تميَّز ولا تحسِد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
لقد خلق الله عز وجل الإنسان وأودع فيه من الصفات الحسنة ما يمكنه من عبادة خالقه وإعمار الأرض، وأرسل إليه رسله ليدلوه على ما يصلحه في دنياه وأُخراه.
ومما دلت الرسل الناس عليه التوسط في الأمور، وأنَّ كلا طرفي قصد الأمور ذميم، فالصفة الحسنة تنقلب إلى قبيحة بالزيادة عن الحد أو النقصان عنه.
من تلكم الصفات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الناس بدرجات متفاوتة الغبطة وحب التميُّز، وهي صفة حسنة جميلة تبعث على الاجتهاد والعمل والإنتاج، فإذا نقصت نقص الطموح ونقصت الهمة، وإذا زادت عن حدها فإنها تحمل على كراهة الخير للناس وتمني زوال نعمة الله عز وجل عنهم، وهذا هو الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
وهذه الصفة الحسنة نجدها في الأخيار والصالحين، وقد كانت همة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لآخرته، وهو أفضل الخلق عند الله عز وجل، وكان متميزاً على كل الناس بمن فيهم الأنبياء والرسل، وقد رُوي أن ربه سبحانه وتعالى خيره بين أن يكون ملكاً نبياً وعبداً رسولاً فاختار أن يكون عبداً رسولاً، وقد أمر صلى الله عليه وسلم أمته أن يسألوا الله عز وجل له المقام المحمود الذي لا يعطى لأحد غيره، والذي وعده ربه سبحانه وتعالى به.
وعندما جعل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام إماماً يقتدي به الناس في الخير والصلاح والحنيفية لم يكتف عليه السلام بذلك لنفسه بل دعى الله عز وجل بهذا الخير لذريته من بعده؛ {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
وقد دعا سليمان عليه السلام ربه سبحانه وتعالى وسأله من فضله في هذه الحياة الدنيا ولم ينس الآخرة، ولم يكتف عليه السلام بسؤال ربه الملك في هذه الحياة الدنيا، بل دعا ربه سبحانه وتعالى أن يكون ملكاً خاصاً خالصاً له من دون الناس {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
ومع أن سليمان عليه السلام كان رسولاً ابن رسول وملكاً ابن ملك فإنه لم يكتف بذلك بل سأل ربه ما هو أفضل وأحسن، وهكذا صاحب الهمة العالية والطموح السامي لا يقف عند حد، ولا يقول قد أحسنت في عملي بل يظل دائماً مجتهداً لنيل الأفضل والتميُّز.
وهذه الصفة شاهدتها في الأوروبيين، فالطالب فيهم لا يغره الإطراء والمدح، ولا يمنعه الإعجاب بعمله من الاستمرار في التطوير والتحسين وابتغاء المعالي، ولهذا نجد كل مرة نسخة جدية من الجهاز أو البرنامج، ولا تجدهم يقرُّ لهم قرار أو يهدأ لهم بال، عمل دائب واجتهاد مستمر، ولكن ربما فقط لأهداف دنيوية زائلة.
وتجد صفة الغبطة وحب التميُّز عند بعض الناس بارزةً منذ الصغر والطفولة، فتجد بعض الأطفال أكثر اجتهاداً في شد انتباه والديه إليه وأكثر سعياً في نيل حبهما وإرضائهما، وتلك صفة حميدة إذا لم تؤد به إلى كراهية إخوانه وتمني زوال نعمة الله عز وجل عنهم، كما فعل إخوة يوسف عليه السلام معه، فلابد معه هذه الصفة من ضبط النفس والتخلق بالخلق الفاضل الحسن والاهتداء بالشرع والوحي.
ولكن حذار إن كنت ممن يحبُّ التميُّز من الحسد فإنه أصل الخطايا والذنوب والكفر والعصيان، فإن أول معصية قادت إلى الكفر كانت بسبب الحسد، وذلك لما حسد إبليس آدم عليه السلام، وأول جريمة قتل كان دافعها الحسد، وذلك لما حسد قابيل هابيل، وبنو إسرائيل كفروا بسبب حسدهم بني إسماعيل عليه السلام.
قال الله تعالى حكاية عن اليهود: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
وحسد إخوة يوسف وهم بنو إسرائيل عليه السلام أخاهم يوسف عليه السلام، ولكأنهم قد جبلوا على الغبطة وحب التميُّز، ولم لا وهم من بني إبراهيم عليه السلام، وقد اصطفى الله عز وجل إبراهيم وبنيه على العالمين: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ولكن ليس بين الله عز وجل وبين خلقه نسب، فلما قادهم حب التميز إلى الحسد، أبعدهم الله عز وجل وأقصاهم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَ‌ٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ}.
فإذا جبلك الله عز وجل على صفة حسنة حميدة، فعليك باستغلالها في الخير يرفع الله عز وجل بها قدرك في الدنيا والآخرة.
والحسد هو من أقبح الصفات التي يتصف بها الإنسان، والحاسد وإن ظنَّ أنه يعترض على قرينه فهو في الحقيقة إنما يعترض على خالقه سبحانه وتعالى لأنه الذي يقسم الأرزاق {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
ولأن صفة التميز مغروسة في كثير من النفوس فإن الصفوة من الناس لا يخلون من هذه الصفة، وقد تحمل بعضهم على حسد عارضٍ غير مستحكم إذا زادت عن حدها، فينسى أحدهم عند منافسة أقرانه الحدود التي لا يجوز أن يتخطاها.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: (وكلام الأقران بعضِهم في بعضٍ لا يعبأ به لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلاّ من عصمه الله، وما علمت أنّ عصراً من الأعصار سَلِمَ أهلُهُ من ذلك سِوَى الأنبياءِ والصدِّيقين ولو شئتُ لسَرَدْتُ من ذلك كراريس).
ولا ينبغي التساهل في الحسد بسبب ظهوره في بعض العلماء، فالحسد عندهم عارض غير دائم، فهو ليس بمستحكم في نفوسهم، وعند أكثرهم من الحسنات الماحية والخير ما قد يجعل كبائرهم مثل صغائر غيرهم.
فالحسد في علم الشريعة والأعمال الصالحة يدل على نقص الإخلاص، بل قد يدل على فساده والعياذ بالله، وذلك لأن علم الشريعة إنما يبتغى به الأجر عند الله عز وجل في الآخرة، ولا يجوز أن يكون لغير الله تعالى، والحسد في علوم الشريعة أقبح لشرف علوم الآخرة على علوم الدنيا.
فالعلوم الدنيوية لا تدخل في العبادات من حيث الأصل، وإنما تصير عبادة إذا نوى بها صاحبها الأجر عند الله عز وجل والدار الآخرة.
والله تعالى أعلم، وصلِّ اللهم وسلم على خير خلقك والحمد لله ربَّ العالمين.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لينكشوبنج، السويد
السبت 29 ذو القعدة 1431هـ - 6 نوفمبر 2010م
pdf

رجوع إلى قسم إرشادات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق