التطبيع مع العدو الإسرائيلي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة و السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
يُفهم من كلمة التطبيع أن العلاقة المطلقة مع المحتل طبيعية مثل العلاقة المطلقة مع غيره، وهذا لا يصح.
فالعلاقات الدولية المعاصرة مثل القديمة؛ لازمة في الأصل، فلا يجوز إلغاؤها إلا إذا خيفت الخيانة بظهور أماراتها لاحقاً أو بسبب سابق، ولا تكون العلاقات جائزة إلا بالنص على ذلك.
والسبب السابق هو المُحاربة بتكرار الغدر قبل قوة المُسلمين أو القتال في الدين أو الإخراج من الديار واحتلالها أو المُظاهرة على ذلك، وقد دل العرف على أن المحارب المحتل يجوز إلغاء عهده عند قوة المظلوم، وذلك لدلالة العقل على أن المظلوم كان مضطراً للعهد المطلق.
ولكن يُشترط عند خوف الخيانة بظهور أماراتها لاحقاً أو بسبب سابق إعلام الطرف الآخر بإلغاء العهد قبل محاربته ما لم يغدر، فإذا غدر جازت مباغتته، وذلك لأن العهد انتقض بالغدر، والإعلام بإلغاء العهد هو ما يعرف اليوم بقطع العلاقات الدبلوماسية.
ولذا فلا يصح أن يقال تطبيع مع المحتل ولا أن ينص معه على اتفاق دائم أو لازم.
الصلح يقابل الحرب والمُقاطعة، وليس الحرب فقط.
فرفض اتفاقات صُلحٍ لا يعني دعوة إلى حرب.
وما لم تتوفر شروطه فهو خيانة أمانة، سواءٌ كان صلحاً مؤتقاً أو مفتوحاً أو حرباً.
وقد كانت الحروب العربية خيانة للأمانة، بما فيها أسوء حربين؛ النكبة ثم النكسة، للمزيد؛ القدس والاحتلال الإسرائيلي.
وقضية فلسطين إسلامية، وأي دعوة لحرب جديدة باسم العروبة تعتبر خيانة للأمانة، لأن الأمة العربية أكثر ضعفاً وتفرقاً والعدو أكثر قوة، فحذارِ من مكر الروافض.
والعدو لا يجرؤ على إعلان حرب، وذلك لأنهم أحرص الناس على حياة، ولأن قلوبهم شتى أحزاباً وأفراداً وطوائف.
وأما المُقاطعة فهي تحقق مصالح ضرورية إذا كثرت الدول المُقاطعة، لا سيما القريبة، إذ لابد أن تتضرر دولة معزولة عن محيطها.
وقد صرح العدو بإضرار المقاطعة برحلاته الجوية، وما يخفيه أعظم.
والأصل مع المُحارب ومن يُظاهره (يعاونه) عدم جواز صلته، وإنما جاز الصلح لدفع أضر أو تحقيق أصلح.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
والتولي في هذه الآية ليس هو مطلق التولي، لأن تحريم مطلق التولي لا يختص بالمحارب، فالتولي هنا هو الصلة الدنيوية، لأن القصر في الآية قصر قلب إضافي، فهو مقابل الصلة المباحة مع غير المحارب، وهي البر في سابقته؛ {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وقد ذكر المُفسرون في معنى البر في هذه الآية أنه الصلة، وللمزيد؛ الولاء الشرعي والعرفي.
والمصلحة الضرورية هي ما يترتب على فواتها ضرر، وأما المصلحة الحاجية فهي ما يترتب على فواتها مشقة.
فبما أن في مقاطعة العدو الجماعية مصالح ضرورية، فلا يجوز السعي في هدمها إلا لدفع ما هو أضر من الضرر المترتب على فوات تلك المصالح الضرورية.
فلا يجوز الصلح مع المحارب في هذه الحال لمجرد تحقيق مصالح حاجية.
وتجوز الصلة مطلقةً أو مؤقتة لدفع ضرر أعظم من مصالح المُقاطعة الضرورية، وإلا كانت العلاقة المفتوحة مع أمريكا مُحرمة، وذلك لأنها تُظاهر (تُعاون) المحتل المُباشر بأنواع المُعاونة كالفيتو والضغط على مقاطعيه، وقد نصت الآية السابقة على أن حُكم المُظاهِر هو حُكم المُباشر للحرب والإخراج من الديار.
والعلاقات بين الدول لا توزن بمدة العلاقة، وإنما بالمصالح لا سيما الضرورية، وقد صرح وزير خارجية سابق لبريطانيا أنه ليس لهم أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون وإنما مصالح دائمة.
وأهم مصلحة للمُسلمين هي حفظ الدين، ولكن الدنيا تخدم الدين، ولذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى في جواز العهد المُطلق مع الكفار: (وذلك أنَّ الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا).
وكلمة عهد دائم مضللة، لأن العهد اللازم مثل عقد النكاح - على قول بعض الفقهاء - يجوز إلغاؤه بالإجماع لسبب.
فالصحيح أن العقود إما جائزة أو لازمة، ولا يوجد عقد دائم لا يمكن إلغاؤه بحال.
والألفاظ تؤثر في الفهم، ومن ذلك قولهم دستور دائم، إذ لا يوجد دستور دائم لا يُغير أو يُعدل.
وعهود السلام لازمة في الأصل، فلا يجوز إلغاء المطلق منها (نبذها) عندما يقوى المسلمون إلا إذا خيفت الخيانة.
وخوف الخيانة يكون بظهور أماراتها لاحقاً أو بمُحاربة سابقة؛ كتكرار الغدر قبل قوة المُسلمين، والقتال في الدين، والإخراج من الديار واحتلالها، ومُظاهرة المُحاربين.
وإلغاء العهد بإعلام المُعاهد يُسمى عند الفقهاء بالنبذ، وهو الوارد في قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، وهو ما يُعرف في العلاقات الدولية المُعاصرة بقطع العلاقات الدبلوماسية.
وخوف الخيانة يختلف عن الخيانة، فإذا خيفت الخيانة وجب الإعلام بإلغاء العهد قبل إعلان الحرب، وأما إذا ظهرت الخيانة فلا يُشترط الإعلام، لانتقاض العهد بالخيانة.
ويكون العهد المُطلق جائزاً إذا نُص فيه على الجواز، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر: (نقركم ما شئنا) أو (ما أقركم اللهحُكم العهد المُطلق.
والعلاقات المفتوحة لا تعني الاعتراف بالاحتلال وإن أصر العدو على هذا المعنى أو وقع عليه بعض المسلمين، فكل صلح يحوي شروطاً باطلة فهو باطل.
بل يمكن إلغاء العهد المطلق بعد يومٍ من توقيعه كما لو ظهرت أمارات خيانة لاحقة، والعدو دائم الغدر، والاحتلال أمارة سابقة تجيز النبذ.
فليس الخوف في العهد المطلق، وإنما الخوف في استسلام المسلمين.
وأشنع استسلام هو ما تضمن إلغاء الفوارق 
بين الأديان ونسبة الأديان الباطلة إلى إبراهيم عليه السلام.
قال الله تعالى: ﴿ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفا مسلماً وما كان من المشركين﴾.

صلة المُحارب عند الضرورة والحاجة

صلة المُحارب تجوز عند الحاجة أو الضرورة حسبما يتقضي الحال، وذلك لأن الصلح والصلة مقابل المُقاطعة، فيكون سبب جواز الصلة متعلقاً بما في المُقاطعة من إضرار بالعدو أو تعسير عليه، ومتعلقاً بما يلحق المُسلمين من ضرر أو عسر من مقاطعة العدو.
قال ابن باز رحمه الله تعالى؛ (وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة)، المصدر؛ الموقع الرسمي لسماحة الشيخ ابن باز » أجوبة على أسئلة بخصوص حكم الصلح مع اليهود.
وأما توجيه آية المُمتحنة؛ فصلة المُحارب محرمة لغيرها، وما حرم لغيره يُباح للحاجة.
المحرم لذاته من ولاء الكفار هو ولاؤهم في الدين، وبما فيه ضرر على المسلمين، وتقديم مصلحتهم على مصلحة المُسلمين ونحو ذلك.
وأما الولاء العرفي الدنيوي في مصالح دنيوية محضة فقد يكون محرماً لغيره وقد يكون مباحاً.
ومن الولاء العرفي الدنيوي المحرم لغيره ما هو محرم مطلقاً سواء كان لمحارب أو غير محارب؛ كالمجالسة (مثل الجليس الصالح ....)، ومنه ما هو محرم للمحارب وهو الصلة المُباحة مع غير المُحارب.
والحقوق المُغتصبة لا ترد إلا بالجهاد غالباً، وأما المقاطعة والصلة فعلاقتها بالمصالح والمفاسد المترتبة على المقاطعة والصلح.
فإذا لم يكن في المقاطعة ضرر على العدو بسبب تفرق الدول المسلمة، ففي هذه الحالة تجوز مصالحته لرفع المشقة عن دولة مسلمة.
والمُقاطعة الجماعية فيها ضرر واضح على العدو، لا سيما مقاطعة الدول القريبة، إذ لابد أن تتضرر دولة معزولة عن محيطها.
وقد اتفقت الدول العربية على المُقاطعة، وخروج بعض الدول من هذا الاتفاق دون سبب يعد غدراً ببقية الدول وخيانة للأمانة.
وعندما وقعت مصر كامب ديفيد، تم تعليق عضويتها في الجامعة العربية لعشر سنوات.
ولكن عندما تم إعلان مصالحات أخرى مع العدو الصهيوني وطالبت السلطة الفلسطينية باجتماع الدول العربية لمناقشة الأمر رُفض الطلب، والله أعلم بالسبب.
والواجب على الدول المُسلمة أن تتحد في المواقف لا سيما التي لا ينفك أثرها على بعضهم عن البعض الآخر. 
والله تعالى أعلم.

سؤال وجواب حول ما يُسمى بالتطبيع

ما رأيك شيخنا في بحث؛ الاستدلال بتعامل الرسول _صلى الله عليه وسلم_ مع اليهود على التطبيع، وهو  يعد من أشهر ما كتب في الموضوع.
الجواب
أود التأكيد أولاً على التالي
كلمة التطبيع يُفهم منها أن الصلة مع دولة اليهود مثل الصلة مع غير المحاربين بالإخراج من الديار واحتلالها ومن يظاهرهم، وهذا لا يصح.
فالعهد المُطلق لازم مع من لم يحارب المُسلمين ولم يخرجهم من ديارهم ويحتلها ويُعاون على ذلك، بمعنى أنه لا يجوز إلغاؤه مستقبلاً عند قوة المسلمين إلا بظهور أمارات الخيانة، ولكن لا تجوز مباغتته لمجرد ظهور أمارات خيانة، بل لابد من ثبوتها أو نبذ عهده إليه أولاً، والنبذ يُسمى حديثاً بقطع العلاقات الدبلوماسية.
وأما من أخرج المُسلمين من ديارهم واحتلها وظاهر على ذلك، فيجوز نبذ عهده إليه عند قوة المُسلمين لهذا السبب السابق، وذلك لأن معنى خوف الخيانة يشمل ظهور أماراتها لاحقاً وبسبب سابق، وقد دل على ذلك أيضاً العُرف والعقل، فالمظلوم بإخراجه من دياره واحتلالها مضطر للعهد المُطلق.
ويجب قبل اتخاذ أي قرار بعهد مفتوح مع دولة اليهود دراسة الأمر من جميع جوانبه، ومن ذلك قرارت مجامع الدول المعنية، وآثار المقاطعة والصلح، والنظر في مصالح العدو المرحلية والاستراتيجية، ومنها خططهم التوسعية من النيل إلى الفرات.
ولي على البحث المُلاحظات التالية
1. قوله: (فاليهود الذين تعامل معهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يكونوا محاربين ولا محتلين).
نعم لم يكونوا محتلين، ولكنهم كانوا محاربين ومظاهِرين (معاونين) للأعداء من أهل مكة وغيرهم، ومن يظاهِر المحتل حكمه حكم المتحل؛ {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
وكان اليهود يحرضون على المُسلمين ويغدرون مراراً وتكراراً، ولم يُقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا لمُحاربتهم، وقوله: (نقركم ما أقركم الله) كان بعد حربهم وأخذ بعض أرضهم عنوة ومصالحتهم على الجزء الآخر بذلك.
وما قول الكاتب في صلح الحديبية؟ ألم يكن أهل مكة محاربين؟
2. قوله: (ومرادهم بالمطلقة : التي لا يُصرّح عند الاتفاق عليها على مدّة محدّدة بل تبقى دون مدّة ، ويكون العقد فيها جائزاً).
وقوله: (أمَّا الصلح في القانون الدولي وفي اللغة السياسية الدارجة ، فالمراد به السلام الدائم !) ... إلى قوله: (لأنَّه يؤدي إلى إبطال ما علمت شرعيته بالضرورة ، وهو جهاد العدو).
أولاً؛ لا يجوز التنصيص على أن الاتفاق دائم أو لازم مع المحتل والمُظاهر.
وأما مع غير المُحتل والمُظاهر، فالصحيح أن العهد المطلق معه لازم، فلا يَنتقِض إلا بالخيانة، ولا يُلغى إلا عند خوف الخيانة بظهور أماراتها، وذلك بدلالة النصوص والقواعد والمعاني الشرعية والعُرف.
فقد دل العرف على عدم الإلزام بالعهد مع ظهور أمارات الغدر، وذلك لدلالة العقل على أن في ذلك ضرر على من لا يغدر.
فإطلاق القول بأن العهد المطلق جائز، والظن بأن العهد المطلق إذا كان لازماً يعطل جهاد الطلب خطأ شائع.
 فالعهد المطلق لا يؤدي إلى تعطيل جهاد الطلب عند القدرة لأنَّ كثيراً من الدول الكُبرى والصغرى تخون وتغدر وتُعد لذلك فتظهر منهم أمارات الخيانة.
وكلام الكاتب يعني تحريم كل العهود الدولية المُعاصرة مع غير المُسلمين سواء عبر الأمم المتحدة أو العلاقات الإقليمية أو علاقات حسن الجوار.
وآفة الفهم السقيم هي الآفة، فأمثال هؤلاء سيظلون إما عازفين عن الإصلاح السياسي بتركه للعامة وأهل البدع ليعبثوا بالسياسة، أو مُقحمين دول المسلمين المهالك، بل لا يخلو واقع من يتبنى هذه الآراء الفقهية من أحد الأمرين.
وإذا كان الفقهاء السابقون معذورون لقوة المُسلمين في عصرهم، فما بال المُعاصرين؟ فلا نرى الكثيرين إلا موغلين في ترك النصوص وفهم السلف في هذه المسائل حتى أنكر بعضهم جهاد الطلب، أو مقلدين لبعض من زلَّ في هذه المسائل من العلماء والأئمة من السلف بعد الصحابة والسابقين (السلف هم القرون الثلاثة المُفضلة).
بينت وجه خطأ القول بأن العهد المطلق جائز مطلقاً أو أنه يعطل جهاد الطلب في ثلاثة مباحث، وهي؛ حكم العهد المطلق، سبب مشروعية الجهاد، آيات السيف والبراءة، وهي من كتاب؛ الموجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير.
وأرجو قراءة الروابط الثلاثة كاملة، فأظن أن فيها من الفوائد ما لا يوجد في غيرها، وحبذا قراءة كل الكتاب.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأربعاء 11 ربيع الأول 1442هـ، 28 أكتوبر 2020م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق