جعلوا الوطن أقدس المقدسات

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الوطن المحبوب فطرياً هو بلد المولد والنشأة والعشيرة، وعشيرة الرجل هم أقرباؤه الذين يعاشرهم.
وحب الوطن السياسي تبع لحب الوطن الحقيقي، والمواطنة عقد فيه تحقيق مصالح المتعاقدين فلزم أن تكون بين أفراده صلة خاصة، يدل على ذلك قوله في الحديث التالي؛ (لهمْ ذِمَّةً)، فالذمة هي العهد والأمان.
والوطن السياسي غالباً ما يضم شعباً واحداً أو شعوباً بينها رحم، والشعب درجة من النسب أكبر من القبيلة كبني إسرائيل وبني إسماعيل، ومن درجات النسب القبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة والعشيرة.
وقد دلت السنة على تأكيد الإحسان إلى الرحم البعيد وخصوص صلته، وذلك لحديث؛ (إذا افتتحتُم مصرَ فاستوصوا بالقبطِ خيرًا، فإنَّ لهم ذمةً ورحماً)، قال الألباني رحمه الله تعالى: (صحيح على شرط الشيخين) [1]، وفي صحيح مسلم؛ (إنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيراطُ، فاسْتَوْصُوا بأَهْلِها خَيْرًا، فإنَّ لهمْ ذِمَّةً ورَحِمًا) [2]. 
ولكن حب الدين مقدم على حب الأوطان، وما الذي يجعل الوطن مقدماً على الدين؟ الإنسانية؟ فمن الذي يحدد ما هو إنساني وما ليس كذلك؟ فمثلاً؛ البعض يعتقد أنَّ الإنسانية في قتل القاتل لأن في قتله حياة للناس، وثمة من يرى أن القتل ضد الإنسانية.
وأما تقديم الوفاء بالميثاق الوطني على بعض الواجبات الشرعية فهو من باب الوفاء بما يُقَر عليه لا به، وهو مثل تقديم حقوق الآدمي على حقوق الله تعالى في الحذر من التعدي عليها.
فسبب تقديم حقوق الآدمي هو لأن حقه مبني على المشاحاة وحق الله تعالى مبني على المغفرة والرحمة، وليس لأن حق المخلوق أولى وأهم بالرعاية من حق الخالق سبحانه وتعالى.
وهكذا تقديم الوفاء بالميثاق الوطني ونحوه ليس لأن الوطن ونحوه أقدس من الدين كما يدعو إلى ذلك بعض من أزاغ الله قلبه، وإنما هو من باب وجوب الوفاء بالمواثيق وتحريم الغدر بها سواءٌ كان مع المُسلمين أو مع غيرهم.
وقد يضطر المُسلمون إلى تواثق فيه تنازلٌ عن  واجبات أو حقوق على عقد المواطنة ونحوه، والميثاق قد يكون لمجرد التوافق، فيكون فيه إقرار على مخالفة لا إقرار بها لتحقيق أصلح أو دفع أضر أو تخفيف شر.
وقد كان في المدينة توافق مع غير المسلمين يشبه التواثق الوطني، ومع ضعف وثيقة المدينة فإن بعض بنودها ثابتة عُرْفاً بدلالة النصوص والسيرة.
ومما ورد في وثيقة المدينة من بنود دل على صحتها العرف؛ الدفاع المُشترك؛ (وإن بينهم النصر على من دهم يثرب)، والاستقلالية المالية؛ (وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم)، والمرجعية للمُسلمين؛ (وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد)، وفي وقتها تعددت أنظمة القضاء.
فغزوة الأحزاب تدل على تحالف مع اليهود في الدفاع عن المدينة، وعلى أنه كان لليهود استقلال حربي ومالي، وتدل الآية المنسوخة حُكماً في الحكم بين اليهود أو الإعراض عنهم على أنه كان لليهود نظامهم القضائي الخاص بهم قبل غدرهم ونسخ الحُكم مرحلياً حسب الاضطرار على رأي ابن القيم رحمه الله تعالى.
واختلف المفسرون في تفسير؛ أو ادفعوا، في قول الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}، فمنهم من قال بأن الدفع معناه بغير القتال كالدعاء والمرابطة، ومنهم من قال؛ القتال معناه في سبيل الله، والدفع معناه عن الأهل والحريم، وقد يدخل الوطن في ذلك تبعاً، والآية دليل على أن القتال في سبيل الدين مقدَّم على القتال في سبيل الأوطان والديار.
إن تقديم ولاء الوطن وجعله فوق الولاء للدين هي خطة ماسونية ماكرة خبيثة تسعى لبسط نفوذ الأقلية على البشرية، بل الولاء عند الإطلاق لا يكون إلا في الدين لأن له مفهوم شرعي خاص، وهو كل اقتراب معنوي أو حسي له أثر في الاستقامة على الدين أو نصرته، وأما الوطن فله خصوص محبةٍ ونصرٍ وصلةٍ لأهله لا تتعارض مع الولاء الشرعي، وللمزيد حول الولاء الشرعي؛ مدونتي » إصلاح وتكميل » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » الولاء الشرعي.
لقد بات معلوماً أنَّ ثمَّة جمعيات سريَّة وعلنية تعمل بتنسيق وتخطيط لأجل بسط نفوذ فئة دينية ذات نسبة ضئيلة في سكان العالم، فنسبة اليهود في العالم 0.2 بالمائة فقط؛ حوالي 14 مليون.
ومن تلك المنظمات السرية؛ الماسونية، والتي لا يعرف لها تاريخ محدد لسريتها، ولكن تشير التحليلات إلى ارتباطها باليهود والصهيونية العالمية التي تأسست عام 1897م كمؤسسة علنية لأجل تأسيس وطن لليهود، وشعار الماسونية هو؛ الحرية، والإخاء، والمساواة، والإنسانية، وهو شعار خداع ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.
ولأن نسبة اليهود في العالم قليلة جداً، لذا لم يكن لهم غير المكر والخديعة للتأثير في الناس بمختلف انتماءاتهم الدينية، وبالتالي التأثير في القرارت المحليَّة الإقليمية والعالمية لخدمة مشروع اليهود في بسط نفوذهم على العالم، وقد سعت المنظمات السرية والعلنية التابعة للصهيونية العالمية وروافدها وفروعها وأفرادها المتغلغلون في المؤسسات الحكومية والشعبية لتحقيق أهدافها عبر خطط ممرحلة ومنهجية مدروسة.
ومن أهم ما سعت إليه هذه المنظمات السرية والعلنية؛ قتل الولاء في الدين وتجريمه وتقديم الولاء في الوطن على الولاء في الدين، وهم لا يقرُّون بالوطنية في حقيقة الأمر، حيث تذكر التحليلات قناعة الماسونية بالأمميَّة وعدم قناعتها بالوطنية، فهي في الحقيقة توالي في اليهوديَّة، وتسعى لتحقيق أهدافها عبر شعارها الخدَّاع؛ الحرية، والإخاء، والمساواة، والإنسانية.
وبعد نجاح العلمانية الغربية في النهوض بأوروبا بعد كسر الكنيسة وصلفها وظلمها وجمودها، أصبحت العلمانية هي الواجهة الأكثر جاذبية وسحراً وتأثيراً في شعوب العالم، وذلك لأن المغلوب مولع بتقليد الغالب.
والعلمانية تجعل الوطن أقدس المقدسات، وتُقدم الولاء والبراء فيه على الدين، وتقدم المهام الوطنية على الواجبات الدينية، بل هي في حقيقتها لا تؤمن بولاء ولا براء إلا في الوطن، ولا بواجب إلا واجب الوطن، ولا منكر إلا ما أنكرته أنظمة الوطن، ولا معروف إلا ما اعترفت به وأقرته أنظمة الوطن، ولا شهيد إلا ما يُسمى بشهيد الوطن.
فالعلمانية تحرِّم عداء أعداء الدين وتسميه فتنة دينية، وتعد الولاء في الدين مُنكراً يجب النهي عنه وتُسميه تمييزاً منكراً، ويعظِّم العلمانيون الموت في سبيل إعزاز الوطن وحقوق المواطنة فوق تعظيمهم للموت في سبيل الدين، ويُسمُّون المقتول في سبيل الوطن بشهيد الوطن، بل هم يجرمون الموت في سبيل الدين والدفاع عنه وإعزازه.
وفي العالم الإسلامي، عمل الاستعمار على نشر الفكر العلماني، والذي لا زال له تأثيره وبصماته في الشعوب المسلمة رغم اندحاره كفكرة وعقيدة ومبدأ أمام الصحوة الإسلامية، وقد ساهمت عدة عوامل في خدمة العلمانيين في الترويج لقدسية الأوطان وتقديمها على الدين.
من تلك العوامل؛ العولمة وتأثير وسائل الإعلام والتواصل الحديثة، ومنها؛ الحكومات التي تغلب عقد المواطنة على عقد الإسلام وتجعل حرمة الأوطان فوق حرمة الدين، ومنها؛ وجود الطوائف الباطنية كالنصيرية والدروز والإسماعيلية والبهائية، ومنها؛ الطوائف المبتدعة والجماعات المنحرفة صاحبة الخطاب الجافي، ومنها؛ الجماعات المتطرفة والخطاب المُغالي.
فأما الخطاب المُغالي فلم يفرق بين بغض الكفار لكفرهم ومحبة البشر المتمثلة في محبة دخولهم في الإسلام، فأغفل مخاطبة الناس بتلك المحبة، والتودد إليهم بالصدقة ودفع السيئة بالتي هي أحسن تأليفاً لقلوبهم، ولم يفرق بين تحديث النفس بالغزو دفاعاً عن الدين والنهي عن تمني لقاء العدو، فأغفل مخاطبة الناس بمحبة السلام وكراهية الحرب؛ {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـٰذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.
واستغل الأعداء هذا الخطاب لاتهام المسلمين بأنهم سبب إثارة العداوة والبغضاء، والواقع هو أن من جحد الحق وأعرض عنه هو سبب الحروب والعداوات، إما بسبب دين باطل أو بسبب تقديس الأوطان وتقديم مصالحها على مصالح الآخرين بإثارة الحروب لسرقة خيرات الناس.
ومما ساعد في تقديم ولاء الأوطان على الدين في عالمنا الإسلامي إضافة إلى العلمانية والحكومات والطوائف الباطنية وأصحاب البدع؛ الخطاب الجافي.
ومن أمثلة الخطاب الجافي قول القائل: (عداوتنا مع اليهود ليست دينية، وإنما في الأرض والوطن)، استدلالاً بقول الله تعالى ذِكْرُهُ: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن  دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وهذا تحريف منه لمعنى الآية، فلم يقل الله عز وجل لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الوطن، وإنما قال عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين.
فإذا أضفنا إليها عبارات أخرى صرح بها القائل وقادة جماعته، علمنا أن الخطأ هنا ليس زلة لسان، فقد قال المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمون مصطفى السباعي في كتابه الحرب والسلم في الإسلام عند حديث له عن الغرض من الجهاد: (أن يقوم المسجد بجانب الكنيسة رمزاً لعبادة الله في مختلف طرق العبادة، ودليلاً على وحدة الأهداف العامة بين ديانات السماء، ومصدراً للإشعاع الروحي والسمو الخلقي في الأمة).
وقال مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا رحمه الله في خطاب لأقباط مصر النصارى: (الإسلام قدّس الوحدة الدينية، فدعا إلى الإيمان بجميع الرسل والرسالات).
والله تعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
يوم السبت 4 رجب 1435هـ، 3 مايو 2014م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق