الميل ومسافة مسجد الجمعة وبلوغ الأذان

الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الميل الأمريكي قديم
رجح باحثون معاصرون مذهب المالكية في أن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع، والذراع من المرفق إلى آخر الوسطى وهي أطول إصبع.
ولهذا خرجت بعض التقديرات المعاصرة لمسافة القصر بأنها حوالي ثمانين كيلومتر، وذلك لأن بعض السلف قدروها بأربعة بُرُد، ومن ذلك ما ذكره البخاري تعليقاً عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يقصران ويفطران في أربعة بُرُد فما فوق.
وقد اتفق الفقهاء على أن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، واختلفوا في كم ذراع في الميل.
فبعض من ذهب من المعاصرين إلى أن مسافة القصر حوالي ثمانين كيلومتر اعتبر الذراع 48 سم؛ 4 × 4 × 3 × 3500 × 0.48 = 80640 متر = 80.64 كم.
وقد بحثت باللغة الإنجليزية متوسط طول الذراع البشري بالسنتمرات، فوجدته مقدراً في بعض المواقع بحوالي 46 سنتمتراً، وبهذا التقدير يكون الميل على مذهب المالكية 1610 متراً تقريباً؛ 3500 × 0.46 = 1610 متر = 1.61 كم.
والميل الأمريكي حوالي 1609 متر ≈ 1.61 كم، وأصله روماني، وحسابه القديم يساوي ألف خطوة، ويغلب على الظن أن الميل الأمريكي هو ذات الميل المعروف عند العرب لأن الرومان كانوا يحكمون بلاد الشام التي كان يُسافر إليها أهل المكة للتجارة.
والمرحلة بريدان، والباع أربعة أذرع، والذراع شبران.
والشبر من آخر الإبهام إلى آخر أصغر أصابع اليد عند مد الأصابع.
والباع من آخر الوسطى في اليد اليمنى إلى آخر الوسطى في اليد اليسرى عند مد اليدين.
وقد بحثت طول الباع بالإنجليزية (Fathom) فوجدته حسب غوغل 182.88 سنتمر، وعليه فإن طول الذراع حسب غوغل  45.72 سنتمتر تقريباً  ≈ 46 سنتمر.
وحول مسافة القصر كنت قد بحثت ضابط السفر الذي هو علة القصر والفطر في نهار رمضان، فخلصت إلى أنه كل سفر محتمل للمشقة، وأن هذا القول يجمع أقوال السلف والسابقين جميعاً، فيكون حده بالمسافة أحياناً وبالزمن أحياناً وبوصف أخرى (ما حمل فيه الزاد والمزاد).
وقولي في حد السفر يعد من الإحداث الجائز كما فصلت ذلك في عدد من المقالات في مدونتي، وللمزيد حول حد السفر الشرعي؛ مدونتي » أحكام » حكم الفطر في نهار رمضان للمسافر بالوسائل الحديثة.
مسافة سماع الأذان
وعلى ما سبق فإن مسافة وجوب صلاة الجمعة والجماعة على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى حوالي خمسة كيلومترات، فقد نص على أن الوجوب لمن يسمع الأذان، وأنه يُسمع على بعد فرسخ، وقد اتفقوا على أن الفرسخ ثلاثة أميال، 3 × 1.6 = 4.8 كم.
وليس في إيجاب الجمعة بهذا التقدير إشكال، ولكن ثمة إشكال في إيجاب الصلوات الخمس به، لأن الخمسة كيلومترات تقطع مشياً في ساعة حسب معيار خريطة غوغل، فخمس صلوات تستلزم مشي عشر ساعات في اليوم ذهاباً وإياباً، ولا يخفى ما في ذلك من مشقة، بل ما فيه من ضرر واضح في استغلال الأوقات للضروريات.
بحثت في مواقع إنجليزية عن مدى سماع صوت الصراخ، فوجدت حساباً فيزيائياً لذلك، وكانت النتيجة حوالي 2 كم، وهذا الحساب مثالي اعتبر فقط معدل ضعف الصوت بالمسافة ومعدل ضعفه بضغط الهواء الطبيعي في درجة 20 درجة مائوية مع عدم اعتبار أي ضوضاء بما في ذلك حركة الهواء وصوت الأشجار والعصافير.
ثم وجدت في موقع آخر أن الكلام العالي يُفهم بوضوح من على بعد 100 متر عند عدم وجود ضوضاء، ويُفهم بوضوح من على بعد 10 أمتار في حال وجود ضوضاء بمقدار 45 إلى 55 ديسبل (dB).
فقدرت بهذه الاعتبارات أن الأذان يُسمع بوضوح إذا كان من مرتفع وكان الجو هادئاً من غير ضوضاء من على بعد 150 متر، لأن الأذان من مرتفع كما ورد عن بلال رضي الله عنه.
فلعل كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مدى بلوغ الأذان هو في حال ما إذا حملته الريح، وقد يُجاب عن الحساب الفيزيائي أنه باعتبار سطح مستوٍ، وكان بلال رضي الله عنه يؤذن من مرتفع.
ثم وجدت دراسة لمساجد المدينة على عهد الرسالة باستخدام طرق حديثة أجريت في جامعة الملك فيصل، أجراها مهندس مدني، وكان هدف الدراسة المساعدة في تخطيط مساجد المدن.
ومن نتائح الدراسة أن متوسط نطاق خدمة المساجد التي لا تقام فيها الجمعة حوالي 131 متراً، وهي مسافة معقولة لتمكين المصلين من صلاة الجماعة بسهولة وطمأنينة، ومعنى مسافة الخدمة المسافة الدائرة التي يصل منها سكان أبعد بيت، وهذا يعني أنه لا يوجد مسجد آخر إلا بعد ضعف تلك المسافة وهي؛ 262متر تقريباً.
مسافة المسجد الجامع
لم تكن الجمعة تقام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إلا في مسجده، فكانت تقام في بقية المساجد الصلوات الخمس فقط ولا تقام فيها جمعة.
وقد شدد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فأبطل الصلاة في غير المسجد الجامع، ومنع إقامة الجمعة في غيره في البلدة الواحدة مهما توسع العمران.
ومع أن قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ليس عليه دليل وفيه مشقة ظاهرة إلا أن سائر الفقهاء قد نصوا على كراهة إقامة الجمعة في المساجد المتقاربة.
واختلفوا في اعتبار المدينة الواحدة، فذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنها ما كان لها سوق واحد، ومنهم من قال بأنها ما كان لها اسم واحد.
أرى والله تعالى أعلم أن يكون الاعتبار بالمساحة، وأن يكون المعيار مساحة المدينة على عهد الرسالة.
وقد وجدت في دراسة مساجد المدينة على عهد الرسالة أن متوسط نطاق خدمة صلاة الجمعة والعيدين حوالي خمسة كيلومترات، وهي مسافة معقولة لتمكين المصلين من صلاة الجمعة والعيدين بيسر وطمأنينة.
قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (الذي نرى أنه لا تجوز إقامة الجمعة في أكثر من مسجد واحد إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ كتباعد البلد، أو ضيق المسجد، أو خوف الفتنة، أو ما أشبه ذلك، وقد نص على ذلك أهل العلم رحمهم الله، وأخص بذلك فقهاء الحنابلة؛ لأن تعدد الجمعة لغير حاجة مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع في عهده إلا جمعة واحدة، بل إن تعدد الجمعة لم يحصل إلا في القرن الثالث الهجري، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم؛ ولأن تعدد الجمعة دون حاجة يؤدي إلى فوات ميزتها على غيرها، فإن صلاة الجمعة تسمية لا بد فيها من اجتماع، فإذا توزعت في المساجد لم يكن بينها وبين غيرها فرق، فيفوت بهذا التعدد مقصود الجمعة، وهو اجتماع الناس على إمام واحد وائتلافهم) [1].
الكثافة السكانية لها علاقة فقط بسعة المسجد ما لم تقتضي الضرورة غير ذلك، فعند الكثافة العالية تخطط المساجد بتوسع إما أفقي أو رأسي، والتوسع الأفقي أفضل إذا أمكن لتسهيل الحركة ولما في ذلك من إظهار القوة العددية للمسلمين، ففي رؤية العدد الكبير في المكان الواحد أثر نفسي واضح.
مسافة وجوب الجمعة
نطاق خدمة مسجد الجمعة في الدراسة المشار إليها سابقاً يتفق مع ما ذهب إليه بعض العلماء من تحديد مسافة وجوب الجمعة، فقد نص الإمام أحمد على أنها مسافة فرسخ وهو حوالي 5 كيلومترات، وبه قال مالك والليث، وهذا يتفق مع ما خرجت به الدراسة من أن نطاق خدمة الجمعة والعيدين 5 كم.
وقال أبو حنيفة والشافعي بوجوب الجمعة على كل أهل البلدة مهما توسعت، ولا يصح قول الحافظ النووي بأن الإجماع منعقد على هذا القول، وكذا لا يصح قول المرداوي بأن الخلاف المنقول هو فيمن ليس لهم مسجد جمعة من أهل القرى والبوادي.
فالكلام المنقول عن الصحابة والأئمة عام، ولا يخفى ما في قول النووي والمرداوي ومن قال بقولهما من بعد عن الصواب من جهة اعتبار المقاصد الشرعية؛ ومنها رفع الحرج والمشقة، ومنها عدم التفريق بين متماثلين، فإنهم فرقوا بين من ليس لهم مسجد جمعة من أهل القرى وبين من لهم مسجد جامع من أهل المدن في اعتبار المسافة، وهذا تفريق بين متماثلين.
ولعل الصحيح في وجوب الجمعة أنه لا يرخص لمن يسكن على بعد خمسة كيلومترات في أكثر من جمعتين متتاليتين، وأن حضور كل جمعة سنة مؤكدة عليهم، وأن حضور كل جمعة واجب على من يسمع النداء وعلى من يسكن على بعد مسافة يسمع منها النداء، وهي بالتقدير السابق حوالي 150 إلى 200 متر.
يدل على الترخيص في جمعتين متتاليتين لمن يسكن على بعد خسمة كيلومترات مفهوم المخالفة من حديث أبي قتادة وجابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن ترَكَ ثلاثَ جُمعٍ تَهاونًا بِها، طبعَ اللَّهُ على قلبِه) [2]، وفي رواية عن أبي قتادة وجابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ تَرَكَ الجمعةَ ثلاثَ مرّاتٍ متوالياتٍ مِنْ غيرِ ضرورةٍ، طَبَعَ اللهُ على قلْبِهِ) [3].
وذلك لأن الخطاب كان لمن يحضر الجمعة، وأبعدهم من يسكن على بعد خمسة كيلومترات، وأما خصوصية الترخيص في جمعتين بمن يسكن بعيداً عن مسافة سماع الأذان، فجمعاً بين هذا الحديث والنصوص التي تدل على وجوب الجمعة على من يسمع النداء.
مما يدل على وجوب الجمعة على من يسمع النداء قول الله تعالى ذكره: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَوٰةِ مِن یَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡا۟ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُوا۟ ٱلۡبَیۡعَۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ}.
ويدل على وجوب كل جمعة على من يسمع النداء أيضاً حديث تميم الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعةُ على من سمع النِّداءَ) [4].
وقد؛ (روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن سعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب؛ تجب الجمعة على من سمع النداء، وأن عبد الله بن عمرو كان يكون من الطائف على ثلاثة أميال فلا يأتي الجمعة، وبه يقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه) [5].
ولابن حزم رحمه الله تعالى رأي مُشابه وعزاه إلى ربيعة أيضاً استدل له بالآية فقال: (ويلزم المجيء إلى الجمعة من كان منها بحيث إذا زالت الشمس وقد توضأ قبل ذلك دخل الطريق إثر أول الزوال ومشى مترسلاً ويدرك منها ولو السلام، سواء سمع النداء أو لم يسمع، فمن كان بحيث إن فعل ما ذكرنا لم يدرك منها ولا السلام لم يلزمه المجيء إليها، سمع النداء أو لم يسمع، وهو قول ربيعة) [6].
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأثنين 2 جمادى الآخر 1441ه، 27 يناير 2020م
[1] الموقع الرسمي » الصلاة » أحكام المساجد » حكم تعدد المساجد في الحي الواحد.
[2] أخرجه أبو داود (١٠٥٢)، والنسائي (١٣٦٩) واللفظ لهما، والترمذي (٥٠٠)، وابن ماجه (١١٢٥)، وأحمد (١٥٤٩٨)، وصححه الألباني في؛ صحيح وضعيف سنن النسائي (١٣٦٩).
[3] صححه الألباني رحمه الله تعالى في؛ صحيح الجامع (٦١٤٠).
[4] أخرجه أبو داود (١٠٥٦)، والدارقطني (١٥٨٩)، والبيهقي في السنن الكبرى (٥٥٨١)، والمروزي في الجمعة (٦٧)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (٣١١٢).
[5] المحلى بالآثار لابن حزم (ج3/ص260)، دار الفكر، بيروت.
[6] المحلى بالآثار لابن حزم (ج3/ص259)، الطبعة السابقة.
pdf
الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق