آيات السيف والبراءة

سبب مشروعية الجهاد  المحتويات   القدرة قد تكون شرط صحَّة أو وجوب
تقدّم أنّ النهي عن قتل الرهبان والنساء دليل على أن جواز القتل أثناء القتال ليس بسبب الكفر، وأنه لو كان السبب الكفر لكان قتل الرهبان أولى من قتل غيرهم.
والأصل في العقيدة والتعبد والعقود وسائر التصرفات الاختيار؛ ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾،﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ ويستثنى من ذلك ما دلَّ الشرع والعقل والفطرة على استثنائه.
فحرية الاختيار هي أصل الخلق ومبدأ التكليف، هي أصل الخلق لأنَّ الله عز وجل لما خلق الإنسان جعل له القدرة على اختيار الخير والشر؛ ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
وهي مبدأ التكليف لأنَّ الله تعالى ذِكرُهُ خلق الإنسان للابتلاء والامتحان، ولو كان الإنسان مكرهاً لانتفى معنى الابتلاء والتكليف: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، أي لنبتليه، للمزيد؛ مدونتي » قواعد وأصول » حرية الاختيار وأحكام العقوبات.
ومع وضوح دلالة النصوص على أنّ الإسلام ليس فيه إكراه على الدخول فيه، فقد نقل بعض الناس كلاماً بعضه مبتورٌ وبعضه مرجوحٌ لآيات السيف والبراءة من عهود المشركين فنشروه باللّغات العالميّة المهمّة.
وفي ظل هذه الحملة الشرسة على الإسلام والمسلمين يردّد اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار والعلمانيين شبهاً واهية حول آيات السيف والبراءة من المشركين.
وأكثر ما يثيرون به الشبه من آيات السيف؛ قول الله عز جل: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وقوله تعالى ذكرُه: ﴿بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
ويثيرون حول هذه الآيات شبهتين؛ الأولى؛ الإكراه على الدخول في الإسلام، الثانية؛ الغدر والخيانة والانتهازية بنقض العهود غدراً دون سبب.
الرد على الشبهة الأولى هو أن التخيير في الآية لم يكن فقط بين الإسلام والقتال، بل كان لهم خيار ثالث وهو الذهاب إلى أي بلد شاؤوا، وكل ذلك من قبيل المعاملة بالمثل.
فالآيات فيها تخيير بين ثلاثة خيارات وهي؛ الذهاب إلى أي بلد شاؤوا ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ خلال مدة معينة، فإذا لم يفعلوا فالإسلام أو القتال، فأمهل بعضهم أربعة أشهر وأمهل آخرين خسمين يوماً، وهي من يوم النداء الذي كان يوم الحج الأكبر إلى انسلاخ الأشهر الحُرم المتتالية.
روى الطبري رحمه الله تعالى عن ابن زيد قال: (فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر، يختارون من أمرهم؛ إما أن يسلموا، وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا) [١].
وقال الطبري رحمه الله تعالى: (اعلموا أيها المشركون، أنكم إن سحتم في الأرض، واخترتم ذلك مع كفركم بالله، على الإقرار بتوحيد الله وتصديق رسوله ﴿غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾، يقول: غير مُفِيتيه بأنفسكم) [٢].
ويؤكد ذلك إضافةً إلى دلالة الآية الصريحة؛ قول الله عز وجل في آيات البراءة من المشركين: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾، والشاهد من الآية الأمر بإبلاغ المُشرك مأمنه من غير اشتراط إسلامه.
فإن قال قائل: أليس في هذا التخيير تشريد الناس من أوطانهم؟ فجوابه أن هذا من المعاملة بالمثل، يدل على ذلك قول الله عز وجل في آيات براءة: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، وفي سورة البقرة قال تعالى ذِكرُه: ﴿وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾.
فإخراج مشركي العرب من أوطانهم عقوبة من باب المعاملة بالمثل وليس لأجل إكراههم على الدخول في الإسلام، يؤكد ذلك جواز استئمان المشرك حتى يسمع كلام الله ثم إبلاغه مأمنه دون إكراهه على الدخول في الإسلام.
وما سبق يرجح أنه لا فرق في حُكم القتال بين المشركين عرباً وعجماً وأهل الكتاب، وهو مذهب الجمهور، فالصحيح أن المشركين عرباً وعجماً تُقبل منهم الجزية خلافاً لمن قال بأنَّ مشركي العرب أو سائر المشركين عرباً وعجماً يخيرون فقط بين الإسلام والقتال.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (فقال مالك: تقبل الجزية من جميع الكفار عرباً كانوا أو عجماً) [٣].
والقولبعدم قبول الجزية من المشركين مرجوحٌ لورود النص بخلافه، وهو ما رواه مسلم وغيره أنّ النبي ﷺ قال لبريدة بن الحصيب رضي الله عنه: (وإذا لقيت عدوك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال) ... إلى قوله: (فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) [٤].
ويُرجح ذلك أيضاً ما ورد في صحيح البخاري وغيره: (ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر)، قال المباركفوري رحمه الله تعالى: (والحديث مما يستدل به مالك والأوزاعي ومن وافقهما على جواز أخذ الجزية من كل كافر عربياً كان أو عجمياً كتابياً أو غير كتابي)، وقال: (قال في شرح السنة: أجمعوا على أخذ الجزية من المجوس) [٥].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة، ولكن بعض العلماء ظن ذلك في بعض الأحكام وخالفه الجمهور، كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بأن لا يسترقوا، وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة ..... إلى قوله: وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركي العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين، وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم) [٦].
والقتل في آية ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ هو القتل أثناء القتال، كما دلت على ذلك الآيات، وأفضل تفسير للقرآن هو ما كان بالقرآن؛ ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (عن ابن إسحاق قال: أمر الله رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد الخاص، ومن كان من أهل العهد العام، بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلاً إلا أن يعدو فيها عاد منهم، فيقتل بعدائه) [٧].
يُرجح ما سبق التخيير بين القتل والأسر في الآية، فقد ذكر المفسرون أنَّ ﴿وخذوهم﴾ معناها وأسروهم.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى في تفسيره: (وعود حالة الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقتت بها العهود، وهو مناجزة المشركين بكل نوع من أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق المواصلات) [٨].
وأما شبهة أن الإسلام فيه انتهازية بدعوته إلى السلم حال الضعف فقط ثم الانقلاب عليه حال القوة، فجوابها هو؛ أنَّ العهد لا يُلغى إلا بشرطين، وهما؛ خوف الخيانة، وإعلام المعاهد بإلغاء العهد قبل مباغتته، وخوف الخيانة يكون بظهور أماراتها بعد العهد أو بظلم سابق من غدر أو قتال وإخراج من الديار ومُظاهرة على شيء ذلك.
فمن لم تُخشَ خيانته من أصحاب العهود المُطلقة يُستمر معه في العهد من غير إلزام بجزية، وعامة عهود النبي ﷺ مع المشركين كانت مطلقة غير مؤقتة، وللمزيد حول هذا يُرجى الرجوع إلى؛ مبحث حُكم العهد المطلق، ومبحث سبب مشروعية الجهاد.
من أقوال المفسرين يظهر أن المشركين الذين نزلت فيهم آيات البراءة كانت علاقتهم مع المسلمين على ثلاثة أنواع؛ قوم لهم عهد مؤقت بمدة سواءٌ بقي منها أقل من أربعة أشهر أو أكثر، وقوم لهم عهد مطلق غير محدود بمدة، وقوم لا عهد لهم.
والبراءة من عهود من كان له عهد من مشركي العرب سببها هو أنهم أحد اثنين؛ إما أنهم نقضوا العهود غدراً؛ ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾، أو خُشيت خيانتهم بظهور أماراتها لاحقاً أو بمُحاربة سابقة قبل قوة المُسلمين؛ ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾، وهذه الآية تلت قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ وهو استفهام إنكاري فيه إشارةٌ إلى ما استقر في النفوس من وجوب الوفاء بالعهود.
ومن لا عهد لهم قد تكون فيهم شبهة محاربة، ولعدم جواز الأخذ بالشبهة لزم النبذ إليهم.
وسبق في مبحث؛ حُكم العهد المطلق أنّ حكم أصحاب العهد العرفي مثل حُكم أصحاب العهود المطلقة، فلا يقاتلون إلا إذا خُشيت خيانتهم بظهور أماراتها لاحقاً أو بمحاربة سابقة.
أما أهل العهد المؤقت الذين لم يغدروا ولم تخشَ خيانتهم، فقد أوجب الله تعالى إتمام عهدهم إلى مدتهم، وذلك لقول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
وكذلك أوجب الله تعالى الوفاء بعهود من لم يغدر ولم تُخش خيانتهم من أصحاب العهود المطلقة بقوله تعالى ذكرُهُ: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
فالعبرة بعموم اللفظ، وقد اختلف المفسرون فيمن نزلت فيهم هذه الآية، وقد قيل أنها فيمن كان على عهد مطلق مع النبي ﷺ قبل الحديبية مثل بني ضمرة وبني مدلج، وقد جددوا عهدهم معه بدخولهم في حِلف قريش التي عاهدت النبي ﷺ لمدة، فلما نقضت قريش عهدها غدراً بقي لهم عهدهم المُطلق لعدم مشاركتهم في  الغدر.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: (ثم نقض العهد منهم بنو الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بأن عدوا على خزاعة، ونقض معهم قريش حيث أعانوهم على الخزاعيين، وبقي بنو ضمرة وبنو جذيمة بن عامر وبنو مدلج على عهدهم لم ينقضوا، وهم الذين استثناهم الله) [٩].
يدلّ على أن الآية في أصحاب العهد المطلق أمران؛ الأول؛ أن الآية التي قبلها فيمن له عهد مؤقت، فلزم أن تكون في هذه الآية في أصحاب العهد المطلق، وذلك لأن التكرار في كتاب الله تعالى لا يكون إلا مع زيادة معنىً.
الثاني؛ أن هذه الآية في الاستقامة مطلقاً، والاستقامة تشمل عدم ظهور أمارات المؤامرة والخيانة، إضافةً إلى عدم ذكر المدة والإطلاق في الأمر بالاستقامة لهم، فدل على أنها في أصحاب العهود المُطلقة.
ومن قال إنّ هذه الآية في أصحاب العهود المؤقتة، إنما قالوا ذلك بسبب أن الآية فيمن عاهد عند المسجد الحرام، فهي فيمن عاهد يوم الحديبية، وكان صلح الحديبية مؤقتاً.
والصحيح أنها فيمن كانت لهم عهود مطلقة قبل دخولهم في الحلف المؤقت يوم الحديبية كما سبق.
سبب رجحان أن الآية فيمن دخل في حلف قُريش هو أن خزاعة كانت قد أسملت وقت نزول آيات براءة، وقد نزلت آيات براءة في السنة التاسعة من الهجرة بعد سنة من فتح مكة، وأما قريش وبنو بكر فإنهم كانوا قد نقضوا العهد غدراً قبل ذلك بعام، قاله الطبري والشنقيطي رحمهما الله.
والمراد بالمسجد الحرام هُنا الحرم المكي، وهذا يدل على أن جزءً من صُلح الحديبية كان في الجزء التابع للحرم المكي من الحديبية، قاله الشنقيطي رحمه الله.
ذكر ابن عاشور رحمه الله أنّ العهد المذكور في هذه الآية كان في عمرة القضاء في السنة التالية لسنة الحديبية.
ويبدو أن ابن عاشور رحمه الله بنى قوله هذا على أن المراد المسجد الحرام نفسه، وقد يفتقر قوله هذا إلى دليل من أحداث السيرة، بل هذا مستبعد لأن النبي ﷺ دخل مكة حينها بشرط أهل مكة أن يدخلها للعُمرة فقط.
قال ابن عاشور رحمه الله: (وهم أخص من الذين مضى فيهم قوله: ﴿إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً﴾ [التوبة: 4].
والمقصود من تخصيصهم بالذكر؛ التنويه بخصلة وفائهم بما عاهدوا عليه، ويتعين أن يكون هؤلاء عاهدوا النبي ﷺ في عمرة القضاء عند المسجد الحرام، ودخلوا في الصلح الذي عقده مع قريش بخصوصهم، زيادة على دخولهم في الصلح الأعم) [١٠].
ومن كمال الشريعة في نزاهتها عن الغدر إمهال المشركين مدّة بعد البراءة من عهودهم، فأمهل من كان له عهد وغدر أو خُشِيتْ خيانته مدة أربعة أشهر ابتداءً من أول شوال على الأرجح، وأما من ليس له عهد وخِيفت خيانته؛ فأمهله على الأرجح خمسين يوماً، وهي مدة انسلاخ الأشهر الحرم المُتتالية، وذلك لأن نداء براءة كان يوم الحج الأكبر.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾، إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله ﷺ، ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله - جل ثناؤه - أمر نبيه ﷺ بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [١١].
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: (إنّ انسلاخ الأشهر الحرم إنّما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله ﷺ.
والأشهر الأربعة لمن له عهد، إمّا إلى أجلٍ غير محدودٍ وإمّا إلى أجلٍ محدودٍ قد نقضه، فصار بنقضه إيّاه بمعنى من خيف خيانته، فاستحقّ النبذ إليه  على سواءٍ، غير أنّه جعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر.
ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة، ويصفهم بأنّهم أهل عهد ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ [التوبة: ٢].
ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرام أجلاً بأنّهم أهل شرك لا أهل عهد، فقال: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣]
) [١٢].
فالبراءة ليست إلا من عهود من نقض العهد غدراً أو خيفت خيانته بظهور أماراتها لاحقاً أو بسابق غدر أو مُحاربة.
وإلى هذا المعنى أشار الطبري رحمه الله بقوله فيمن نقض العهد من أصحاب العهود المؤقتة: (فصار بنقضه إياه بمعنى من خيف خيانته) يعني من خيفت خيانته من أصحاب العهود المطلقة.
قال الله تعالى ذكرُهُ فيمن نقض العهد غدراً: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وقال فيمن خيفت خيانته بظهور أماراتها لاحقاً أو بِمحاربة سابقة: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
ويُرجى الرجوع إلى كلام الإمام الطبري رحمه الله تعالى في أن إلغاء العهد المطلق ليس بغدر مع شرط النبذ وشرط خوف الخيانة بظهور أماراتها في مبحث؛ جواز العهد المطلق مع الكفار.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في مسألة الوفاء بالعهود في تفسير آيات السيف: (ولما كان للوفاء بالعهد كل هذا الشأن في الإسلام كان نبذ عهود المشركين مما قد يظن بادي الرأي أنه مخل به، أو مما قد يظن قليل العلم بالقرآن والجمع بين نصوصه بالفهم الصحيح أن هذا النبذ ناسخ لوجوبه كما زعم بعضهم، أو أن ذلك التعظيم للوفاء بالعهد وتأكيده كان مقيداً بحال ضعف المسلمين كما قال آخرون مثل هذا في آيات العفو والصفح عن المشركين.
بل كان هذا النبذ مما يفتح باب الدس أو الطعن للمنافقين والتأويل للمرجفين في عصر التنزيل، وقد يعظم على بعض المسلمين ويخفى عليهم الجمع بينه وبين تلك الآيات الكثيرة التي هي نصوص في أن الوفاء بالعهد من فضائل الدين الأساسية - لما كان كل ما ذكر كما ذكر - بين الله تعالى لنا في هاتين الآيتين وما بعدهما كون هذا النبذ وما يترتب عليه لا ينافي ولا يجافي شيئاً من تلك النصوص المحكمة، وإنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين أو بدونه فقال: ﴿كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله﴾؟
هذا الاستفهام للإنكار المشرب لمعنى التعجب، والخطاب للمؤمنين الذين رسخ خلق الوفاء في قلوبهم، وكان بعضهم عرضة لقبول كلام المنافقين في إنكار النبذ، والمعنى: بأية صفة وأية كيفية يثبت للمشركين عهد من العهود عند الله يقره لهم في كتابه وعند رسوله ﷺ يفي لهم به وتفون به اتباعاً له - وحالهم الذي بينته الآية التالية تأبى ثبوت ذلك لهم؟) [١٣].

المصادر

[١] تفسير الطبري (ج11/ص352) » [التوبة: 7]، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي  الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001م.
[٢] تفسير الطبري (ج11/ص320) » [التوبة: 2]، الطبعة السابقة.
[٣] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (ج2/ص117)، تحقيق؛ مصطفى بن أحمد العلوي , محمد عبد الكبير البكري، الناشر: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب، 1387 هـ.
[٤] أخرجه مسلم (١٧٣١) واللفظ له، والترمذي (١٦١٧)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٨٧٦٥)، وابن ماجه (٢٨٥٨)، وأحمد (٢٣٠٣٠)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (٢٣٢٥).
[٥] تحفة الأحوذي (ج5/ص176)، دار الكتب العلمية – بيروت.
[٦] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج19/ص18-19)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[٧] تفسير الطبري(ج11/ص368) » [التوبة : 13]،  الطبعة السابقة.
[٨] تفسير المنار (ج10/ص163) » [التوبة : 7]، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م
[٩] العَذْبُ النَّمِيرُ مِنْ مَجَالِسِ الشَّنْقِيطِيِّ فِي التَّفْسِيرِ (ج5/ص286)، تحقيق؛ خالد بن عثمان السبت، إشراف؛ بكر بن عبد الله أبو زيد، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، الطبعة الثانية، 1426هـ.
[١٠] التحرير والتنوير (ج10/122)، الناشر؛ الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984هـ.
[١١] تفسير الطبري (ج11/ص311-312) » [التوبة: 1]، الطبعة السابقة.
[١٢] جامع البيان (ج١١/ص‏٣١٧) - أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت ٣١٠هـ) - ط هجر.
[١٣] تفسير المنار (ج10/ص164) » [التوبة : 7]، الطبعة السابقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق