جنوب السودان وحدة أم انفصال؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
تبلغ مساحة جنوب السودان 28% من المساحة الكليَّة للسودان، وظلَّت مشكلة الجنوب قائمة منذ ما قبل استقلال السودان. وبسبب استمرار الحرب لسنوات طويلة، واستنزافها لموارد البلاد الاقتصادية والبشريَّة فقد استبشر الناس خيراً باتفاقيَّة السلام التي حقنت الدماء وأنهت الحرب وما يتبعها من استنزاف للموارد.
وانطلقت صيحات في الشمال والجنوب تنادي بفصل الجنوب عن الشمال، بدعوى التخلُّص من مشكلة لم يمكن حلّها منذ أمد طويل، وأخذ الانفصاليُّون يعدِّدون أسباب استحالة الوحدة ويعدِّدون منافع الانفصال، من ذلك ادِّعاؤهم بأنَّ اختلاف الدِّين واللُّغة والعرق يمنع الوحدة، ومنها أنَّ الانفصال مع إيقاف الحرب أفضل من الوحدة مع استمرار الحرب وما يتبعها من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، وإهدار موارد البلد. وأخذوا يستشهدون على ذلك بدول أوروبيَّة متقدِّمة مثل فرنسا التي لا تزيد مساحتها عن 26% من مساحة السودان، زاعمين أنَّه لا حاجة لنا بهذه المساحات الشاسعة من الأراضي.
ولكن دعوى وقف الحروب والاضطرابات بعد الانفصال ليس ثمة ما يؤكِّدها في ظل الظروف الحاليَّة، فقد حدثت قبل أيام اضطرابات بالجنوب وظهر تمرّد على الحركة الشعبيَّة بقيادة جورج أتور ضد القيادات الحاليَّة للحركة الشعبية متهماً إيَّاها بتزوير الانتخابات، ثم انطلقت اتِّهامات تزعم أنَّ جورج أتور مدعوم من المؤتمر الوطني وحكومة الخرطوم، وهذا مما يؤكِّد ما ذهب إليه الكثيرون من أنَّ جنوب السودان لن يستقر بعد الانفصال.
وأما في الشمال فإنَّه وفي حال انفصال الجنوب فقد تلجأ الدولة الوليدة في الجنوب إلى دعم حركات متمرِّدة في الشمال كرد فعل على ما زعمته من دعم حكومة الخرطوم لتمرُّد ضد الحركة الشعبيَّة. ومن السهل أن تدعم الحكومة الوليدة في جنوب السودان أي تمرُّد يظهر في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بسبب انتشار السلاح والفقر وازدياد العطالة خاصَّة في وسط الشباب والخريجين.
ويصبح من السهل تسريب السلاح عن طريق الدولة الوليدة في الجنوب إلى هذه الولايات لتأجيج نيران الحرب، وخلق الاضطرابات، خاصة إذا وضعنا في الحسبان أنَّ إسرائيل لن تألو جهداً في دعم أي اضطراب في المنطقة العربية والإسلامية. لأن استقرار ونمو أي دولة عربيَّة وإسلاميَّة يعني تهديد مصالحها بل وتهديد وجودها من أساسه. ولا يُستبعد قيام دول الاستكبار العالمي بإغراء الحكومة الوليدة في الجنوب بوعود كاذبة مضلِّلة لحملها على زعزعة الأمن في الشمال.
وإذا حدث اضطراب في الجنوب بعد الانفصال فقد تجد الولايات المتحدة - التي تمر بأزمة اقتصاديَّة خانقة – ضالَّتها في هذا الاضطِّراب فتسعى لإنشاء قواعد عسكريَّة لها في دولة الجنوب المنفصلة لتعزيز حماية مصالحها الاقتصادية في القارة الإفريقيَّة، مما يعزِّز من سيطرة الولايات المتحدة العالميَّة ببسط سيطرتها على القارة الإفريقية، خاصَّة مع وجود اللُّوبي الصهيوني الذي يسعى لحماية دولة إسرائيل بتعزيز قدرات حليفه في المنطقة، وتطويق المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة من جميع الجهات. إضافة إلى أنَّ مزيد تقسيم دول حوض النيل بانفصال الجنوب يمكن أن يستخدم كوسيلة ضغط على حكومتي مصر والسودان لصالح الدول المتربِّصة.
ويعني الانفصال خروج حكومة السودان من الاستفادة من عائدات بترول الجنوب والتي تمثل الجزء الأكبر من عائدات البترول، وهذا يعد نقصاً كبيراً في موارد الدولة يُسبِّب مشاكل اقتصادية كبيرة لشمال السودان. وأما في الجنوب فإنَّ الاضطرابات التي لاحت في الأفق ستمنع شعب الجنوب الذي عانى كثيراً من ويلات الحرب من الاستفادة من النصيب الذي وفرته له اتفاقية السلام، والذي يساوي نصف عائدات بترول الجنوب.
وأما اختلاف اللُّغة والعرق، فإنَّ في جنوب السودان ما لايقلُّ عن 12 لهجة، ولا يوجد قاسم لغوي مشترك غير العربيَّة والتي يتحدَّثها أغلب سكان الجنوب بلكنة إفريقيَّة. وأما اختلاف القبائل فإنَّ قبائل الجنوب ليست على توافق بينها بما في ذلك القبائل الكبرى وهي الدينكا والنوير والشلك. واختلاف القبائل لن يكون عائقاً في سبيل الوحدة إذا صدقت النوايا وعمل الجميع على التخلُّص من مرارات الماضي، ومن العصبيَّة البغيضة التي لا يرضاها دين، ولا تقبلها فطرة بشريَّة مستقيمة، وفي الشمال كذلك توجد العديد من القبائل واللَّهجات واللُّغات، ومع ذلك تعايش أهل السودان في أمن وأمان لسنوات طويلة.
وأما اختلاف الدين فإنَّه لا يوجد دين واحد في جنوب السودان، فإنَّ إحصاء عام 1956 قدَّر عدد المسلمين في الجنوب ب18% والنصارى ب17% وغيرهم (الوثنيين والأرواحيين) ب65%. هذا إضافة إلى أنَّ اتفاقيَّة السلام قد استثنت الجنوب من أحكام الشريعة الإسلاميَّة، فلِمَ يُصِرُّ الجنوبيُّون على استثناء العاصمة من أحكام الشريعة بدعوى أنَّهم يريدون العيش دون قيود في عاصمة بلادهم؟ ألا يكفيهم العيش دون قيود الشريعة في عاصمة الجنوب وفي سائر مدنها وقراها؟
ونحن معاشر المسلمين في الشمال قد قَبِلنا باستثناء الجنوب من أحكام الشريعة الإسلاميَّة مع كراهتنا لذلك، لأننا نعتقد اعتقاداً جازماً أنَّ أحكام الشريعة الإسلاميَّة فيها تحقيق مصالح البشر جميعاً لأنَّها من لدن حكيم خبير. إضافةً إلى ما دلَّت عليه التجارب من أنَّ ترك الاحتكام إلى الشريعة يقضي على مصالح البشر ويعرِّضهم للأضرار الوخيمة، فإنَّ الأزمات الاقتصادية وتفكُّك العلاقات الأسريَّة وانتشار الأوبئة والجرائم والحروب لأجل سرقة الثروات وانتشار أسلحة الدمار الشامل وغيرها من المضار الكثيرة هي بسبب انتشار الربا والزنا والخمور والقمار وانعدام الوازع الإيماني.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بالخيار أول الأمر بين الحكم بين يهود المدينة أو الإعراض عنهم ثم نُسخ الحكم بوجوب الحكم بينهم بما أنزل الله. ولكن حتى قبل الوجوب لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بغير شرع الله {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. ولعل هذا هو السبب الذي جعل ابن القيم رحمه الله تعالى يرى استثناءهم من أحكام الشريعة عند قوة شوكتهم ورفضهم لأحكام الشريعة. وإذا كان الأمر كذلك فإنما يسمح لهم عند الضرورة بإقامة محاكم بأنفسهم يحكمون فيها بما يرونه من أحكام، ولا يجوز للقاضي المسلم أن يحكم بينهم بغير الشرع. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (إذا قويت شوكة قوم من أهل الذمَّة وتعذَّر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك) .
وعلى حكومة الخرطوم أن تسعى لبسط الحريَّات بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلاميَّة، وأن تقيم العدل، وتكفل الحقوق، وتوفي بالعهود والمواثيق مع المسلمين وغيرهم بما في ذلك توزيع الثروة توزيعاً مرضياً للجميع. فإنَّ الإسلام جاء بكفالة الحقوق وتحرير الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، وإنَّ أوَّل حق اهتم به الإسلام هو حق اللهِ سبحانه وتعالى، فهو أعظم حق سلبته البشريَّة، وهو أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئاً. وإنَّ أكبر الظلم هو الشرك بالله، والإسلام يدعو إلى ذلك من غير إكراه للنَّاس بالدخول في الإسلام وترك أديانهم ومعتقداتهم. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
ولكن، ومع أنَّ الأصل عدم جواز التفريط في الأراضي والمكتسبات، فقد تأتي الرِّياح بما لا تشتهي السفن، فإنَّ كل المؤشِّرات تشير إلى انفصال الجنوب عن الشمال بعد استفتاء عام 2011م، وإذا اختار أهل الجنوب الانفصال فإنَّه حقّهم الذي كفلته لهم اتفاقيَّة السلام، وعليهم أن يعلموا أنَّ دعم أي اضطراب في الشمال لن يكون في مصلحة دولتهم الوليدة، ولن يجنوا منه إلا الحروب والدمار، فلن يرضى أهل الشمال بأي زعزعة لأمنهم واستقرارهم، وعليهم ألّا يتوقَّعوا من حكومة الخرطوم غير المعاملة بالمثل بدعم متمردي جنوب السودان إن هم أقدموا على مثل ذلك، والبادئ أظلم.
وعليهم أن يتَّعظوا بحال دول إفريقيَّة أُخرى خضعت للغرب، ثم لم تجن من ولائها للغرب إلّا امتصاص الخيرات والوعود الكاذبة وإشعال نيران الخلافات والفتنة، ثم وقف حفنة الدولارات عند أدنى خلاف، وما جنوب إفريقيا وزمبابوي منهم ببعيد، ولن يجدوا أفضل من الإسلام في رعاية الحقوق ومنع الظلم.
وأما حكومة الخرطوم فلا يحملنَّها خوف شُحِّ الموارد إذا اختار الجنوب الانفصال على نقض العهود والمواثيق، ولتنأى بنفسها عن كل ما من شأنه منح المبرِّرات والمسوِّغات للدول المتربِّصة بالسودان لزعزعة أمنه واستقراره، فإنَّ السودان غني بموارده إذا أُحسن استغلالها، وقد تظهر البدائل لفقدان عائد بترول الجنوب مع شئ من الصبر والجد والاجتهاد، ووضع الخطط البديلة منذ اللَّحظة الحاليَّة لمواجهة آثار نقص الموارد الذي يعقب انفصال الجنوب، فإنَّ نقض العهود والمواثيق محرّم في الشرع، ولن يجلب لنا خيراً، وما أكثر الموارد في باطن الأرض وظاهرها {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
وكل ما يجب على الطرفين حال الوحدة أو الانفصال هو العمل بما دلَّت عليه الآية الكريمة في حقِّ الزوجين {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ }، فإمَّا وحدة ينعم بها أهل السودان شمالاً وجنوباً بالأمن والاستقرار، واستغلال الموارد استغلالاً حسناً، وإمَّا انفصالاً مبنيَّاً على حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الغير، واحترام العهود والمواثيق، والبعد عن كل ما من شأنه زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وتضييع الموارد والجهود والطاقات في الحُروب والنزاعات، فهل يعقل هذا حكَّام السودان في جنوبه  وشماله؟ هذا ما نرجوه ونتمنَّاه، ونسأل اللهَ عزَّ وجلَّ أن يقدِّر ما فيه الخير والصلاح، وأن يصرف عنا كيد الكائدين، وأن يحفظ أمننا واستقرارنا، ويولِّي علينا من يُصلح به شأننا، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.

عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي، فنلندة
يوم الجمعة 30 جمادى الأول 1431هـ الموافق 14 مايو 2010م
pdf

رجوع إلى قسم سياسة واقتصاد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق