معنى؛ استفتِ قلبك

الرجوع إلى قسم سؤال وجواب
السلام عليكم شيخنا الأخ المبارك أبو أنس
بارك الله فيك علي مجهودكم في الدعوة إلي الله. أردت التسليم عليكم. أرجو أن تكونوا في أتم الصحة والعافية. شيخنا الحبيب عندي سؤال لو تكرمت. كثيراً، في بعض النقاشات، بعض الناس يدلي برأي من عند نفسه في أحد المسائل الشرعية أو الفتاوى، وهو غير مؤهل،  ويستدل بقوله صلي الله عليه و سلم: ((استفت قلبك و لو أفتوك...)). فما هو المراد من هذا الحديث، وهل هذا المعني صحيح؟ و كيف نرد عليهم؟ جزاك الله خيراً و بار ك الله فيكم.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الحمد لله بخير وعافية، وأرجو أن تكونوا في نعمة وعافية. الحديث رواه الإمام أحمد وحسنه غير واحد من أهل العلم، منهم العلامة المحدث الألباني رحمه الله تعالى. تجده بالكامل على الرابط؛ مسند أحمد » مسند الشاميين » حديث وابصة بن معبد الأسدي نزل الرقة رضي الله تعالى عنه، حسنه الألباني في؛ صحيح الترغيب والترهيب(1734).
وثمة ما يدل على صحة معناه من الأحاديث الصحيحة، منها؛ عن النواس بن سمعان الأنصاري قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: ((البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)). المصدر؛ صحيح مسلم (2553) » كتاب البر والصلة والآداب » باب تفسير البر والإثم.
وأما معنى الحديث: فإنه لا يعني إطلاقاً ترك سؤال أهل العلم والاستغناء بالذوق والإلهام وحديث النفس عن طلب العلم والمعرفة من مظانها. فلا شك أن نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة صريحة على وجوب أخذ الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم العلماء الذين يفهمون الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة الصالح رحمهم الله تعالى. والآيات و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، منها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَ‌ٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}
فمعنى الحديث هو: استفتاء القلب والنفس بعد سؤال العلماء وتحري الصواب بالدليل من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الكسل وعدم البحث والتحري وكثرة السؤال في المسائل المشكلة، فليس هو المقصود بالحديث. وليس المقصود كذلك بالحديث اتباع الهوى بادِّعاء استفتاء القلب وترك الأخذ عن العلماء الذي يعرفون الأحكام بالاستنباط الصحيح من الكتاب والسنة.
ومعنى الحديث هو؛ عدم جواز الاتِّكاء على مجرد فتوى حتى ولو كانت من عالم لتبرير العمل واتباعاً لهوى النفس، فلابد من محاسبة الضمير والاطمئنان للفتوى. فإن لم يطمئن القلب لفتوى من الفتاوى، وكان بمقدور الإنسان أن يبحث أكثر أو يسأل عدداً من العلماء أو أن يسأل من أفتاه مزيد توضيح وشرح وبيان، فيجب عليه حينئذ أن يفعل، ولا يجوز له أن يعمل بالفتوى وقلبه يحدثه أنها خطأ ومخالفة لمراد الله عز وجل أو مراد رسوله صلى الله عليه وسلم. بل لابد من التحري والسؤال حتى تطمئن النفس ويرتاح القلب.
فلا ينبغي للإنسان أن يعتمد على مجرد الذوق وحديث النفس بعيداً عن العلم والسؤال، ولا ينبغي له أن يعمل بما لا تطمئن إليه نفسه من غير حجة ولا دليل شرعي لهوىً في النفس اتكاءاً على فتوى حتى ولو كانت لعالمٍ أو عدد من العلماء.
واطمئنان النفس لا يستلزم اليقين، فمثل هذه المسائل الخفية أكثرها ظنية (بغالب الظن)، ولو كان اليقين شرطاً لما جاز الاجتهاد، إذ لا يقين إلا في النصوص والإجماع الثابت، وأما آراء العلماء فهي تحتمل الخطأ، والعلماء مجمعون على أن مسائل الشرع منها ما هو يقيني ومنها ما هو ظني، ومجمعون على جواز  العمل بغالب الظن.
والمقصود بعدم اطمئنان النفس أن يكون الأمر من الشبهات، والشبهات هي ما كان أقرب إلى الحرام أو تساوى فيه الاحتمالان كما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ويدل عليه ما جاء في الحديث؛ (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).
ولهذا جاء في الحديث؛ (وبينهما أمور مشتبهات)، ثم قال: (فمن اتقى الشبهات)، لأن المشتبهات أوسع من الشبهات، فليس كل مشتبه شبهة واجبة الترك.
فالمشتبهات بحسبها، فإن كانت من الشبهات فإن تركها من الورع الواجب، وإن كانت مما هو أقرب إلى الحلال ففيها تفصيل؛ فإن كانت أقرب إلى الوسط مع كونها أقرب إلى الحلال فتركها من الروع المستحب، وإن كانت قريبة جداً من الحلال فإن تركها من التشدد المنهي عنه، وإن كانت بينهما فهي من المباحات.
قال العلامة ابن القيِّم رحمه الله تعالى: (لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه ، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار )ـ والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه أو عدم تقييده بالكتاب والسنة أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها. فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة)، المصدر؛ إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج6/ص192)، تقديم وتعليق وتخريج؛ أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، شارك في التخريج: أبو عمر أحمد عبد الله أحمد، الناشر؛ دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، السعودية، الطبعة الأولى، 1423هـ.
pdf
الرجوع إلى قسم سؤال وجواب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق