فساد بعض من تولى وظائف سياسية عُليا لا يصلح دليلاً على فسادها مطلقاً، لأن الفساد إما أن يكون بسبب العمل أو النية أو فسادهما معاً.
من أمثلة فساد العمل طلب الولاية، وتوليها عن طريق ترشيحات المنظمات المدنية أعضاءها، ومن أمثلة فساد النية الحرص على الوظيفة العُليا لأجل الدنيا لا لأجل الدين.
قال ابن تيمية رحمه الله: (ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف، وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم؛ رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الإيمان وكمال الدين. ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك. ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك، فأخذه معرضاً عن الدين؛ لاعتقاده أنَّه منافٍ لذلك، وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل، لا في محل العلو والعز. وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدينين العجز عن تكميل الدين، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء؛ استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنَّه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها) [1].
ثم ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذلك الكلام الذي نقلته في مبحث؛ الإصلاح السياسي في مبدأ الدعوة، وهو كلامه في طريقة النصارى واليهود الفاسدة وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون والسلف الصالح في السلطان والحرب والمال، ثم بين بعدها جواز أو وجوب أو استحباب تولي ولايات سلطانية حتى مع العجز عن أداء كل واجباتها والانتهاء عن كل محرماتها، وذكر قصة يوسف عليه السلام.
والحرص على المال وعلى الشرف ومنه السلطان والرياسة مفسدان للدين، وذلك إذا كان طلب المال لغير الإنفاق والآخرة، وأما الرئاسة فالأصل في طلبها الحُرمة، ولهذا تكلم العلماء عن طلب الوظائف العادية لأجل تخفيف الشر، وأما الوظائف السياسية العليا فلا تطلب، ولكن إذا عرضت على الإنسان فتوليها لتخفيف الشر جائز.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الزهد الناقص أو الفاسد بعد كلامه عن الورع الفاسد وذِكر النوع الثالث من الورع الفاسد والذي هو من جهة المعارض الراجح: (وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وأمثاله كثيرة؛ فإنه ينتفع بها أهل الورع الناقص أو الفاسد، وكذلك أهل الزهد الناقص أو الفاسد. فإنَّ الزهد المشروع الذي أمر الله به ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح، فترك فضول المباح الذي لا ينفع في الدِّين زهد وليس بورع.
ولا ريب أنَّ الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر، كما روى الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، قال الترمذي حديث حسن صحيح، فذَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على المال والشرف، وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أنَّ ذلك يفسد الدِّين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم.
وهذا دليل على أنَّ الحرص إنما ذم لأنه يفسد الدين الذي هو الإيمان والعمل الصالح، فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل، وهذان هما المذكوران في قوله تعالى: : {مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}، وهما اللذان ذكرهما الله في سورة القصص حيث افتتحها بأمر فرعون، وذكر علوه في الأرض، وهو الرياسة والشرف والسلطان، ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال، وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا، ثم قال : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} كحال فرعون وقارون.
فإنَّ جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد. وكذلك الإنسان إذا اختار السلطان لنفسه بغير العدل والحق لا يحصل إلا بفساد وظلم، وأما نفس وجود السلطان والمال الذي يبتغى به وجه الله والقيام بالحق والدار الآخرة، ويُستعان به على طاعة الله، ولا يفتر القلب عن محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر، ولا يصده عن ذكر الله، فهذا من أكبر نعم الله تعالى على عبده إذا كان كذلك)[2] .
عمر عبداللطيف محمد نور
هلسنكي، فنلندة
الجمعة ٢٧ رجب ١٤٣١هـ، ٩ يوليو ٢٠١٠م
التعديل؛ الأحد ٢٠ رجب ١٤٤١هـ، ١٥ مارس ٢٠٢٠م
المصادر
[1] مجموع الفتاوى (ج28/ص394-396).
[2] مجموع الفتاوى (ج20/ص142-143).
[2] مجموع الفتاوى (ج20/ص142-143).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق