التجارب السياسية

⏩فساد حال من اشتغل بالسياسة     ⏫محتويات الكتاب     الإلزام بالآراء في المسائل الخفية⏪

كلمة تجربة تعني أنها لا تزال في طور الدراسة، وهذا وصف دقيق لما قام به كثيرٌ ممن ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا من أهم أسباب فشلها وفساد المشتغلين بها.
والتجارب تُذكر للعبرة في النصي مثل الخروج على السلاطين الظلمة، أو في الاجتهادي لمعرفة جوانب القصور كما في يوم أُحدٍ ويوم حُنين، ولابد مع ذلك من النظر في النصوص والمعقول.
ولو نظرنا في التجربة الجزائرية مثلاً من باب العظة والعبرة؛ فمع أن ضررها كان أعظم، فإن فيها ما يؤكِّد جواز بعض أنواع الإصلاح السياسي الاستثنائي؛ وذلك لانتشار الخير والتدين في تلك الحقبة عندما تولت الجبهة الإسلامية للإنقاذ البلديات بالانتخابات.
وأما زوال الخير بعد ذلك فلا يمكن أن يكون بسبب كل عمل سياسي للجبهة، لأنَّ العقل يدل على أن السبب في حصول الخير لا يمكن أن يكون هو ذات السبب في زواله، فعُلم أن سبب الخير غير سبب الفشل والشر، ومن أسباب فشلهم الاستعجال في الإصلاح بالدخول في صراع مع قيادات الجيش.
وقول بعض العلماء بجواز التصويت لأحزاب بدعية يلزم منه أن توليهم أفضل من تولي غيرهم، ففي السودان مثلاً كان لدخول الترابي وجماعته في مصالحة مع النميري ثم استلامهم الحُكم بالسودان أثر في تنحية العلمانيين تدريجياً من مواقع النفوذ.
وهذا لا يعني أنَّ وجود هذه الجماعات ظاهرة صحية، فقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً) [1].
فهذا بسبب عدم تمكُّن أهل السنة من ذلك، ولا يصح أن يكون هذا دليلاً على أن وجود الرافضة والجهمية ظاهرة صحية، لأنهم لم يقوموا بذلك على الوجه الشرعي الصحيح، وهكذا فإِنَّ ما في جماعات مخالفة منهجياً من حسنات وتمكنهم من أعمال لم يتمكن منها أهل السنة واحتياج أهل السنة للتعاون معهم بشروط معينة يدخل في الضرورات والحاجات المُلجئة والتعذُّر؛ مدونتي » شبهات وردود » الإخوان بين اليوسف والمدخلي وأنصار السنة.
أكثر ما يسمى بالتجارب السياسية فاسدة، والتجربة تطلق على ما لا يزال في طور الدراسة، فهي حقاً تجارب، لم تُراعى فيها الضوابط الشرعية والحِكمة، ولا يكاد يرى أصحابها إصلاحاً إلا بتلك الوسائل التي فيها مخالفات شرعية، ولكن في المقابل فإنَّ حُكم بعض الناس على آحاد أعمالها قاصر.
فبعض الناس ينظر في مثل هذه الأمور فقط من ناحية ما تحقق من مصالح ودُريء من مفاسد أثناء التولي كما سبق، ويُهمل النظر فيما تم دفعه من ضرر أعظم كان متوقعاً بيقين أو بظن غالب، وهذا أمر قل من يتفطن إليه.
كما أن أكثر العوام لا ينظر إلا إلى الضرر الأخف وأثره السيء من غير نظر فيما تم دفعه من ضرر أعظم أو ما تم تحقيقه من تخفيف شر بتحقيق مصالح ودرء مفاسد.
ولهذا فإن كثرة هذه المسائل من أسباب الفتنة بين المسلمين، وتزداد الفتنة كلما نقص العلم وكثُر الهوى، والضرورات والحاجات تتوافر في البلاد التي يكون نظام الحُكم فيها غير شرعي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وهذا باب التعارض باب واسع جدَّاً، لا سيَّما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوَّة وخلافة النبوَّة، فإنَّ هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأُمَّة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيِّئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجِّحون هذا الجانب وإن تضمَّن سيِّئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيِّئات فيرجِّحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسِّطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبيَّن لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرَّة، أو يتبيَّن لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيِّئات لكون الأهواء قارنت الآراء" [2].
عمر عبداللطيف محمد نور
هلسنكي، فنلندة
الجمعة ٢٧ رجب ١٤٣١هـ، ٩ يوليو ٢٠١٠م
التعديل؛ الأحد ٢٠ رجب ١٤٤١هـ، ١٥ مارس ٢٠٢٠م

المصادر

[1] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج13/ص96)، المحقق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.
[2] مجموع الفتاوى (ج20/ص57-58)، الطبعة السابقة.
pdf

⏩فساد حال من اشتغل بالسياسة     ⏫محتويات الكتاب     الإلزام بالآراء في المسائل الخفية⏪

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق