أحداث الحادي عشر من سبتمبر، دروس وعبر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
المعلوم أنَّ الطبيب إذا اضطر إلى قطع يد المريض لإنقاذ النفس والبدن فإن قطعه لليد أمر محمود غير مذموم، وأما إذا قطع مدَّعي الطب يد إنسان بحجة المصلحة الراجحة بينما الواقع خلاف ذلك فإن عمله يعد إجراماً وظلماً وتعد على الآخرين وأكلاً لأموال الناس بالباطل. عملية الحادي عشر من سبتمبر وغيرها من العمليات التي ادعت القاعدة أن الهدف منها هو رفع الظلم عن المسلمين في فلسطين وفي سائر البقاع هي أشبه برجل يدَّعي الطب ولكنه لم يدرسه ولم تكن له به خبرة، قطع يد رجل بحجة حماية البدن، فهل يحكم على قطعه يد المريض بغير التجريم والتحريم؟ وذلك لما احتوته هذه العمليات من مفاسد راجحة ومنها سفك دماء معصومة من دماء المسلمين وغيرهم.
كما أنَّ ما نهى اللهُ عزّ وجلّ عنه قد تكون مفسدته راجحة على مصلحته ومنفعته كما في تحريم الخمر والميسر، فإِنَّ ما أمر الله عز وجل به قد تكون مصلحته راجحة على مفسدته، وقد شرع الله عز وجل الجهاد مع ما فيه من مفسدة إزهاق النفوس وإتلاف الأموال لما فيه من مصلحة كبرى وهي مصلحة حفظ الدين التي تُقدَّم في شرعنا الحنيف على سائر المصالح، فإذا لم تكن في الجهاد مصلحة الإسلام والمسلمين كان مفسدة محضة.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: (أيّ قتال للكفار لا يتحقَّق به نكاية بالعدو فإنه يجب تركه، لأنَّ المخاطرة بالنفوس إنما جازت لما فيها من مصلحة إعزاز الدين، والنكاية بالمشركين، فإذا لم يحصل ذلك وجب ترك القتال لما فيه من فوات النفوس وشفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وبذا صار مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة) [1].
وقال ابن القيِّم رحمه اللهُ تعالى: (من أفتى النَّاس بمجرَّد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأَضلَّ، وكانت جنايته على الدِّين أعظم من جناية من طبَّب النّاس كلَّهم على اختلاف بلادهم وعوائِدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطِّب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضرَّ على أديان الناس وأبدانهم واللهُ المستعان) [2].
وإذا نظر المسلم بضوابط الشريعة والعقل والحكمة إلى عمليات الحادي عشر من سبتمبر وغيرها من العلميات التي تنفذها القاعدة أو التي تنسب إلى القاعدة وغيرها من جماعات الغلو والتطرف فإنه سيخرج بنتيجة حتمية وهي أنها عمليات ترتبت عليها مفاسد كثيرة ومنها القتل والإتلاف لغير مصلحة راجحة، وتسليط الأعداء على المسلمين، وتجرئة شباب المسلمين على مثل هذه العمليات غير المسؤولة وغير المنضبطة، إضافة إلى مخالفتها لما أمر الله عز وجل به ورسوله من الوفاء بالعهود والمواثيق مع غير المسلمين، ومخالفة جماعة المسلمين، وتمثيل المسلمين والتحدث باسمهم من غير حق شرعي إلى غير ذلك من المفاسد الكثيرة. فحدث في هذه العمليات ما ذكره العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى من فوات النفوس وشفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من أفتى المشجوج بغير علم، عن جابر رضي الله عنه قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجَّه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: ((قتلوه قتلهم اللهُ، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر، أو يعصب عن جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده)) ) [3].
وقد قرَّر كثير من المتابعين أن بعض المؤسسات والأفراد في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا على علم بالهجمات قبل وقوعها ولكنهم لم يسعوا لوقفها لاستخدامها كمبرر للتدخل في شؤون المسلمين، وقد صرَّح كثير من السياسيين ومنذ السبعينات في أمريكا بضرورة غزو العراق عسكرياً. ولا تنخدع أخي القارئ الكريم بالخُطَب العاطفيَّة التي تدَّعي أنَّ الكفَّار لا يحتاجون إلى مبرِّر للتدخُّل في شؤون المسلمين، فكل متابع يعلم بطلان هذا الكلام، فإن الشعوب تكره الحروب لما فيها من ذهاب نفوس كثير من إبنائها وما فيها من أضرار، ويحتاج السياسيون في كل بلد لإقناع شعوبهم بالحرب.
المصلحة الكبرى في شرعنا هي مصلحة حفظ الدِّين، وهي مقدمة على مصلحة حفظ النفوس، ولذا شرع الله عز وجل الجهاد، وذلك لقول الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (وإن كان قتل النفوس فيه شرّ فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفاسدين بالتزام أدناهما) [4]، وهدف المسلم الصادق هو حماية الدين وإعزازه ولتكون كلمة الله هي العليا.
وأما المصلحة الكبرى عند غير المسلمين من الإمبراطوريات الظالمة كمثل الولايات المتحدة الأمريكية فهي سرقة خيرات الشعوب والاستعلاء والاستكبار في الأرض بغير الحق، ولتحقيق هذه المصالح المزعومة يبيحون لأنفسهم قتل الأنفس والتدمير والإغارة من الخارج وإن ذهبت نفوس معصومة بشرع الله عز وجل أولاً ثم بالقوانين البشرية ثانياً، كما أغاروا على السودان وأتلفوا مصنعاً للدواء وذهبت نفوس بريئة ضحيَّة هذا العدوان، وما يحدث في العراق وأفغانستان ليس منا ببعيد.
تبقى فروق قليلة بين الإغارة على بلاد المسلمين من جهة الإمبراطورية الأمريكية الظالمة مثل الإغارة ليلاً على مصنع الدواء بالسودان وبين عمليَّات الحادي عشر من سبتمبر بعد اشتراكهما في التدمير وقتل النفوس المعصومة. من أهم الفروق أنَّ الأمريكان حقَّقُوا مصالحهم الدنيوية القائمة على إذلال الشعوب وامتصاص خيراتهم، وأما القاعدة وغيرها من الجماعات المتطرفة والعمليات التي تبنتها أو نسبت إليها فقد سوَّغت لأعداء المسلمين المزيد من العدوان، ولعل هذا الفرق هو الذي جعل عمليات أعداء المسلمين أكثر قبولاً عند غير المسلمين لما تضمَّنته من تحقيق مصالح هي مصالح عظمى عندهم وإن كانت باطلة عند المسلمين.
وتبدو العمليات المنسوبة إلى القاعدة للصادق مع نفسه المتجرِّد عن تغليب العاطفة على العقل والحكمة من المسلمين ذات أضرار ومفاسد راجحة إن لم تكن مفاسد محضة، وهي تبدو لدى غير المسلمين مجرد عبث بالأموال والأنفس لعدم تحقُّق أي مصلحة من ورائها، فإذا أضفنا إلى ذلك معرفة أنَّ النفوس البشرية مجبولة على الكيل بمكيالين كما قال القائل عين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا علمنا أنَّ هذه العمليات كان لها أثر كبير في إثارة العداوة على الإسلام والمسلمين وتشويه صورة الإسلام النقي الناصع، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك تجويز الغلاة قصد المدنيين بمن فيهم النساء والأطفال بحجج ضعيفة واهية.
إذا كان المسلمون في غلبة ومنعة فإنه يجوز للحاكم المسلم أن يغير على الكفار من الخارج وإن تضرَّر بعض معصومي الدماء مثل نساء وذراري الكفار وذهبت نفوسهم وذلك لأن حفظ الدين مقدَّم على حفظ النفس لقول الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. روى مسلم في صحيحه عن الصعب بن جثامة قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: ((هم منهم)) ). وقد نصَّ العلماء على عدم جواز تقصُّد النساء والأطفال ومعصومي الدماء وهو إِجماع لا خلاف فيه، لا كما يدَّعي الغلاة الذين يجيزون قصد المدنيين بمن فيهم النساء والصبيان بحجَّة المعاملة بالمثل أو بحجة اشتراكهم في الحرب بحجج واهية مثل دفع الضرائب ونحو ذلك.
كما يجوز للحاكم المسلم في حال الغلبة والمنعة أن يرسل بعض الأفراد ليتسلَّلوا إلى دار الحرب ويفسدوا فيها. جاء في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ملك قبرص في شأن من عنده من أسرى المسلمين قوله: (ثم عند المسلمين من الرجال الفداوية الذين يغتالون الملوك على فرشها، من قد بلغ الملك خبرهم قديماً وحديثاً، وفيهم الصالحون الذين لا يرد الله دعواتهم ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب الرب لغضبهم ويرضى لرضاهم) [5]، ولكن لا يجوز أن تكون مثل هذه الأعمال أعمال فوضويَّة لا ضابط لها وتخرج عن ضوابط جماعة المسلمين الشرعية التي نص عليها الفقهاء، ولا يجوز أن تكون تصرفات غير مسؤولة لا تراعي مصالح المسلمين العليا ولا تراعي العهد الذي بين المسلمين وغيرهم، كما لا يجوز لمن دخل دار الحرب بأمان سواء بتأشيرة حقيقية أو مزوَّرة أو كتاجر أو بادِّعاء أنه تاجر أو نحو ذلك أن يفسد في ديار الحرب، وقد نصَّ على ذلك الفقهاء قديماً وحديثاً، والأدلة على ذلك كثيرة.
يطلق الفقهاء كلمة العهد على الاتفاق الذي يبرمه حاكم المسلمين مع غير المسلمين، ويطلقون كلمة الأمان على العقد العرفي عند دخول كافر حربي دار الإسلام أو دخول مسلم دار الحرب، قال الإمام الشافعي رحمه اللهُ تعالى: (إِذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان، فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم، أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم) [6]، وأصل الأمان هو قول الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ}
ولا يقولنَّ قائل الحرب خدعة، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (واتفق العلماء على جواز خداع الكفار كيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض لعهد أو أمان فلا يحل) [7]، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (إذا أشير إليه ـ أي الكافر ـ بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو أمان) [8]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ومعلوم أنَّ شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدماء)  [9]. وقال السرخسي رحمه الله تعالى: (ولو أنَّ رهطاً من المسلمين أتوا أهل الحرب فقالوا: نحن رسل الخليفة، وأخرجوا كتاباً يشبه كتاب الخليفة، أو لم يخرجوا، وكان ذلك خديعة منهم للمشركين. فقالوا لهم: ادخلوا. فدخلوا دار الحرب، فليس يحل لهم قتل أحد من أهل الحرب، ولا أخذ شيء من أموالهم ما داموا في دارهم؛ لأنَّ ما أظهروه لو كان حقاً كانوا في أمان من أهل الحرب، وأهل الحرب في أمان منهم أيضاً، لا يحل لهم أن يتعرضوا لهم بشيء ... وكذلك لو قالوا: جئنا نريد التجارة. وقد كان قصدهم أن يغتالوهم؛ لأنهم لو كانوا تجاراً حقيقة كما أظهروا لم يحل لهم أن يغدروا بأهل الحرب، فكذلك إذا أظهروا ذلك لهم) [10].

عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي، فنلندة
يوم الأحد 3 شوال 1431هـ الموافق 12/9/2010

المصادر

[1] قواعد الأحكام (95)
[2] إعلام الموقعين (ج3/ص79).
[3] سنن الدارمي، الطهارة، 692 ورواه أبوداوود وابن ماجة والدارقطني وابن حبان والحاكم. 
[4] مجموع الفتاوى (ج28/ص513).
[5] الفتاوى (ج28/ص622-623).
[6] الأم (ج4/ص263).
[7] صحيح مسلم بشرح النووي (ج7/ص320).
[8] الإنصاف (ج10/ص350)، الفروع (ج10/ص305)
[9] الصارم المسلول (ج2/ص522). 
[10] شرح السير الكبير (ج2/ص507).
pdf
رجوع إلى قسم سياسة واقتصاد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق