سبب مشروعية الجهاد

يطلق السبب ويراد به المقصد وهو الحِكمة، فسبب تشريع الجهاد بمعنى مقصده هو منع عدوان الكفار وصدهم عن الدين والدعوة إليه.
يدل على ذلك النصوص التي تحرض المؤمنين على الجهاد معاملةً بالمثل؛ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا  وَإِنَّ الله عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}.
وسمى الله تعالى إيقاد نار الحرب إفساداً في الأرض في قوله جل ثناؤه: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.
فتلك حِكمة تشريع الجهاد، وأما علته فهي مركبة من وصفين، يختلف الثاني حسب نوع الجهاد.
فجزء العلة الأول في كلا نوعي الجهاد الكفر، وجزء العلة الثاني في جهاد الدفع المقاتلة، وأما في جهاد الطلب فجزء العلة الثاني هو خوف الخيانة.
فعلة جهاد الطلب مركبة من الكفر وخوف الخيانة، وفي جهاد الطلب تخيير بين الإسلام والجزية والقتال.
وخوف الخيانة يكون بظهور أماراتها لاحقاً أو بمحاربة سابقة أو غدر سابق للعهد وقوة المسلمين.
فمن لا تُخشى خيانتهم لا يُلزمون بجزية عند قوة المسلمين والقدرة عليهم.
فلا يشرع أياً من نوعي الجهاد إلا بوجود جزأي علته المركبة ليكتمل الوصف علةً مركبةً للحُكم.
وهاتان العلتان المركبتان لنوعي الجهاد مناسِبتان للحُكمين بتضمنهما المقاصد والحِكَم.
والعلة هي علامة الحُكم، وهي وصف ظاهر منضبط مناسب، يدور معه الحُكم وجوداً وعدماً.
من أدلة جزء العلة الثاني لجهاد الطلب قول الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ  إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.
وسبق في مبحث؛ حُكم العهد المطلق أن الآية تشمل كل من له عهد مؤقتاً كان أو مطلقاً، وأنها تشمل من لا عهد له باعتبار العهد العرفي لعموم كلمة قوم، وأن نبذ العهد هو الإعلام بإلغائه، وأن النبذ يُعرف اليوم بقطع العلاقات الدبلوماسية.
وسبق أن مفهوم الشرط مراد في الأصل، ولدلالة النصوص والقواعد والعرف والمعقول عليه هنا.
فالجهاد إنما شرع لأن همة الكفار مقاتلة المسلمين، ولذا فإن؛ {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ليست منسوخة ولا تعني نفي جهاد الطلب، فالمعنى؛ الذين همتهم مقاتلتكم.
وتُعرف همتهم على مقاتلة المسلمين بمحاربة سابقة أو بظهور علاماتها بالتآمر والإعداد لحرب المسلمين أو بمنع الدعوة.
 قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (حتى قال: هذه منسوخة بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) [ التوبة : ٥ ] وفي هذا نظر; لأن قوله: (الذين يقاتلونكم) إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم، كما قال: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) [ التوبة : ٣٦ ]; ولهذا قال في هذه الآية: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصاً) [١].
وأما الحديث المتفق عليه؛ (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) [٢]، فلِفهم هذا الحديث على وجهه المراد، يجب فهم ثلاث مسائل؛
الأولى؛ أن الحديث في القتال وليس القتل.
الثانية؛ المراد بالناس في الحديث الناس المخوفة خيانتهم.
الثالثة؛ أنَّ الغاية في قوله: (حتى يشهدوا) هي غاية الكف عن القتال وليست غاية المقصد.
ما المراد بالناس، فلرواية؛ (أمرت أن أقاتل المشركين) و "ال" هنا للعهد، فالمراد مشركي العرب الذين تآمروا على الدعوة وحاربوها منذ بداياتها، والذين تكرر منهم الغدر.
فالروايات المختلفة تشرح معنى الحديث، سواء روي الحديث بالمعنى أو بنصه أو تكرر من النبي ﷺ، فإذا روي بالمعنى فإن فهم السلف مقدم على غيرهم.
ففي رواية البخاري المعلقة وغيره؛ (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها) [٣].
والعام قد يراد به الخصوص، فمثلاً المراد بالناس المؤمنون منهم في قول الله جل ثناؤُهُ: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
ولا شك أن كلمة الناس في حديث؛ (أمرتُ أن أقاتل الناس) لا تشمل المسلمين، فالناس هنا في الكفار المخوفة خيانتهم.
والغاية في الحديث هي غاية الكف والحبس، وكذا  قوله؛ (فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم)، وذلك لأن الحديث في القتال وليس القتل، ولأنه لو كانت الغاية في الحديث هي غاية المقصد لكان أولى الناس بالقتل في الحرب هم الرهبان ولجاز قتل النساء.
ومما يدل على ذلك أيضاً قبول الجزية ممن لم يقبل الدخول في الإسلام.
والإسلام هو غاية الكف والحبس لأن الكفر هو سبب الشح والحسد وعداوة المسلمين وقتالهم واستضعاف الشعوب وسرقة خيراتها والعدوان على الناس، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}.
وكذلك قول النبي ﷺ: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له)، رواه أحمد وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع؛ المعنى أنه إذا عُبد الله وحده ولم يُشرك به شيئاً، تحقق الكف عن السيف، لأنه مع عبادة غير الله يكون الشح والصد عن سبيل الله والتآمر على الدعوة ولابد.
وأما قول الحق تبارك وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، فسواءٌ نزلت في الروم أو في بني قريظة والنضير، فهي فيمن خُشي شره بظهور علاماته بمُحاربةٍ سابقة قبل قوة المسلمين أو بظهور علامات الشر لاحقاً.
قال ابن عاشور رحمه الله تعالى في تفسير الآية: (ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم، فأخذوا يستعدون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسان سادة بلاد الشام في ملك الروم، ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال "كان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا وأنهم ينعلون الخيل لغزونا، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال: افتح افتح فقلت: أجاء الغساني؟ قال : بل أشد من ذلك اعتزل رسول الله ﷺ نساءه إلى آخر الحديث) [٤].
وأما الحديث المتفق عليه؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله ﷺ إذا غزا قوماً لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار بعد ما يصبح، فنزلنا خيبر ليلاً) [٥]، فترك الإغارة عند سماع الأذان هي بسبب خشية إصابة من في دار الحرب من المسملين.
ولاشك في خطأ القول بأن الغرض من تسمًّع النبي ﷺ الأذان معرفة ما إذا كانوا مسلمين أم لا، بدليل قول أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ تسمع الأذان عند خيبر، ولم يكن يجهل أن أهلها يهود، وكانوا قد غدروا وخانوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي ﷺ.
ففي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا  إليهم ليلاً، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب) [٦].
والقول بأن الغرض من تسمًّع الأذان معرفة حال أهل البلد التي تُغزى، يوحي بأن النبي ﷺ كان يغير على الكفار دون سبب من خيانة أو خوف خيانة، وهذا مناقض لما تقرر من أن الجهاد سواءٌ كان جهاد دفع أو طلب لم يكن إلا بسبب المقاتلة أو خوف الخيانة.
بل إن القول بأن الإسلام انتشر بالسيف والإكراه هو قول أعداء الملة والأمة، وهو مما ينفرون به الناس عن دين الله عز وجل، وهو مخالف للنصوص البينة والمسلمات المحكمة.
قال القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى: ("وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم" أي: كان يتثبت فيه ويحتاط في الإغارة، حذراً عن أن يكون فيهم مؤمن فيغير عليه غافلاً عنه جاهلاً بحاله) [٧]، ولهذا بوب له من وضع أبواب صحيح مسلم بِ؛ (باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر، إذا سمع فيهم الأذان) [٨].
وسماع الأذان في دار الكفر فيه دلالة على أن أهلها راضون بإعلان الأذان غير صادين عن الدين، وبما أن خوف الخيانة ظن غالب وليس بيقين، فإن رضا الكفار بإعلان الأذان في دارهم سبب آخر لعدم الإغارة عليهم يضاف إلى الحذر من إصابة مسلمين بين الكفار.
قال ابن هُبَيْرَة رحمه الله تعالى: (وأما قوله: (فإن سمع أذاناً أمسك) فإن الأذان إذا أعلن به معلن في حي فقد دل على أن أهل ذلك الحي راضون ذلك الإعلان، فتحرم دماؤهم وأموالهم) [٩].
لِعظم حرمة دم المسلم وجب ترك الإغارة عند سماع الأذان في دار الكفر، فضرر ترك الإغارة التي هي جهاد طلب أخف من ضرر إراقة دم امريء مسلم، بخلاف جهاد الدفع، فإن الضرورة قد تقتضي قتل من تترس بهم الكفار من غير تقصدهم، وذلك لأن ترك ذلك قد يؤدي إلى قتل أعداد أكبر من المسلمين مع ما في ذلك من تسلط الكافرين على المسلمين.
قال الله تعالى في شأن منع الكفار المؤمنين العمرةَ يوم الحديبية: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ  لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ  لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، فقوله: {لو تزيلوا} أي تميزوا، فلما كان بمكة مؤمنون يُخفون إسلامهم، فقد تأخر فتحها خشية أن يقتلهم المسلمون وهم يجهلون حالهم.
ومن غير فهم سبب مشروعية جهاد الطلب على وجهه تحرج الدولة الإسلامية في عصرنا، فبم تجيب إذا سئلت؛ ماذا ستفعلون إذا قويت شوكتكم مع أصحاب العهود المطلقة؟ وهذا السؤال يُطرح اليوم مراراً من قبل المستشرقين وأعداء الإسلام والمسلمين.
ولم يكن الأمر في بداية الإسلام مختلفاً عما هو عليه الآن، فلما كانت دولة المسلمين صغيرة ناشئة في المدينة كانت ثمة إمبراطوريتين عظيمتين وقبائل ودول حولها.
وكما يحاول العلمانيون اليوم الاستعانة بالغرب والشرق ضد المسلمين، فقد حاول المشركون واليهود الإيقاع بين المسلمين وملك الحبشة وبين المسلمين وملوك الروم.
وسيرة النبي ﷺ معلومة في ترك قتال من لا يقاتله من الناس، وذلك بموادعة أقوام وحرب آخرين، ثم لما أعز الله الإسلام والمسلمين تبرأ من عهود من تكررت خيانته وظهرت أمارات مؤامرته قبل أو بعد قوة المسلمين، وقاتل كل من تآمر على الإسلام والمسلمين بتخييره بين الإسلام والجزية والقتال.
 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ومن تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحداً على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته، لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم.
فلما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدءوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقاتل بعضهم. وكذلك لما هادن قريشاً عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقض عهده، فحينئذ غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم الخندق، ويوم بدر أيضاً هم جاءوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم) [١٠].
والكفر هو جزء علة مشروعية القتال لأنَّ الأصل عدم جواز اقتتال المسلمين فيما بينهم وعصمة دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، قال رسول الله ﷺ: (لا ترجعو بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
ومن حق الإسلام إقامة الشرائع الظاهرة المتواترة والانتهاء عن المحرمات الظاهرة المتواترة، كما قاتل أبوبكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، ومن ذلك رد البغي والعدوان لقول الله عز وجل: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا  فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ الله  فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا  إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وقد أنكر بعض الناس مشروعية جهاد الطلب بحجَّة أنَّ البشرية في عصرنا تحولت من القهر والتسلط إلى الحريات، ولا أدري أين هؤلاء من حق الفيتو وما تفعله دول كبرى بدول صغرى من اعتداءات وسرقة للخيرات وظلم وقهر للشعوب الضعيفة والمستضعفة وتجاوز للمواثيق الدولية.
وأما في ديننا فإنَّ جهاد الطلب لم يُشرع لسرقة خيرات الناس ولا لاستعباد البشر ولا لظلمهم، وإذا فتح المسلمون الصادقون البلاد فإنهم لا يظلمون أهلها ولا يعتدون عليهم، بل يجب عليهم الإحسان إلى الناس وسياستهم بمقتضى العدل والخُلُق وسماحة الإسلام.
ولمزيد فهم ما سبق من كلام عن علة الجهاد ومقصده، لابد من معرفة أن العلة كثيراً ما تكون غير الحِكمة (المقصد)، وبالمثال يتضح المقال؛ فحُكم جواز الفطر في نهار رمضان له علتان وحِكمة كلها منصوص عليها في القرآن، فالعلتان هما السفر والمرض، والحِكمة هي التيسير ورفع المشقة.
الحِكَم هي السبب الباعث على تشريع الأحكام ولذا تُسمى بالمقاصد، وكلا العلة والحِكمة وصف، ولكن الحِكمة إذا كانت وصفاً غير منضبط أو خفي، فإن الحُكم يُعلق وجوداً وعدماً بوصف آخر منضبط ظاهر يُسمى العلة، ولكن يجب أن تكون العلة محتوية على الحِكم والمقاصد.
فالعلّة يجب أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً مناسِباً، ومعنى مناسباً للحُكم تضمنه للحِكَم والمقاصد، فالعلل إنما هي علامات للأَحْكام والحِكَم والمقاصد، ولهذا فالصحيح في المرض الذي يُبيح الفطر في نهار رمضان أنه ليس كل مرض، وكذا لا يُبيح كل سفر الفطر، وللمزيد؛ مدونتي » أحكام » حج السفر الشرعي.
قال القرافي رحمه الله تعالى: (قاعدة؛ الأصل اعتبار الأوصاف المشتملة على الحكم، فإذا تعذر اعتبارها: إما لعدم انضباطها أو لخفائها، أقيمت مظنتها مقامها، فكان الأصل إناطة الأحكام بالعقل حالة وجوده، لكنه لما لم ينضبط زمانه، أقيم البلوغ مقامه لكونه مظنة له، وموجب انتقال الأملاك الرضى، ولما لم يعلم أقيم الإيجاب والقبول مقامه، والمشقة سبب الترخص بالقصر، فلما لم تنضبط أقيمت المساحة مقامها; لكونها مظنة لها) [١١].

المصادر

[١] تفسير ابن كثير (ج١/ص٤٨٧) » [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٩ إلى ١٩٣]، المحقق؛ محمد حسين شمس الدين، الناشر؛ دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة الأولى - ١٤١٩هـ.
[٢] أخرجه البخاري (٢٥) ومسلم (٢٢) باختلاف يسير.
[٣] أخرجه النسائي (٣٩٦٦) واللفظ له، وأخرجه البخاري معلقاً (٣٩٣) بنحوه، وموصولاً (٣٩٢) بلفظ؛ (أقاتل الناس حتى يقولوا)، وصححه الألباني في؛ صحيح النسائي (٣٩٧٦).
[٤] التحرير والتنوير (ج١٠/ص١٦٢) » [سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]، الناشر؛ الدار التونسية للنشر، سنة النشر؛ ١٩٨٤م. .
[٥] صحيح البخاري (٢٩٤٣)
[٦] صحيح البخاري (٦١٠)، (ج١/ص١٢٥)، المحقق؛ محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر؛ دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، ١٤٢٢هـ.
[٧] تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (ج٣/ص١٦)، تحقيق؛ لجنة مختصة بإشراف نور الدين طالب، الناشر؛ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، عام النشر؛ ١٤٣٣هـ - ٢٠١٢م.
[٨] صحيح مسلم (ج١/ص٢٨٨)، المحقق؛ محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر؛ دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[٩] الإفصاح عن معاني الصحاح (ج٥/ص ٣٦٠)، المحقق؛ فؤاد عبد المنعم أحمد، الناشر؛ دار الوطن، سنة النشر؛ ١٤١٧هـ.
[١٠] هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (ج١/ص٢٣٨)، تحقيق؛ محمد أحمد الحاج، الناشر؛ دار القلم- دار الشامية، جدة – السعودية، الطبعة الأولى، ١٤١٦هـ - ١٩٩٦م.
[١١] الذخيرة للقرافي (ج٢/ص٣٦٠)، الناشر؛ دار الغرب الإسلامي- بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٤م.
pdf 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق