أيهما نحارب، الشرك البدائي أم الشرك الحضاري؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
حياة الحضر أكثر تعقيداً من حياة الترحال والسفر، وحياة المدن الكبيرة أكثر تعقيداً من حياة القرى الصغيرة، وكلما كانت المدن أكبر وأكثر سكاناً كان نظامها أكثر تعقيداً، ومن هنا جاءت كلمة الحضارة. 
ولكنَّ النظام سمة بشرية لابد منه، فكما أنَّ حياة الحضر تحتاج إلى نظام، فكذلك حياة الرحل والبدو، وفي الحديث (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم). 
بل النظام سمة خلقية لا تخلو منه سائر المخلوقات من الكواكب السيارة والنجوم والأفلاك إلى حياة النمل وأصغر المخلوقات.
ما أسماه البعض شرك القصور أو الشرك الحضاري، ليس مقصوراً على أهل الحضارات وأرباب القصور، بل يوجد عند كثيرٍ من البدو والرحل أعراف مخالفة للشرع يعتقدون صلاحها في أحكام الدماء والأعراض والأموال. 
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كانت البشرية في ظلام وجاهلية، ووجد فيها شرك العبادة، وهو ما يُطلق عليه البعض الشرك البدائي، كما وُجد فيها شرك التشريع، وهو داخل في شرك الربوبية وشرك العبادة.
وأغلظ شرك في التشريع قبل البعثة هو اتخاذ المعبودين من دون الله تعالى شفعاء، وُوجدت كذلك أحكام مخالفة للشرع يعتقد أصحابها صلاحها سواء عند أهل البادية أو الرحل، أو عند أهل المدن كمكة، أو عند الفرس والروم وهم ممن اصطُلح عليهم اليوم بأهل الحضارات.
ولم يدعُ النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر لأحكام الإسلام المتعلقة بالحدود والمعاملات وتحريم المحرمات، وذلك لأنَّ أكثرها لم يُشرع بعد.
وأولى الواجبات السلطانية رعاية الشهادتين المتضمنتين لتحقيق التوحيد والإيمان بالرسالة ثم الصلاة ثم الأهم فالمهم.
قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، سورة الحج 41، وفي حديث النهي عن الخروج على الأئمة؛ (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة).
ولذا حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك العبادة وشرك التشريع معاً منذ صدر الإسلام، ولكنه حارب أول الإسلام شرك التشريع المتعلق بتوحيد العبادة وهو اتخاذ الآلهة الباطلة شفعاء في قضاء حاجات الدنيا أو في الآخرة.
وما من رسول إلا ودعا قومه إلى عبادة الله والدخول في الطاعة، وأول طاعة للرسل تتعلق بتوحيد الله وترك شرك الشفعاء والوسطاء؛ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
ولا فرق بين شرك التشريع وشرك العبادة؛ {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَ‌ٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، ولكن تحكيم القوانين الوضعية لا يكون شركاً إلا إذا اتخذه صاحبه ديناً أو فكراً ونهجاً صالحاً.
وكلمة شرك التشريع أوسع في المعنى من كلمة شرك القصور، وتوحي كلمة شرك القصور بسوء فهم كلمة الشريعة وقصرها فيما يتعلق بالسياسة، فأعظم شرك في التشريع هو اتخاذ المعبودين من دون الله تعالى شفعاء لتشفع في قضاء حاجات الدنيا أو في الآخرة، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح » شفاعة الآلهة الباطلة عقيدة شركية ودعوى جدلية.
ولا يجوز التنازل عن محاربة شرك القبور ولا شرك التشريع لأجل الوصول إلى الحكم عبر أصوات الناخبين، وإذا كان من الممكن التنازل عن نوع من أنواع التوحيد لأجل ما يسمَّى بالوحدة واجتماع الصف، فلماذا لا يتنازلون عن محاربة العلمانية لأجل الوحدة؟ وماهي غاية الدعوة إذن؟
فعجب لأُولئك الذين يزعمون أنَّ الوحدة مقدَّمة على التوحيد، ويستدلُّون على ذلك بقول الحق تبارك وتعالى حكاية عن هارون عليه السلام: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}، وينسون قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}.
كل دعوة تقلِّل من شأن التوحيد فهي دعوة باطلة، ومخالِفة لمنهج الأنبياء والرسل في الدعوة، فمنهجهم فيه رضا الله عز وجل، وفيه الحكمة والعقل.
ومن يجهل أهمية التوحيد يجهل الإسلام، إذ لا إسلام بلا توحيد، فهو الغاية من الخلق وإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الجهاد والبعث والنشور ونصب الموازين والجنة والنار، وكل دين الإسلام يدور حول معنى التوحيد.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي، فنلندة
الأثنين 27 شوال 1429هـ الموافق 27/10/2008م
pdf

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق