النزول اللائق بالله الخالق

ينزل الله تعالى - وهو في علوّه - إلى السماء الدنيا، نزولاً حقيقيّاً لائقاً به بلا تكييف، ولم يفهم السلف من كلمة (إلى) المعنى الثابت للبشر (انتهاء الغاية المكانية المخلوقة).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العظيم الجليل، المنزه عن النقص والمثيل، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، وعلى صحابته الغير الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

هو في علوّه

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)، أخرجه البخاري (١١٤٥)، ومسلم (٧٥٨).
إضافة "وهو في علوه" لصفة النزول هي مثل إضافة "بائنٌ من خلقه" على "مستوٍ على عرشه".
قال بمعنى هذه الإضافة حماد بن زيد، وأُثرت عن السلف بعبارة "لا يخلو منه العرش"، وكرهها بعضهم بسبب مفهوم "لا يخلو"، لأن يشغل لم ترد، وإنما وردت كلمة استوى.
فهذه الإضافة لمراعاة التيسير في رد شبهة أن إثبات صفة العلو يعني إثبات حلول الله في السماوات ونزوله تحتها.
فإنّ السلف لم يفهموا من كلمة (إلى) المعنى الثابت للبشر (الغاية المكانيّة المخلوقة).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم؛ بل الله منزّه عن ذلك) [١].
وقد قال العلماء في قول حمّاد بن زيد رحمه الله أنّه إمرارٌ للنص على ظاهره، وقوله هو بمعنى أنّ الله تعالى ينزل في علوّه.
قال ابن رجب رحمه الله: (والفرقة الثالثة: أطلقت النزول كما ورد، ولم تتعد ما ورد، ونفت الكيفية عنه، وعلموا أن نزول الله تعالى ليس كنزول المخلوق. وهذا قول أئمة السلف: حماد بن زيد، وأحمد؛ فإن حماد بن زيد سئل عن النزول، فقال: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء) [٢].
ومراد حمّاد بن زيد بكلمة مكانه علوّه، فالمعنى؛ (هو في علوه، يقرب من خلقه كيف شاء).
فالشارع أثبت كلمة العلو.
وأمّا كلمة المكان فمن أثبتها قصد بها العلو، ومن نفاها قصد بها المكان المخلوق.
والتقيّد بالألفاظ النصيّة أسلم.
ولم يتوسّع حمّاد بن زيد في استعمال كلمة المكان، فقد أوردها مقابل سؤال؛ (أيتحوّل من مكان إلى مكان؟).
وقول (هو في علوه) موافق للمأثور عن السلف؛ (لا يخلو منه العرش).
وقد أمسك عن قول؛ (لا يخلو منه العرش) بعضهم، وهو الأسلم، لأنّ مفهوم (لا يخلو) أنّه يشغل العرش، وكلمة يشغل لم ترد في النصوص، وإنما وردت كلمة الاستواء.
ومن أثبت عبارة (لا يخلو منه العرش) من السلف ومن بعدهم أثبتها في مقام الرد على الشبهات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والقول الثالث: هو الصواب، وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أنه لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه، مع دنوّه، ونزوله إلى سماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه، وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم؛ بل الله منزّه عن ذلك) [١].
فاللهتعالى في علوه منزه عن الحلول في شيءٍ من خلقه والنزول تحته.
والعقل الصحيح لا يستحيل إثبات صفة النزول لله تعالى.
ولا يردّها إلا ضعيف الرأي أو مبتدع، قاله ابن راهويه رحمه الله.

دلالة إلى

إذا كانت إلى متعلّقة بالنزول، فإنّ معناها مباين للمعنى الثابت للبشر (الغاية المكانية المخلوقة).
وقد تكون إلى متعلّقة بالنظر المضمّن في النزول.
فيكون معنى (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)؛ ينزل لينظر إلى السماء الدنيا نظراً خاصاً إقبالاً على من تحتها.
كتعلق اللام بالخلق لا بإنزال قدر الله في؛ ﴿وأنزل لكم من الأنعام﴾ و ﴿قد أنزلنا عليكم لباساً﴾، والمعنى؛ أنزل قدره فخلق لكم.
فيكون تخصيص السماء الدنيا بهذا المعنى بسبب أنّ الإنس والجن تحتها.
وصفة النزول تدلّ على صفة العلو، سواءٌ تعلّقت إلى بالنزول أو بالنظر الخاص المضمّن في النزول.
فإذا تعلّقت بالنظر المضمّن في النزول فإنّ في؛ (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) معنى نزول الله تعالى ومعنى النظر إلى السماء الدنيا بنزوله.
كما أنّ في إنزال الله تعالى الأنعام واللباس معنى إنزال أمره وقدره وخلقها للناس بإنزال أمره وقدره.
إذ لابدّ لكلمتي أنزل وينزل من معنى.
والفرق هو أنّ الفعل أنزل متعدّ، ونزل لازم، ولذا كان الخلق بإنزال قدره، والنظر الخاص بنزوله هو نزولاً لائقاً به سبحانه وتعالى.
قال السعدي رحمه الله: (﴿وأنزل لكم من الأنعام﴾ أي: خلقها بقدر نازلٍ منه) [٣].
وقال الطبري رحمه الله: (﴿يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً﴾ يعني بإنزاله عليهم ذلك: خلقه لهم، ورزقه إياهم) [٤].
والنظر الخاص واضح بقوله: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له).
ومن أمثلة النظر الخاص؛ قول رسول الله ﷺ: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، أخرجه البخاري (٥٧٨٣) ومسلم (٢٠٨٥).
أخرج البيهقي عن أبي داود الطيالسي أنه قال: (كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث لا يقولون كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر. قال أبو داود: وهو قولنا. قلت (البيهقي): وعلى هذا مضى أكابرنا) [٥].

النزول بدون حد

القول بأنّ نزول الله تعالى مرادٌ به نزول رحمته حدّ للنزول وتحريفٌ للمعنى، وليس صرفاً لكلمة في نصّ عن ظاهرها المعتاد في غيرها.
ونسبته للإمام مالك ضعفها أهل الشأن.
والقول بنزول ملائكته أبعد.
فالملك والرحمة لا يقولان: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له).
وأما معاني النزول والقرب والنظر والإقبال فهي واضحة في النص وتتضمن معنى الرحمة.
ولذا نهى الإمام أحمد عن حد النزول بالعلم.
قال ابن رجب رحمه الله: (وقال حنبل: سألت أبا عبد الله: ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم. قلت: نزوله بعلمه أو بماذا؟ قال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إلا بما جاءت به الآثار، وجاء به الكتاب، قال الله: ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ ينزل كيف يشاء) [٢].
وعلى فرض صحّة ما رواه البيهقي بدون سند عن حمّاد بن زيد أنّه قال: (نزوله إقباله) فإنّه لا ينافي الدنوّ والاقتراب الذي صحّ عنه.
فتعدّد ألفاظ أحاديث النزول (ينزل، يهبط، يدنو) يدلّ على معنى الاقتراب والنزول، والإقبال مضمّن فيها وفي سياق الحديث؛ (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له).
وظاهر الجمل والكلمات مرادٌ ما لم يدلّ دليلٌ على خلافه.
والمعنى المؤوّل للكلمة مع قرينة في الجملة تدلّ عليه هو معناها الظاهر (المتبادر للذهن) فيها.
فإذا لم توجد قرينةٌ فيها حُملت على معناها الظاهر ما لم يدلّ نص آخر على أن ظاهرها غير مراد.
وللجمل ظاهر استعمالٍ كما للكلمات ظاهر استعمالٍ [٦].
ولذا تردّد معنى (لا يصلينّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة) بين ظاهر الاستعمال وظاهر اللغة.
وإذا قال والد لولده؛ "إذا لم تشتر الخبز، فلا ترجع إلى البيت"، فإذا لم يجد الخبز ولم يرجع يكون قد خالف أمر والده، لأنّ استعمال الجمل مقدّم كاستعمال الكلمات.

اختلاف ليالي البلدان

لا وجه للاعتراض باختلاف زمان ثلث الليل الآخر من بلد إلى آخر.
فإذا كنّا لا نعرف الزمن المخلوق معرفةً مطلقةً، فمن باب أولى ما يتعلّق منه بأفعال الخالق سبحانه وتعالى.
فمعرفتنا بالزمن نسبيّة؛ بحركة أجسام مخلوقة (الساعات الكونية والمصنوعة).
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه اللهه: (الزمان مقدار الحركة؛ والحركة قائمة بالجسم المتحرك) [٧].

من أقوال السلف

المؤمن حقّاً لا يستقبح استعمال ألفاظ النبي ﷺ ولا يفضّل كلماتٍ محدثة عليها.
ولذا لم يتحرّج السلف من ذلك، والتالية بعض أقوالهم في صفة النزول؛
قول الإمام أبي حنيفة: (ينزل بلا كيف) [٨].
وقول الإمام مالك منقولٌ التالي؛
قول الإمام الشافعي: (القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء) [٩].
وقول الإمام أحمد؛ (قال إسحاق بن منصور الكوسج، قال: قلت لأحمد: «ينزل ربنا عز وجل كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا» أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح. قال إسحاق بن راهويه: ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي) [١٠] .
والنقولات عن السلف كثيرة، وفيما سبق غنية.

العلوّ وكروية الأرض

دعوى الجهميّة بأنّ كرويّة الأرض تجعل علوّنا سفل من يقابلنا باطلة حتى عند نسبتها للمخلوقات.
فأعلى الشكل الكروي محيطه وأسفله مركزه، قاله ابن تيمية رحمه الله.
وقد تقدّم أنّ إدراكنا للزمن نسبي، فكذلك إدراكنا للمكان، وهما مخلوقان، فكيف بعلو الخالق سبحانه وتعالى؟
ونظرنا الفطري للعلو عند ذكر اسم الله يدلّ على ثبوته مع بطلان التفكّر في كيفيّته، ويدلّ مع النصوص على جواز الإشارة.
والكلام هنا لبيان أنّ النظر للأعلى نظرٌ إلى العرش المخلوق، خلافاً لما فوق إدراكنا من المخلوقات فضلاً عن الخالق سبحانه تعالى.
فالعقلاء حتّى من الكفّار (علماء الفيزياء من غير الملاحدة) يقولون لا تسأل في ماذا يتمدّد الكون؟ لأنّه أمرٌ خارج عن إدراكنا.
وللبيان لابدّ أولاً من ذكر أنّ السلف أجمعوا على كرويّة السماوات والأرض، وأنّ العرش كالقبّة بالنص.
وقد نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع وعدداً من أقوال السلف.
ولابدّ كذلك من معرفة أنّ كلّ المجرّات والنجوم تحت السماء الدنيا، ﴿ولقد زينّا السماء الدنيا بمصابيح﴾.
ولابدّ كذلك من بيان أنّنا لا نحسّ بالتردّدات العالية.
ولذا لا نستطيع رؤية موجات الغاما مثلاً، ولا نستطيع سماع تردّدات صوتيّة فوق ٢٠ كيلو هيرتز (عشرين ألف مرّة في الثانية).
فإذا عُلم ما سبق فإنّ مدّة الاتجاه المعاكس للعرش أثناء النظرة الواحدة للعلو لا يمكن الشعور بها، ولا تسوى شيئاً نسبةً لمدّة النظرة.
فحركة الأفلاك متداخلة مع اختلاف سرعاتها واتجاهاتها وزوايا دورانها.
واللّيل والنهار بسبب الحركة النسبيّة للشمس والأرض.
والقمر عاكسٌ لضوء الشمس، ولحركتها أثرٌ في الشهر.
والشمس تجري، وفي النظريّات الحديثة؛ تدور بسرعة هائلة مع كواكب مجموعتها حول ثقبٍ أسودٍ في مركز مجرّتنا التي تسمّى درب التبّانة.
ويقولون بوجود ملايين المجرّات في كلٍّ منها ملايين النجوم.
وكلُّ مجرّة تدور مع أخريات حول ثقوبٍ سوداء أعظم.
ولذا قسّموا المجرّات لمجموعاتٍ.
فكلٌ يدور بسرعاتٍ مختلفةٍ في اتّجاهاتٍ مختلفةٍ متداخلة.
فسرعات بعضها هائلة لدرجة أنّه لا يمكن كتابتها، وحركاتها متداخلة.
فالاتّجاه المعاكس للعرش يمرّ أثناء النظر لأعلى بسرعة لا نشعر بها لكونها جزءً صغيراً جداً من الثانية لا تسوى شيئاً بالنسبة لمدّة النظرة.
يؤكّده أنّ العرش ضخمٌ جداً نسبةً لباقي المخلوقات.
وإذا افترضنا أنّ مساراتٍ تدور فيها الأرض موازية للعرش، ففي النظرة الواحدة يكون مجموع مدد الترددات في اتجاه العرش أطول من مجموع مدد الترددات المعاكسة، والعبرة بالغالب.
والله تعالى أكبر من كل شيءٍ.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الخميس ٢٣ ذو الحجة ١٤٤٦هـ، ١٩ يونيو ٢٠٢٥م.

مصادر ومراجع

[١] مجموع الفتاوى (ج٥/‏ص٤١٥) - ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ).
[٢] فتح الباري (ج٦/ص٥٣٥) - ابن رجب الحنبلي (ت ٧٩٥هـ).
[٣] تيسير الكريم الرحمن (ج١/ص‏٧١٩) - عبد الرحمن السعدي (ت ١٣٧٦هـ).
[٤] جامع البيان (ج١٠/ص‏١١٩) - أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت ٣١٠هـ) - ط هجر.
[٥] السنن الكبرى (ج٣/ص‏٣) - أبو بكر البيهقي (ت ٤٥٨هـ) - ط العلمية.
[٦] إنها حرفية لا ظاهرية.
[٧] مجموع الفتاوى (ج٦/‏ص٥٨٨) - ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ).
[٨] الحجة في بيان المحجة (ج٢/ص‏١٢٨) - إسماعيل التيمي الأصبهاني (ت ٥٣٥هـ).
[٩] العلو للعلي الغفار (ج١/ص‏١٦٥) - شمس الدين الذهبي (ت ٧٤٨هـ).
[١٠] الإبانة الكبرى (ج٧/ص‏٢٠٥) - ابن بطة (ت ٣٨٧هـ).
[١١] عمر البشرية.