حُكم التسعير والتقابض الحكمي في الصرف

الرجوع إلى قسم سؤال وجواب

أخي عمر عبد اللطيف يحفظه الله ويرعاه أولاً رمضان مبارك وأسأل الله أن يعيننا وإياكم علي صيامه وقيامه وأن يتقبل منا ومنكم. ثانياً: كنت أود أن أستفسر منك عن رأي الدين في الحوالات النقدية خارج الأطر الرسمية، بمعني أوضح عندنا هنا عندما نريد تحويل مال عن طريق البنوك يكون السعر منخفضاً جداً، وعندما نحول المال عن طريق جهات خارج النظام المصرفي (قد يكونون أفراداً أو شركات) يكون سعر التحويل مرتفع بالمقارنة مع التحويل الأول! السؤال الأول: هل التحويل عن طريق الأفراد فيه مخالفة لولي الأمر؟ السؤال الثاني هل تعتبر الزياده في التحويل الثاني عن التحويل الأول عليها شبهة ولو قليله من الربا؟ وجزاكم الله خيراً.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الإجابة على السؤال الأول: المسألة فيها تفصيل واقعي وشرعي، فهي متعلقة بمدى صحة سياسات المصرف المركزي، ومن ناحية شرعية المسألة متعلقة بأحكام الذهب والفضة والنقود وبوجوب طاعة ولي الأمر إن كان مسلماً مقيماً لأصل الدين؛ الشهادتين والصلاة، وبوجوب طاعة الحاكم عموماً في المصالح العامة إن لم يكن كذلك.
الثبات النسبي في سعر العملة غاية في الأهمية، والثبات يكون بالتسعير، والتسعير يكون بالتغطية بالذهب والفضة وليس بالتسعير المعروف اليوم المقابل للتعويم، فتسعير العملات اليوم المعروف في الدول النامية مبني على لا شيء، بخلاف التعويم فإنه مبني على العرض والطلب، ولذا فالتعويم أفضل من سياسة التسعير التي سبقت.
وقد نص الفقهاء على ما يعني أن الدينار الذهبي والدرهم الفضي أثمان حقيقية خلافاً للفلوس النحاسية، بل نص بعضهم على أن الذهب والفضة إنما خلقت لتكون أثماناً.
السياسة المصرفية الصحيحة التي تدل عليها النصوص الشرعية وأقوال الفقهاء هي تسعير الجنيه بتغطيته بالذهب أو الفضة، وربما تكون هي السياسة الصحيحة في ظرفنا الاستثنائي.
فالثبات النسبي في سعر العملة مهم في الاقتصاد بلا خلاف بين أهل التخصص وهو معنى كلام الفقهاء، وذلك لأن العملات أثمان، والثمن معيار، ففي الأثمان شبه بوحدات القياس كالمتر.
وحكم التسعير بالتغطية خاص بالنقود، وأما السلع والخدمات، فالأصل فيها عدم جواز التسعير، وتركها للعرض والطلب، وقد استثنى العلماء حال ارتقاع الأسعار بفعل الناس وليس بسبب الندرة الطبيعية، وقد مثل لها الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى بارتفاع الأسعار بسبب احتكار التجار الخاطيء.
عن أنس قال: (غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: [يا رسول الله سعر لنا]. فقال: " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق. وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال".). قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. قال الشيخ الألباني: صحيح.
الله عز وجل هو الذي يقدر الأمور ويسير الحوادث، وقد يجعل الله عز وجل تسيير الحوادث بسبب أفعال الناس. ولهذا شرع الله عقوبة القاتل. القول الراجح في التسعير هو أن منه ما هو جائز ومنه ما هو ممنوع، وذلك على النحو التالي:
  • الجائز؛ أن يكون ارتفاع الأسعار بسبب ظلم التجار كاحتكار السلع ونحو ذلك، خاصة السلع الأساسية كالقوت والدواء والمسكن.
  • المحرم؛ أن يكون سبب ارتفاع الأسعار العرض والطلب، مثل ندرة السلعة أو نقصان الطلب عليها.
وبما أن التسعير ليس بالتغطية وأنه ليس مبنياً على شيء فهو سياسة غير صحيحة وغير نافعة للاقتصاد بل مضرة، والسياسة الصحيحة الأقرب بعد التسعير بالتغطية هي التعويم، ومعناه أن يترك سعر العملة المحلية مقابل الأجنبية للعرض والطلب.
والمعلوم أن ارتفاع سعر الصرف إنما كان نتيجة قلة الاستثمار بسبب فقدان عائدات البترول بعد انفصال الجنوب. وتدخل المسؤولين الاقتصاديين في الدولة في هذه الحال لن يفيد شيئاً كما دلت التجارب على هذا.
وقد قرر المسؤولون سابقاً تحرير سوق الصرف، وقد لمست الحكومة ولمس الناس المصلحة المتحققة في تحرير سوق الصرف. والسوق الأوروبي الآن سوق حر ومع ذلك الأسعار مستقرة، لأن المسعر حقيقة هو الله كما جاء في الحديث، فالعرض والطلب يؤديان إلى استقرار الأسعار، والمنافسة بين التجار مع زيادة العرض ونقصان الطلب تؤدي إلى انخفاض الأسعار.
وأنا حقيقة أستغرب أن يلجأ مسؤولو الاقتصاد في الدولة إلى هذا الأسلوب العقيم الذي جرب مرات ومرات، والذي لا يؤدي إلا إلى خسران البنوك والدولة وقيام السوق الأسود الموازي. وبالتالي فقدان الدولة والبنوك للسيولة بالعملة الأجنبية بسبب السوق الأسود.
والأصل أنه لا يجوز للمصرف المركزي منع الاتجار بالصرف عند تعويم الجنيه، وإنما يجب عليه تنظيمه باشتراط تصاريح للصرافات العامة، ومن الفوائد مراقبة الكتلة النقدية في السوق الموازي وبالتالي منع احتكار العملة الأجنبية والتلاعب بأسعارها مقابل الجنيه.
بناءاً على ما سبق، فلا أرى أن المصلحة في تحديد سعر الصرف ومنع الاتجار خارج البنوك. لأن هذا الأسلوب لن يحل المشكلة. وعليه فلا أرى وجهاً لطاعة الحاكم في هذه المسألة لأنه ليس له الحق في التسعير في هذه الحال.
وأما الإجابة على السؤال الثاني؛ فإن سعر الصرف لا علاقة له بالربا مهما زاد. ولكن يشترط في الصرف التقابض. والصرف عن طريق الحوالات والبنوك يدخل في التقابض الحكمي كما أفتت بذلك اللجان الفقهية المعاصرة.
والأصل في الصرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد". فقوله: كيف شئتم، يدل على عدم محدودية سعر الصرف. وقوله: "يداً بيد" يدل على شرط التقابض.
يمكنك الرجوع إلى فتوى الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى في حد الربح وحكم التسعيرعلى الرابط؛ الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ العلامة العثيمين » فتاوى نور على الدرب » الشريط رقم [169] » هل للتجارة حد في الربح، وما حكم التسعيرة؟.
سؤال في التقابض في الصرف؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شيخنا عمر أبو أنس حفظك الله وبارك فيك، عندي سؤال، وهو تحويل العملة من الخارج مثل الدراهم لجنيهات سودانية! الطريقة هي التحويل يتم عن طريق شخص مثلا بالامارات موكل لآخر في السودان وهو الذي يقوم بتسليم الجنيهات للذي ينوب عني وأنا أسلّم دراهم للوكيل! فهل يشترط التقابض يدا بيد؟
الجواب؛ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الأصل في الأجناس الربوية المختلفة؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فقوله: (يداً بيد) يدل على شرط التقابض.
فإذا اتحد نوع  الجنس الربوي؛ كالذهب بالذهب مثلاً فيشترط التساوي في المقدار مع التقابض، وإذا اختلف النوع؛ كالذهب باالفضة فيشترط التقابض فقط.
والأصناف الربوية هي الأثمان وكل قوت ومدخر من الأطعمة على الراجح والله أعلم، وبما أن الصحيح قياس النقود الورقية والمعدنية على النقدين (الذهب والفضة)؛ فإن صرف الدراهم الإماراتية بالجنيهات السودانية مثلاً يُشترط فيه التقابض ولا يُشترط فيه التساوي في المقدار، وأما صرف جنيهات سودانية بجنيهات سودانية مثلاً فيشترط فيه التقابض مع التساوي في المقدار.
والصرف عن طريق الحوالات والبنوك يدخل في التقابض الحُكمي كما أفتت بذلك اللجان الفقهية المعاصرة، فالتقابض الحُكمي له حُكم الحقيقي، ويدخل في ذلك كل الطرق الموثقة كالتطبيقات الآمنة  المعتمدة والوكالات الموثوقة.
وقياس التقابض الحُكمي على الحقيقي في الأوراق النقدية واضح، لأن الأوراق النقدية بذاتها فيها شبه بالسندات الموثوقة، ولهذا كانت البنوك سابقاً تتعهد بدفع المبلغ الحقيقي وهو الذهب ونحوه لحامل السند وهو النقد الورقي.
وتحريم النسيئة في الصرف هو من باب المحرم لغيره، ولهذا أجاز بعض العلماء التحويل أيضاً من جهة أن المحرم تحريم وسائل يُباح للحاجة، والفرق بين الحاجة والضرورة هو أن الحاجة تتعلق بتحقيق مصلحة ودفع مشقة، والضرورة تتعلق بدفع ضرر، فالمحرم لذاته لا يباح إلا للضرورة.
ولكن يشترط في الحاجة شروط الضرورة، ومنها التعين بحيث لا يوجد طريق شرعي، ومنها أنها تقدر بقدرها، فلا يُتسوع فيها بأكثر مما تقتضيه الحاجة.
والأصل في ربا البيوع، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءاً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
فبيع مثلاً جرامين من الذهب الخالص عيار 24 بثلاثة جرامات من عيار 18 محرم وهو ربا الفضل، وهو محرم لغيره كما قال ابن تيمية رحمه الله لأنه يؤدي إلى ربا القروض، وربا القروض في الربويات أشد منه غيرها، لذا جاءت فيها الأحكام مغلظة سداً للذريعة.
وصح في البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءهم بتمر جَنِيب، فقال: "أكل تمر خيبر هكذا؟" قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة ، فقال: "لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنِيبًا").
والله تعالى أعلم.
pdf
الرجوع إلى قسم سؤال وجواب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق