سلفي مؤتمري!

رجوع إلى قسم سياسة واقتصاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن استن بسنتهم إلى يوم الدين.
استمعت إلى لقاء في قناة الجزيرة مع الدكتور حسن الترابي قبل أسابيع، قال فيه متحدثاً عن حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه: "معنا في الحزب سلفيون وصوفية"، وكان مما قال في اللِّقاء ساخراً: "الجماعات الجهادية السلفية ليس لها هدف ولا غاية" وقد صدق في أنها لا هدف لها ولا غاية وأخطأ في تسميتها سلفية، وأضاف: "أنصار السنة كان لهم هدف وهو محاربة الخرافات والمحدثات خلافاً للتنظيمات السلفية الجهاديَّة"، وأنصار السنة جماعة سلفية تعنى بالدعوة إلى التوحيد والسنة.
قد يظن بعض الناس أنَّ كلام الترابي كذب محض بسبب التعارض بين السلفية والانضواء تحت حزب يتزعمه رجل يخالف السلفية، فقد صرّح في كتاب له بعنوان (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع) بقوله؛ "النظم القرآنية السنية ليست رهينة بالمجتمع المدني" أو قال: "المجتمع الأول" يقصد بذلك مجتمع الصحابة رضي الله عنهم.
والسلفية هي فهم القرآن والسنة على فهم الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم، وفي حديث افتراق الأمة؛ (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الذي رواه أصحاب السنن؛ (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة).
فهنيئاً لمن دعا إلى الأصل الأول وحارب المحدثات بدخوله في النصوص الواردة في الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وعجباً لمن يحتار في معرفة الطريق الصحيح بعد هذا البيان الواضح في هذه الأحاديث وغيرها، وقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.
وعوداً إلى موضوع المقال، فقد وجد في تنظيم الترابي واقعاً صوفية ومنتسبون لمنهج السلف، ومن هؤلاء من يقدم ولاءه الحزبي لأهواء ومصالح شخصية، كما وجد فيهم من فيهم صدق فيما يعتقدون بتقديم الولاء لعقيدتهم على انتمائهم الحزبي، وهؤلاء ربما تكون قد وردت عليهم شبهات لم يجدوا لها دافعاً في بعض القضايا خفية كانت أم ظاهرة فأوقعتهم في الحيرة والاضطِّراب.
فرغم التعارض بين الانتساب للسلفية وحزب الترابي إلا أن كلامه ممكن نظراً وواقع حالاً، فمن الناحية النظرية قد تتعدد الرؤى في أمور مختلفة، فيخطيء الفرد في ترجيح بعضها، وقد تتعارض الرؤى مع المصالح الشخصيَّة فيقع صاحب الهوى في التناقض.
والترابي رغم مخالفته السلفية تصريحاً وواقعاً إلا أنه ليس مثل المتصوفة في التعصب المذهبي، بل هو في المقابل، وكذلك ليست لديه خرافات المتصوفة واعتقاداتهم الباطلة بل هو ينكر السحر والتلبس، وهو لا يقر ما يقع فيه المتصوفة من شركيات، بل يُنكرها أحياناً.
ولا شك أن ترجيح الوسائل والخطط على الغايات والأهداف خطأ بين وزلل قاتل، فهدف السلفيِّين هو العودة إلى الأصل الأول ونبذ الشرك والبدع، وقد يختلفون في بعض الوسائل، ومع أن الوسائل على قدر كبير من الأهمية لأن لها أحكام المقاصد، ولكن الخلاف بين السلفيين عموماً والإخوان أعمق لأنه خلاف غايات وأهداف وليس خلاف وسائل فقط.
فالسلفيون يرون أن أهم واجبات السلطان المسلم رعاية أصل الدين الشهادتين والصلاة، بينما تخبط الإخوان بين جعل أهم واجبات السلطان المسلم تطبيق الشرائع الظاهرة المتواترة التي دون الصلاة وبين القول بأن الحرية والعدالة مقدمة على الشريعة.
وأما من ناحية الواقع، فأذكر بعض الأمثلة تنشيطاً لذاكرة المجربين، فلما كنتُ بالمرحلة الثانوية في آخر الثمانينات وقبل وصول جماعة الترابي إلى الحكم في السودان؛ كنا في جماعة أنصار السنة نحرص على الفوز بإدارة جمعية الثقافة الإسلامية عبر الاقتراع، وكان حزب الجبهة الإسلامية القومية ينافسنا في محاولة الفوز بإدارة الجمعية.
وقد كان الأستاذ المشرف على الجمعية ينتمي إلى الجبهة، وهو أستاذ التربية الإسلامية، وكان يثبت الصفات على منهج السلف في الحصص، حيث كان يثبت صفة العلو بل يثبت حتى الصفات الخبرية، وقد ساعدنا هذا الأستاذ في الفوز بإدارة جمعية الثقافة الإسلامية، بل كان يسرب إلينا خطط حزبه في محاولة الفوز بإدارة الجمعية لنتمكن من إفشالها، وكان يحرص على أن يقيم أنصار السنة المحاضرات الدينية لطلاب المدرسة.
ومن أمثلة وجود من فيهم عقيدة وسنة في جماعة الترابي أنني كنت في معسكر للدفاع الشعبي في بداية التسعينيات، وكان هذا في بدايات حكم الإنقاذ، وكان يسمى معسكر الجهاد، وكان المعسكرون ملزمين بحضور صلاة الجماعة، وكانت تُلقى نصائح عقب صلاة الفجر على الطلاب والذين كان أكثرهم من طلاب جامعة الخرطوم، وأذكر أنني طلبت من إدارة المعسكر السماح لي بإلقاء نصائح عقب الصلوات فلم يُسمح لي بذلك، وقد طلب آخرون من أنصار السنة ولم يؤذن لهم.
وكان ممن يتحدث عقب الصلوات رجلٌ يبدو من حديثه وكأنه من أنصار السنة، ونسيت اسمه ولكنه كان من إقليم دارفور، وبعد صلاة الفجر التف حوله بعض الإخوة وسألوه عن حكم الموسيقى فأفتى بحرمتها، وعرفنا منه أنه خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولما سألت حينها عنه زميلاً له من أنصار السنة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة وذكرت له اسمه قال لي هو من أعضاء حزب الجبهة الإسلامية القومية.
وكان معنا بالمدينة المنورة طلاب من أعضاء الجبهة الإسلامية وكانوا على فهم السلف في الجملة مع ما هم فيه من مخالفات.
فكما يوجد من يصح أن يطلق عليه سلفي إخواني حسب تعبير الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فكذلك يوجد بالسودان سلفي مؤتمري، مع ملاحظة أن تسمية من حاله كذلك سلفياً فيها تجاوز، وذلك لما بين هاتين النسبتين من تعارض.
وبالسودان الآن مشايخ ذوو توجه سلفي مع خلل عندهم في بعض مسائل العقيدة المتعلقة بمنهج الدعوة والإصلاح، هؤلاء المشايخ كانت لهم ارتباطات سابقة بالإخوان وبعضهم كان في تنظيم الترابي يقيناً، ولعلَّ بعضهم لا يزال من الكوادر السرية في حزب المؤتمر الوطني، وأكثرهم من خريجي جامعات السعودية، يُطلق على هؤلاء المشايخ لقب "سروريون" نسبة إلى رجل إخواني ترك الإخوان حسب زعمه يُدعى محمد بن سرور.
هؤلاء المشايخ يقدَّم لهم دعم سخي من إخوانهم بالداخل والخارج من التنظيمات الإخوانية أو التي فيها قيادات من كوادر الإخوان السرية، وبعض من يدعمهم من الداخل والخارج يريد الكيد بالسلفية المتمايزة عن الإخوان المسلمين، ومن المرجَّح أن يتم تهميشهم في المستقبل من قِبل أحزاب الداخل والخارج، وذلك لأن التيار المتغلِّب في التنظيم العالمي للإخوان المسلمين هو التيار الأكثر بعداً عن المنهج السلفي.
وكان أحد الشباب يجادل عن شيخ اشتهر حديثاً بالسودان بأنه ليس إخوانياً، وكنت قد قلتُ له عن ذاك الشيخ أنه كان مع الجبهة الإسلامية يقيناً ويغلب على ظني أنه مؤتمر وطني الآن، فكان هذا الشاب والذي أخبرني أنه على صلة مباشرة وقوية بالشيخ المقصود يغضب إذا سمع هذه الحقيقة عن ذاك الشيخ الذي يُحبُه.
وقال لي الشاب؛ جلست معه في أخص مجالسه وهو يسخر من الموسيقى والغناء وكثير من مواقف حزب المؤتمر الوطني، فقلتُ له؛ هو صادق في سخريته وانتقاده للحزب، ولكن يغلب على ظني أنه يخدم حزب المؤتمر الوطني بإخلاص.
وقلتُ للشاب: "اسأل الشيخ هل كان جبهوياً سابقاً، وهل هو الآن وطني؟ ولن يكذب عليك، فهو رجل فيه خير"، فاتصل بي الشاب بعدها بفترة قائلاً: "تحققت أن الشيخ كان جبهوياً، ولكن ما لا أفهمه أنه الآن عضو في المؤتمر الوطني" فقلت للشاب: "أنا لا أفهم عضويته السابقة في الجبهة ولا عضويته الحالية في الوطني ولكن هذا حال الكثيرين من أمثاله".
ومن المؤسف حقاً أن بعض من تربى على السلفية أصبح ينادي بجواز الانتساب إلى أحزاب سياسية مخالفة في منهج الدعوة والإصلاح مع الانتساب إلى ما يسمونه جماعة حسبة يعنون الجماعة السلفية! ومن شبهاتهم أن الرعيل الأول من أنصار السنة كانت انتماءاتهم السياسية متعدِّدة!
والرعيل الأول ما تركوا لأفراد الجماعة حرية الاختيار الحزبي إلا من باب التدرج في الدعوة وتقديم الدعوة إلى التوحيد على ما هو دون ذلك، يدل على ذلك أن الشيخ الهدية رحمه الله تعالى كان يفصل من ينتمي إلى الجبهة الإسلامية من الجماعة في عهد الأحزاب.
وقد نص أئمة السنة على إلحاق من يجالس أهل البدع بهم، ومن ذلك أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى سئل عن الرجل يجالس أهل البدع فقال: "ألحقه بهم"، وذلك لأن الرجل يعرف بأصدقائه، وتدل على هذا المعنى النصوص والعقل، فكيف يصح أن تكون للرجل قناعات ومبادئ ومع ذلك ينتسب إلى غير أصحابها ممن يناقضها إن كان حقاً له ولاء لما يعتقد ويدين الله عز وجل به!
فمن يُجالس الإخوان ممن لا يعرف حالهم يلحق بهم من باب الحذر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما الحذر من الرجل في شهادته وأمانته ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى المعاينة؛ بل الاستفاضة كافية في ذلك، وما هو دون الاستفاضة، حتى إنَّه يستدلُّ عليه بأقرانه، كما قال ابن مسعود: "اعتبروا الناس بأخدانهم"، فهذا لدفع شرِّه، مثل الاحتراز من العدو. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "احترسوا من النَّاس بسوء الظن". فهذا أمر عمر، مع أنَّه لا تجوز عقوبة المسلم بسوء الظن"، مجموع الفتاوى (ج28/ص372)، وذلك لأن الصداقة والمجالسة قرينة ظنية وليست يقينية.
ولو لم يخالف الترابي تصريحاً منهج السلف لكان كافياً أنه يخالفه بكثرة فتاويه المخالفة التي تعود على بعض قواعد الشريعة بالنقض والإبطال ومنها قاعدة اتباع منهج السلف وأهمية الدعوة إلى التوحيد، والترابي صرح بعدم كفر اليهود والنصارى خلافاً لما ادعى الصحفي الشنقيطي.
وقد أورد الشنقيطي آراء الترابي وتكلف في إيجاد مخارج شرعية له مع تسليمه بكثرة زلاته وأخطائه متعلِّلاً بأنَّ له سلف في كل قول شاذ، ناسياً أو متناسياً أنَّ أولئك العلماء لم تجتمع في واحد منهم كل تلك الزلات التي اعترف بها الشنقيطي وتلك التي أوجد لها المخارج، مقال الشنقيطي موجود في؛ الجزيرة » د. محمد بن المختار الشنقيطي » آراء الترابي.. من غير تكفير ولا تشهير.
ولعل خلاف التنظيم العالمي التنظيمي السياسي مع الترابي هو الذي جعلهم ينشرون كتب من فيهم عقيدة وسنة من تنظيمهم في الرد عليه من أمثال كتاب الطحان "التجديد بين السنة النبوية وأدعياء التجديد المعاصرين".
وجماعة الإخوان منذ إنشائها تقول عن نفسها على لسان منشئها أنها جماعة سلفية وطريقة صوفية! وفيها منذ نشأتها من فيه عقيدة سلفية وسنة، ولا يزال الحال كذلك داخل السودان وخارجه، كما وجد فيها منذ نشأتها من هو أبعد حالاً عن منهج السلف ولا يزال الأمر كما كان عليه من قبل.
وقد قال صاحب كتاب (الإخوان المسلمون، أحداث صنعت التاريخ): "كنا نجتمع في دور الإخوان، السني والإباضي والشيعي، ولا يجرح أحدنا في شعور الآخر. والكل يعمل من أجل الإسلام المضيع"، فأي إسلام مضيَّع يعملون له؟ أم الإسلام محصور في الحدود والاقتصاد؟ أم أن الأولوية هي الحريات والعدل على الطريقة الجديدة للإخوان؟
من الأدلة على سيطرة التيار الأبعد عن السلفية على التنظيم العالمي للإخوان وجود راشد الغنوشي التلميذ الوفي للترابي في التنظيم، وقد قال لي الغنوشي قبل سنوات بفنلندة في محاضرة عامة: "نحن تتلمذنا على الحركة الإسلامية بالسودان"، وقد تأسف الغنوشي في زيارته الأخيرة للسودان على وجود الترابي بالمعتقل واصفاً إياه بالمفكر الإسلامي.
وقد بلغني أن التنظيم العالمي يسعى إلى إعادة الترابي، وقد أخبرني إخواني لبناني فيه سنة وموقف جيد من الشيعة والتشيع أن بعض العلماء في الإخوان متضايقون من تلميع القرضاوي ومن سيطرة المصريين على التنظيم وتوجيهه كما يريدون.
للمزيد حول الموقف ممن يجالس أهل البدع؛ مدونتي » إصلاح وتكميل » تصنيف الناس بين الغلو والجفاء.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
يوم الأربعاء 2 جمادى الأول 1432هـ، 6 أبريل 2011م
لينكوبنج، السويد
pdf
رجوع إلى قسم سياسة واقتصاد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق