وإطلاق إلا أنه يلاحظ أنّ كل ما ذكره قبل فتح مكة.
فيلزم أنّ أصل ما ذكره صحيح بعد الفتح وإن اختلف قليلاً، لأن أصل رد الشبهة الواحدة باق كما هو مهما اختلفت الظروف، وتبقى فروق بسبب اختلاف الحال.
والكفر هو جزء علة مشروعية القتال لعدم جواز اقتتال المسلمين وعصمة دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام.
ومن حق الإسلام إقامة الشرائع الظاهرة المتواترة والانتهاء عن المحرمات الظاهرة المتواترة، كما قاتل أبوبكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة.
ومن حقّ الإسلام رد البغي والعدوان، وذلك لقول الله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ الله فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
قال رسول الله ﷺ: (لا ترجعو بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
وقد أنكر بعض الناس مشروعية جهاد الطلب بحجّة تحوّل البشرية في عصرنا من التسلط إلى الحريات، ولا أدري أين هؤلاء من حق الفيتو واعتداءات دولٍ قويّةٍ على ضعيفةٍ وسرقة خيراتٍ وظلمٍ وقهرٍ وتجاوزٍ للمواثيق الدولية.
وأما في ديننا فإنَّ جهاد الطلب لم يُشرع لسرقة خيرات الناس ولا لاستعباد البشر ولا لظلمهم، وإنما شرع لصد العدوان ونصر الدين وإعلائه ليُعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.
ولمزيد فهم ما سبق من كلام عن علة الجهاد ومقصده، لابد من معرفة أن العلة كثيراً ما تكون غير الحِكمة (المقصد).
وبالمثال يتضح المقال؛ فحُكم جواز الفطر في نهار رمضان له علتان وحِكمة منصوص عليها كلّها في القرآن، فالعلتان هما السفر والمرض، والحِكمة هي التيسير ودفع المشقّة.
الحِكَم هي الأسباب الباعثة على تشريع الأحكام ولذا تُسمى بالمقاصد.
وكلا العلة والحِكمة وصف، ولكن الحِكمة إذا كانت وصفاً غير منضبط أو خفي، فإن الحُكم يُعلق وجوداً وعدماً بوصف آخر منضبط ظاهر يُسمى العلة.
والعلّة يجب أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً مناسِباً، ومعنى مناسباً للحُكم تضمنه للحِكَم والمقاصد.
فالعلل إنما هي علامات للأَحْكام والحِكَم والمقاصد.
ولهذا فالصحيح في المرض الذي يُبيح الفطر في نهار رمضان أنه ليس كل مرض، وكذا لا يُبيح كل سفر الفطر.
وللمزيد في العلل عموماً وعلل جواز الفطر في نهار رمضان خصوصاً؛ مدونتي » أحكام » حد السفر الشرعي.
قال القرافي رحمه الله تعالى: (قاعدة؛ الأصل اعتبار الأوصاف المشتملة على الحكم، فإذا تعذر اعتبارها: إما لعدم انضباطها أو لخفائها، أقيمت مظنتها مقامها، فكان الأصل إناطة الأحكام بالعقل حالة وجوده، لكنه لما لم ينضبط زمانه، أقيم البلوغ مقامه لكونه مظنة له، وموجب انتقال الأملاك الرضى، ولما لم يعلم أقيم الإيجاب والقبول مقامه، والمشقة سبب الترخص بالقصر، فلما لم تنضبط أقيمت المساحة مقامها; لكونها مظنة لها) [٣١].
المصادر
[١] البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (ج٥/ص٧٦) - زين الدين ابن نجيم (ت ٩٧٠هـ).
[٢] الأم للشافعي (ج٤/ص١٩٦) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٣] تفسير ابن كثير (ج١/ص٤٨٧)، المحقق؛ محمد حسين شمس الدين، الناشر؛ دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة الأولى - ١٤١٩هـ.
[٤] أخرجه البخاري (٤٢٥) ومسلم (٢٢) باختلاف يسير
[٥] الأم للشافعي (ج٤/ص٢٥٢) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٦] الأم للشافعي (ج٤/ص١٧٧ ) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٧] الأم للشافعي (ج٤/ص١٨١) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٨] الأم للشافعي (ج٤/ص٢٠٠ ) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٩] الأم للشافعي (ج٤/ص٢٠٠) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[١٠] مجموع الفتاوى (ج١٩/ص٢٠) - ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ).
[١١] المصدر السابق ص١٨.
[١٢ المصدر السابق ص١٩.
[١٣] المصدر السابق ص٢٠.
[١٤] أخرجه مسلم (١٧٣١) واللفظ له، والترمذي (١٦١٧)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٨٧٦٥)، وابن ماجه (٢٨٥٨)، وأحمد (٢٣٠٣٠)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (٢٣٢٥).
[١٥] مجموع الفتاوى (ج١٩/ص٢٣) - ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ).
[١٦] أخرجه النسائي (٣٩٦٦) واللفظ له، وأخرجه البخاري معلقاً (٣٩٣) بنحوه، وموصولاً (٣٩٢) بلفظ؛ (أقاتل الناس حتى يقولوا)، وصححه الألباني في؛ صحيح النسائي (٣٩٧٦).
[١٧] صحيح مسلم (١٧٦٧).
[١٨] مصنف ابن أبي شيبة (٣٩٧٩٤) - (ج٢١/ص١٢٤) - أبو بكر بن أبي شيبة (ت ٢٣٥هـ) - ت الشثري.
[١٩] المنتقى شرح الموطإ (ج٧/ص١٩٥) - أبو الوليد الباجي (ت ٤٧٤هـ).
[٢٠] الفروسية المحمدية (ج١/ص١٤٩) - ابن القيم (ت ٧٥١هـ) - ط عطاءات العلم.
[٢١] صحيح البخاري (٢٧٣٠)، (ج٢/ص٩٧٣) - البخاري (ت ٢٥٦) - ت البغا.
[٢٢] البخاري (٥٨٤٣)، مسلم (١٤٧٩).
[٢٣] التحرير والتنوير (ج١٠/ص١٦٢)، الدار التونسية للنشر، سنة النشر؛ ١٩٨٤م.
[٢٤] تيسير الكريم الرحمن (ج١/ص٣٣٤) - عبد الرحمن السعدي (ت ١٣٧٦هـ).
[٢٥] صحيح البخاري (٢٩٤٣).
[٢٦] صحيح البخاري (٦١٠)، (ج١/ص١٢٥)، المحقق؛ محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر؛ دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، ١٤٢٢هـ.
[٢٧] تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (ج٣/ص١٦)، تحقيق؛ لجنة مختصة بإشراف نور الدين طالب، الناشر؛ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، عام النشر؛ ١٤٣٣هـ - ٢٠١٢م.
[٢٨] صحيح مسلم (ج١/ص٢٨٨)، المحقق؛ محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر؛ دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[٢٩] الإفصاح عن معاني الصحاح (ج٥/ص٣٦١) - ابن هبيرة (ت ٥٦٠هـ)، المحقق؛ فؤاد عبد المنعم أحمد، الناشر؛ دار الوطن، سنة النشر؛ ١٤١٧هـ.
[٣٠] هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (ج١/ص٣٠) - ابن القيم (ت ٧٥١هـ) - ط عطاءات العلم..
[٣١] الذخيرة للقرافي (ج٢/ص٣٦٠)، الناشر؛ دار الغرب الإسلامي- بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٤م.
[٢] الأم للشافعي (ج٤/ص١٩٦) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٣] تفسير ابن كثير (ج١/ص٤٨٧)، المحقق؛ محمد حسين شمس الدين، الناشر؛ دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة الأولى - ١٤١٩هـ.
[٤] أخرجه البخاري (٤٢٥) ومسلم (٢٢) باختلاف يسير
[٥] الأم للشافعي (ج٤/ص٢٥٢) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٦] الأم للشافعي (ج٤/ص١٧٧ ) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٧] الأم للشافعي (ج٤/ص١٨١) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٨] الأم للشافعي (ج٤/ص٢٠٠ ) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٩] الأم للشافعي (ج٤/ص٢٠٠) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[١٠] مجموع الفتاوى (ج١٩/ص٢٠) - ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ).
[١١] المصدر السابق ص١٨.
[١٢ المصدر السابق ص١٩.
[١٣] المصدر السابق ص٢٠.
[١٤] أخرجه مسلم (١٧٣١) واللفظ له، والترمذي (١٦١٧)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٨٧٦٥)، وابن ماجه (٢٨٥٨)، وأحمد (٢٣٠٣٠)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (٢٣٢٥).
[١٥] مجموع الفتاوى (ج١٩/ص٢٣) - ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ).
[١٦] أخرجه النسائي (٣٩٦٦) واللفظ له، وأخرجه البخاري معلقاً (٣٩٣) بنحوه، وموصولاً (٣٩٢) بلفظ؛ (أقاتل الناس حتى يقولوا)، وصححه الألباني في؛ صحيح النسائي (٣٩٧٦).
[١٧] صحيح مسلم (١٧٦٧).
[١٨] مصنف ابن أبي شيبة (٣٩٧٩٤) - (ج٢١/ص١٢٤) - أبو بكر بن أبي شيبة (ت ٢٣٥هـ) - ت الشثري.
[١٩] المنتقى شرح الموطإ (ج٧/ص١٩٥) - أبو الوليد الباجي (ت ٤٧٤هـ).
[٢٠] الفروسية المحمدية (ج١/ص١٤٩) - ابن القيم (ت ٧٥١هـ) - ط عطاءات العلم.
[٢١] صحيح البخاري (٢٧٣٠)، (ج٢/ص٩٧٣) - البخاري (ت ٢٥٦) - ت البغا.
[٢٢] البخاري (٥٨٤٣)، مسلم (١٤٧٩).
[٢٣] التحرير والتنوير (ج١٠/ص١٦٢)، الدار التونسية للنشر، سنة النشر؛ ١٩٨٤م.
[٢٤] تيسير الكريم الرحمن (ج١/ص٣٣٤) - عبد الرحمن السعدي (ت ١٣٧٦هـ).
[٢٥] صحيح البخاري (٢٩٤٣).
[٢٦] صحيح البخاري (٦١٠)، (ج١/ص١٢٥)، المحقق؛ محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر؛ دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، ١٤٢٢هـ.
[٢٧] تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (ج٣/ص١٦)، تحقيق؛ لجنة مختصة بإشراف نور الدين طالب، الناشر؛ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، عام النشر؛ ١٤٣٣هـ - ٢٠١٢م.
[٢٨] صحيح مسلم (ج١/ص٢٨٨)، المحقق؛ محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر؛ دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[٢٩] الإفصاح عن معاني الصحاح (ج٥/ص٣٦١) - ابن هبيرة (ت ٥٦٠هـ)، المحقق؛ فؤاد عبد المنعم أحمد، الناشر؛ دار الوطن، سنة النشر؛ ١٤١٧هـ.
[٣٠] هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (ج١/ص٣٠) - ابن القيم (ت ٧٥١هـ) - ط عطاءات العلم..
[٣١] الذخيرة للقرافي (ج٢/ص٣٦٠)، الناشر؛ دار الغرب الإسلامي- بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٤م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق