الاتِّباع في دليل الإجماع

رجوع إلى قسم قواعد وأصول

المحتويات

  1. تعريف الإجماع
  2. الإجماع على غير نص
  3. الإجماع ظني في الأصل
  4. ثبوت الاجماع
  5. ترتيب دليل الإجماع
  6. الغلو في الإجماع
  7. الجفاء في الإجماع
  8. مراتب الإجماع
  9. لا يشترط انقراض عصر الإجماع
  10. خلاف المبتدع
  11. الإجماع بعد خلاف
  12. إحداث الأقوال
  13. إجماع أهل البلدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الكريم الوهاب، والصلاة والسلام على معلم الخير والآداب، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلهم إلى يوم المآب.
من أهم المهمات تجلية مسائل الإجماع لأنه المصدر الثالث من مصادر الأحكام في الإسلام.

تعريف الإجماع

الإجماع في اللغة هو العزم والاتفاق، وفي الاصطلاح هو؛ اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر شرعي.
الدليل على أن المراد بأهل الإجماع أهل العصر؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي - أو قالَ: أمَّةَ محمَّدٍ صلّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - على ضلالةٍ، ويدُ اللَّهِ معَ الجماعةِ)، صححه الألباني رحمه الله تعالى  [1]. 
وجه الدلالة هو أن قوله يد الله مع الجماعة فيه معنى أهل الإجماع، لأن التأييد والنصر يكون للأحياء المجتمعين.
والدليل على أن المراد بالإجماع في الأحكام الشرعية هو إجماع المجتهدين هو أن الله تعالى جعل الطاعة خاصة في أولي الأمر وهم العلماء في الأحكام والفتاوى الشرعية والأمراء فيما يتعلق بما استرعاهم الله فيه من أحكام تنفيذية عملية، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَ‌ٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
وقد دل العقل على أن الإجماع في كل فن هو إجماع أهل التخصص فيه.
خرجت بالأمر الشرعي الأحكام غير الشرعية، فالأحكام العقلية البدهية مثلاً كقاعدة أن الكل أكبر من الجزء وحجية الخبر المتواتر هي محل اتفاق جميع العقلاء.
ترد على تعريف الإجماع السابق أسئلة، أهمها؛ إذا كان من المجتهدين من يكون مجتهد مسألة، فكيف يمكن حصر المجتهدين في العصر؟ وما معنى العصر؟
المراد بالعصر زمن حدوث الاتفاق طال أو قصر ولو للحظة، لأن المراد اتفاق مجتهدي العصر، ولكنه يثبت بيقين أو ظن غالب بعد مرور زمن من اتفاقهم.
تحديد الزمن الذي بمروره يثبت الإجماع يختلف باختلاف الحال، فسنة الخلفاء الراشدين مثلاً أيسر في الثبوت لاشتهارها، وذلك لأن السنة هنا هي الطريقة المتبعة كنظام في الدولة بخلاف الفتاوى فإنها قد لا تشتهر.
ثبوت الإجماع في ذات العصر ظني غالباً إن لم يكن وهم مع تفرق المجتهدين في الأمصار وتعدد الدول المسلمة.
لاستحالة حصر المجتهدين بعد تفرق المسلمين في الأمصار، فإن كثيراً من الإجماعات بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم لا تثبت على وجه اليقين إلَّا بمرور زمن مع النص عليه واشتهاره بين المجتهدين دون نكير معتبر، ولهذا كانت كثير من إجماعات غير الصحابة ظنية الثبوت.
ويكون النكير غير معتبرٍ إذا كان بعد ثبوت إجماع أهل عصرٍ على حكم شرعي، ويوصف الرأي المخالف بالشذوذ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الإجماع: (لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً) [2].
ولم ينفِ ابن تيمية رحمه الله تعالى العلم بإجماع غير الصحابة مطلقاً كما قد يتوهم بعضٌ، وإنما نفى العلم به في الغالب، والمقصود بالعلم هنا اليقين والقطع.
إجماع غير الصحابة رضي الله عنهم حجة بدلالة النصوص، ومنها قول الله تعالى ذكره: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}، وحديث؛ (إنَّ اللهَ قد أجارَ أمّتي من أن تجتمعَ على ضلالةٍ)، حسنه الألباني [3].

الإجماع على غير نص

اختلف العلماء في وقوع إجماع على غير نص، والأرجح صحة وقوع إجماع على غير نص في عين المسألة، ولكن الإجماع لا يقع إلا على نص ولو كان ظنياً أو على أمر مبني على قاعدة عامة مستنبطة من نص أو على قياس على نص.
وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة طلاق الثلاث في طلقة مما وقع فيه إجماع على أمر تعزيري اجتهادي، لأن سنة الخلفاء الراشدين تعد إجماعاً كما نص على ذلك ابن تيمية وعلل ذلك باشتهارها بين الصحابة رضي الله عنهم دون نكير.
ومما حدث فيه إجماع من أحكام اجتهادية في عصرنا تحريم السجائر.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ما اجتمعوا عليه، فذكروا أنه حكاية عن رسول الله، فكما قالوا، إن شاء الله.
وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكون قالوا حكايةً عن رسول الله، واحتمل غيره، ولا يجوز أن نَعُدَّه له حكايةً، لأنه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعًا، ولا يجوز أن يحكي شيئًا يُتَوَهَّم، يمكن فيه غير ما قال.
فكنا نقول بما قالوا به اتباعًا لهم، ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تَعزُبُ عن عامتهم، وقد تعزُبُ عن بعضهم. ونعلم أن عامّتهم لا تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله، ولا على خطأ، إن شاء الله) [4].
ويقع الإجماع على نص خفي، إذ لو كان وقوعه فقط على قطعي الثبوت والدلالة لما كان لحجيته معنىً يُذكر، لأن النصوص حجة في ذاتها.
وقطعي الثبوت من الأحاديث هو ما لا خلاف في ثبوته عند علماء الحديث ولو كان خبر آحاد، لأن إجماع علماء الحديث من القرائن التي تجعل خبر الآحاد يقينياً.

الإجماع ظني في الأصل

المراد بالظني المبني على غالب الظن، فالظن المرجوح يسمى الوهم عند الأصوليين، والظن الغالب يعمل به بدلالة النصوص واتفاق العقلاء وإجماع الأمة.
الإجماع على حُكم مسألة سواءٌ كان محكياً أو سكوتياً مبني في الأصل على عدم العلم بقائل بالمسألة أو عدم العلم بمخالف للمسألة، ولذا فهو ظني في الأصل، ويكون قطعياً بالقرائن.
وذلك لأن عدم العلم بالشيء ليس علماً بالعدم، والمقصود بالعلم في جملة "ليس علماً بالعدم" اليقين.
ولذا أنكر الأئمة الإجماع المُدعى المخالف لظواهر النصوص، وقدموا النصوص عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من ادعى الإجماع فهو كذب، لعل الناس اختلفوا، هذا دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن لا يعلم الناس يختلفون أو لم يبلغه ذلك ولم ينته إليه فيقول لا يعلم الناس اختلفوا) [5].
فقوله: (لعل الناس اختلفوا) هو بمعنى (عدم العلم بالشيء ليس علماً بالعدم).
وفي قوله: (فيقول لا يعلم الناس اختلفوا) جواز حكاية الاجماع على وجه غلبة ظن من حكاه.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علماً بعدمه) [6].

ثبوت الاجماع

الإجماع منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني ومنه ما هو متوهم، وكل مرتبة من الثلاث على مراتب.
سبق أن أقوال الأئمة تدل على أن الإجماع ظني في الأصل وأنه يتقوى بالقرائن، وذلك لأنه مبني على عدم العلم بقائل أو مخالف، وعدم العلم بالشيء ليس علماً بالعدم.
القرائن التي تجعل الإجماع يقينياً قد تكون في غيره كتقوِّيه بنص ولو كان خفياً أو ظنياً، وقد تكون القرائن في ذات الإجماع؛ كإجماع الصحابة رضي الله عنهم لاجتماعهم وتفرق من بعدهم في الأمصار، وكسنة الخلفاء الراشدين لاشتهارها، وكتواتر حكاية الإجماع.
ولا يُشترط في الإجماع القطعي حكايته في كل مسألة فضلاً عن تواتره، إذ يُعلم مثلاً إجماع أهل الرياضيات على صحة نظرية فيثاغورس من غير حاجة للاطلاع على حكاية إجماع على صحتها، وذلك لقوة مأخذها.
فمن الإجماع السكوتي ما هو قطعي، ومن ذلك أنه يُقطع بثبوت الإجماع في المسائل الصريحة في القرآن والمشتهِر المتفق على ثبوته من السنة مع عدم نقل ما يخالف دلالات النصوص عن السلف.
فيُجزم مثلاً بأن السلف مجمعون على أن دعاء غير الله تعالى شرك أكبر دون اطلاع على حكاية إجماع على ذلك، وذلك لدلالة النصوص الصريحة مع عدم نقل ما يخالف دلالاتها.
للمزيد حول النصوص الدالة على أن دعاء غير الله تعالى شرك أكبر؛ أغلظ شرك في العبادة.
والإجماع المتوهم هو الذي لم يتقوَ بالقرائن مع مخالفته نصاً محكماً غير منسوخ لا معارض له من جنسه.

ترتيب دليل الإجماع

الكتاب والسنة والإجماع والقياس بنفس الدرجة في المتفق على صحته من السنة والإجماع الذي تقوى بقرائن تجعله في مرتبة النص والقياس الذي في حُكم المنصوص عليه، وذلك لأن الكتاب أمر باتباع السنة وأمر بالعمل بالإجماع وأمرت السنة بالقياس على النصوص.
فالقياس الجلي البدهي في حكم المنصوص عليه، كقياس الأولى بعدم ضرب الوالدين في قول الله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}.
ولكن يقدم النص على الإجماع الذي لم يتقوَ بقرائن تجعله في مرتبة النص، ويقدم الإجماع على القياس الذي لا يُعد في حكم المنصوص عليه.
الدليل على أن الإجماع الذي لم يتقوَ بقرائن في المرتبة الثالثة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَ‌ٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
وجه الدلالة هو أن الله تعالى جعل طاعة أولي الأمر وهم العلماء تبعاً لا أصلاً بجعلها مقيدة بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأنه أمر بالرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع، ويقع التنازع في الأمور التي فيها خفاء وظن كالإجماع الظني.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة، والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة، قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة) [7].
والإجماع الذي تقوى بالقرائن لم يكن ليرقى إلى مرتبة النصوص إلا لدلالتها على وجوب لزومه، ولا يكون القياس في مرتبة النصوص إلا إذا كان في حكم المنصوص عليه.
ولم يكن للإجماع الذي تقوى بقرائن أن يرقى إلى مرتبة نص أو أعلى إلا لأن الإجماع لا يقع إلا على نص ولو كان ظنياً أو على أمر مبني على قاعدة مستنبطة من نص أو على قياس على نص.
والسنة في مرتبة القرآن فيما لا خلاف في ثبوته منها وما روي بنصه وما لم تُنقِص روايته بالمعنى شيئاً من معناه، لأن السنة وحي منزل أو بإقرار الوحي، ولأن القرآن أمر باتباع السنة.
والسنة تلي القرآن في كثيرٍ من المسائل الخفية لأن من السنة ما هو مختلف في صحته ولجواز رواية السنة بالمعنى.
وقد نص الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على أن ترتيب الأدلة هو؛ الكتاب والسنة المجتمع عليها ثم السنة المختلف في ثبوتها ثم الإجماع ثم القياس.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (يحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، الذي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن.
وُيحكم بالسنة قد رويت من طريق الانفراد، لا يجتمع الناس عليها، فنقول حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث.
ونحكم بالإجماع ثم القياسِ، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلةُ ضرورة، لأنه لا يحل القياسُ والخبرُ موجودٌ) [8].
والنص مقدم على الإجماع الظني المحتمل حتى ولو كان النص ظني الثبوت والدلالة، وظني الثبوت هو ما اختلف فيه علماء الحديث وليس خبر الآحاد المجتمع عليه.
ولكن يجب معرفة أن الظن درجات متفاوتة، فلا يجوز تقديم النص الظني القريب من الشك على الإجماع الظني القريب من اليقين، ومن باب أولى إذا كانت دلالة النص غير واضحة.
ويجب العمل بالإجماع الظني ما لم يعلم نص مخالف في المسألة، فإذا وجد نص موافق فإن الإجماع الظني يقوي دلالة النص الظني.

الغلو في الإجماع

النص غير المنسوخ الذي لا معارض له من جنسه المخالف للإجماع الظني يُبطله، فيعد مثل هذا الإجماع متوهماً وإن كان النص ظنياً ولم يتقوَ الإجماع بقرائن تجعله في مرتبة أعلى من مرتبة النص الظني.
ولابد من وجود قائلين بمقتضى النص وإن لم يعرفوا، أقلهم رواة الحديث.
وبعض الكتب لا زالت مخطوطة يتعسر الوصول إليها، وبعضها أُغرق أو تلف، وبعض المسائل موجودة في غير مظانها فيتعسر الوصول إليها.
متعصبة المذاهب يقدمون الإجماع المتوهم على النصوص، وسبق تعريف الإجماع المتوهم بأنه الظني الذي يخالف نصاً محكماً غير منسوخ لا معارض له من جنسه، وسبق أن الإجماع ظني في الأصل ولا يكون يقينياً إلا بالقرائن.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في عدم العلم بقائل بمقتضى النص: (فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله؟) ... إلى قوله: (وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول) [9].
ومعنى أصل العلم كله النصوص، ويوضحه ما سبق من أنه لم يكن للإجماع الذي تقوى بقرائن أن يرقى إلى مرتبة نص أو أعلى إلا لأن الإجماع لا يقع إلا على نص ولو كان ظنياً أو على أمر مبني على قاعدة مستنبطة من نص أو على قياس على نص.
وقال أيضاً: (فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم "ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا" يقول: من قال بهذا؟ ويجعل هذا دفعاً في صدر الحديث، أو يجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفته وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل) [10].
وقال في مخالفة النص لعدم العلم بالمخالف لقول أو أقوال علماء في المسألة: (ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف.
ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص.
فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده) [11].
والفرق بين عدم العلم بالمخالف (الإجماع السكوتي) وعدم العلم بالقائل هو أن الإجماع السكوتي يعلم فيه بقائل أو قائلين بحكم مسألة ولكن لا يعلم مخالف فيها، وعدم العلم بالقائل هو عدم علم بقائل بالقول الحادث في المسألة.
وبالمثال يتضح المقال؛ فمن أمثلة الإجماع المتوهم الإفتاء بأن القول بكفاية قطع ودج واحد في حد الذبح مخالف للإجماع، وذلك لعدم علم المُفتين بقائل بكفاية قطع ودج واحد.
وهو إجماع متوهم لأن كفاية قطع ودج واحدٍ واضحة في نص صحيح محكم غير منسوخ لا معارض له من جنسه؛ (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا) [12]، وللمزيد؛ مدونتي » أحكام » اللحم في أوروبا وأمريكا » قطع أحد الودجين.
والإجماع المتوهم هو الذي أنكره الأئمة كالشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى، فهو الذي قال فيه الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه، ولم ينته إليه؟).

الجفاء في الإجماع

سبق أن الإجماع الظني مقدم على القياس الظني، فمن الجفاء تقديم القياس الظني على الإجماع ولو كان ظنياً.
والقياس الذي هو مصدر من مصادر الأحكام الشرعية هو القياس على النصوص، فأسوأ من تقديم القياس الظني على الإجماع الظني؛ تقديم الآراء والأقيسة العقلية المحضة على الإجماع ولو كان ظنياً.
فالآراء والأقيسة العقلية المحضة ليست مصدراً من مصادر الأحكام الشرعية، ولا محل لها فيما ورد فيه نص صريح من أمور الدنيا وعلومها، وإنما هي مصدر للمصالح المرسلة التي هي من جنس المباحات، وكذا أمور الدنيا التي لا تخالف نصاً.
فالإجماع الظني يعمل به ويُستدل به إذا لم يخالف نصاً، ويتقوى بالنصوص الظنية حتى يصبح يقينياً، ويقوي القياس الظني، ويقاس على الإجماع كما يُقاس على النص.
ومن الجفاء في الإجماع تقديم نص ظني على إجماع قطعي وتقديم نص ظني على إجماع ظني أعلى درجة، فالظن ليس بدرجة واحدة.
واختلاف درجات التقسيم الواحد أمرٌ يغفل عنه كثيرٌ من الناس، فالحد لا يوجد إلا في الأذهان، فحتى السواد درجات متفاوتة والبياض كذلك، قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
فالظن الغالب درجات متفاوتة بعضه أعظم من بعض، فلا يجوز تقديم النص الظني القريب من الشك على الإجماع الظني القريب من اليقين.
وبالمثال يتضح المقال؛ تحية المسجد مستحبة بالإجماع الذي قد لا تجوز مخالفته، لأن نصوص عدم وجوب غير الصلوات الخمس تصرف النص الذي ظاهره وجوب تحية المسجد عن ظاهره، والنصوص تقوي الإجماع الظني حتى تجعله يقينياً.
هذا إضافة إلى أن مخالفة أهل الظاهر مشكوك في صحتها، وذلك لأن ابن حزم رحمه الله يرى الاستحباب وهو أعلم بأقوال أهل الظاهر من غيره ممن نقل عنهم القول بالاستحباب.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب، ونقل بن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمه) [13].
وسبق أنه لم يكن للإجماع الذي تقوى بقرائن أن يرقى إلى مرتبة نص أو مرتبة أعلى من نص إلا لأن الإجماع لا يقع إلا على نص ولو كان ظنياً أو على أمر مبني على قاعدة مستنبطة من نص أو على قياس على نص.

مراتب الإجماع

سبق أن الإجماع منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني ومنه ما هو متوهم، وأن كل قسم من هذه الأقسام الثلاث على درجات متفاوتة.
أعلى الإجماعات مرتبة سنة الخلفاء الراشدين، ثم غيرها من إجماعات الصحابة رضي الله عنهم لفضلهم وعدم تفرق المسلمين في الأمصار، ثم إجماع القرنين بعد الأول، ثم إجماع من بعد القرون الثلاثة المفضلة.
للمزيد حول زمن القرون المفضلة وطبقاتهم العامة؛ مدونتي » قواعد وأصول » تحديد القرون المُفضلة.
سنة الخلفاء الراشدين إجماع سكوتي ولكنه يقيني باشتهاره، لأن السنة هي الطريقة المتبعة، بخلاف فتاويهم كقول عثمان رضي الله عنه بحد السفر الشرعي بما حُمل فيه الزاد والمزاد، ولدلالة النص على وجوب اتباع سنة الخلفاء الراشدين.
الإجماع اليقيني الذي يلي إجماع الصحابة رضي الله عنهم مرتبةً هو ما اشتهر وتقوى بنص ولو كان خفياً أو ظنياً.
ومن أمثلة إجماعات غير الصحابة رضي الله عنهم اليقينية التي فيها نصوص صريحة؛ وجوب الغسل من التقاء الختانين، وتحريم ربا الفضل، وتحريم الخروج على الأئمة الحارسين لأصل الدين؛ الشهادتين والصلاة، وذلك بالدعوة إليهما ومنع ما يضادهما من الكفر الصريح البواح وترك الصلاة.
ومع أن كثيراً من إجماعات غير الصحابة رضي الله عنهم ظنية؛ إلا أن الظن الغالب معمول به في الشريعة، فالإجماع الظني يُعمل به ما لم يخالف نصاً في المسألة، فإذا خالف نصاً فهو إجماع متوهم.
سبق أن الأصل في الإجماع أنه مبني على عدم العلم بقائل أو مخالف، ولكن الإجماع المحكي أقوى، فمجرد عدم العلم بقائلٍ دلالاته على الإجماع الظني أضعف، وكذا دلالة الإجماع السكوتي، وتصبح الدلالة في كل الأحوال يقينية بالقرائن.
ودلالة عدم العلم بقائل على مخالفة الإجماع أضعف من دلالة الإجماع السكوتي، لأن الإجماع السكوتي يُعلم قائل بمسألته غير أنه لا يعلم مُخالف له.
ودلالة كلٍ من الإجماع السكوتي وما لا يعلم قائل به تصبح يقينية بالقرائن، ومن القرائن كما سبق وجود نص ظني موافق لمقتضى الإجماع الظني، ومن القرائن السنة المشتهرة للحكومة الموحدة، ومن القرائن قوة مأخذ الحكم بالقياس.
فليس كل إجماع سكوتي مقدم على كل إجماع محكي، بل الإجماع السكوتي مع وجود نصوص صريحة أقوى من كل إجماع محكي مع نصوص ظنية.

لا يشترط انقراض عصر الإجماع

ولا يُشترط انقراض العصر لصحة الإجماع على الأرجح، ولكن الغالب في ثبوت الإجماع في ذات العصر أنه ظني، والمراد بانقراض العصر موت جميع المجتهدين الذين حدث بهم الاتفاق على أمرٍ شرعي.
ويتفرع على اشتراط انقراض العصر لصحة الإجماع؛ عدم صحة رجوع المجتهد عن قوله إلا بدليل أقوى من الإجماع الظني، والدليل الأقوى من الإجماع الظني هو النص ولو كان ظني الثبوت بسبب خلاف في صحته أو كان ظني الدلالة.

خلاف المبتدع

الأرجح أن خلاف المبتدع لا يخرق الإجماع، لأن مقصود الإجماع هو اتفاق كل من هو أهل للوصول إلى الحق على حُكم مسألة، والمبتدع متهم باتباع الهوى الذي يحجبه عن الحق، ولأن أصوله تخالف أصول أهل الحق.
ولا حجة في أن المبتدع من الأمة، فالعامي كذلك من الأمة ومع ذلك لا يُعتد بخلافه في المسائل الاجتهادية، ولفظ الأمة لم يرد في كل النصوص التي تدل على حجية الإجماع.
فأقوى ما يدل على حجية الإجماع الآيات، وكلها لم ترد بلفظ الأمة، وكلها تدل على خروج المبتدع من أهل الإجماع، فالمبتدع مخالف لسبيل المؤمنين الأوائل وليس متبعاً للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وليس من أولي الأمر.
وليس فيما سبق نقض لحديث إجماع الأمة، فقد ذهب العلماء إلى أن إجماع الأمة بمن فيهم العوام هو أقوى أنواع الإجماع، فلا شك أن اتفاق أهل البدع مع أهل الحق يقوي الإجماع القطعي، وهذا لا يتعارض مع اعتبار أن في غير ذلك من الإجماعات ما هو قطعي لأن القطع واليقين درجات.
والمبتدع هو من خالف في كلي من قواعد الإسلام كالمخالفة في إجماع الصحابة، أو خالف في جزئيات متعدِّدة تعود على كلي بالنقض، أو خالف في أمرٍ يعود على ركن من أركان الإيمان أو أركان الإسلام بالنقض كالمخالفة في أصول القدر أو أن دعاء غير الله شرك أكبر، أو خالف في أمرٍ ظاهر متواتر لا يجهله طالب علم في عصره ومصره.
ويلحق بأهل البدع من جعل بدعته الجزئية أصلاً عظيماً يوالي عليها ويعادي ويفرق بها جماعة المسلمين ويكفرهم بمخالفتها ويستحل بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم كما تفعل الخوارج، فإن فعل ذلك فهو من أهل البدعة والفرقة وليس من أهل السنة والجماعة.
فلا يعد مبتدعاً من خالف في جزئيات معدودة ولو تعلقت بأحد الأركان ما لم تعد عليه بالنقض، إلا إذا دلت القرائن على أن سبب المخالفة الهوى فقد يبدع صاحبها ولكن بشرط اعتبار المصالح والمفاسد المترتبة على تبديعه.

الإجماع بعد خلاف

القول الصواب في مسألة الإجماع بعد خلاف، أنه يُمكن وقوع إجماع بعد خلاف غير معتبر أو غير مستقر، ولا يمكن أن يقع إجماع بعد خلاف مستقر أو خلاف معتبر.
وقد استقر الإجماع بعد خلاف في زواج المتعة وربا الفضل والزواج بالكتابية والغسل من التقاء الختانين والخروج على السلطان الحارس لأصل الدين؛ الشهادتين والصلاة.

إحداث الأقوال

يجوز إحداث قولٍ لا يرفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين في المسألة.
ولافرق بين خلافٍ على قولين أو أكثر، لأنَّ المقصود عدم مخالفة ما أجمعوا عليه.
ومن أمثلة إحداث قول لا يخالف أقوال السابقين؛ القول بأن السفر الشرعي هو ما دل العرف على أنه سفر مع مظنة المشقة في الواجبات أو إيجاب التخفيف في النوافل أو الفتنة والخطر في المحرم لغيره، وذلك لأنه يجمع الأقوال التي حددت السفر الشرعي بالمسافة والزمن والوصف والعرف، وللمزيد؛ مدونتي » أحكام » حد السفر الشرعي.
ولا بأس بإحداث قول في مسألة لم يستقر فيها الخلاف، والخلاف في مسألة لا يستقر بعدم اشتهارها بين المجتهدين، لأن الإجماع لابد فيه من إجماع كل مجتهدي العصر، فلا يعد قول بعضهم فيها إجماعاً.
وقد لا يستقر الخلاف في المسألة لقرون طويلة، ومن أمثلة ذلك مسألة تختص بأماكن كان المسلمون فيها قلة أو لم يكن فيها علماء مجتهدون، وقد ذكرت من أقوال الفقهاء ما يدل على عدم استقرار الخلاف فيها في؛ مدونتي » أحكام » مواقيت الصلاة والصوم في شمال وجنوب الأرض.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (القول الثالث؛ أن ذلك القول الحادث بعد القولين إن لزم منه رفعهما لم يجز إحداثه وإلا جاز.
وروي هذا التفصيل عن الشافعي، واختاره المتأخرون من أصحابه، ورجحه جماعة من الأصوليين منهم ابن الحاج.
واستدلوا له بأن القول الحادث الرافع للقولين مخالف لما وقع الإجماع عليه، والقول الحادث الذي لم يرفع القولين غير مخالف لهما، بل موافق لكل واحد منهما من بعض الوجوه.
ومثل الاختلاف على قولين الاختلاف على ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك، فإنه يأتي في القول الزائد على الأقوال التي اختلفوا فيها ما يأتي في القول الثالث من الخلاف.
ثم لا بد من تقييد هذه المسألة بأن يكون الخلاف فيها على قولين أو أكثر قد استقر.
أما إذا لم يستقر، فلا وجه للمنع من إحداث قول آخر) [15].
مما سبق يعلم أن العبرة بعدم مخالفة الإجماع، يؤكده جواز الإحداث في المصالح المرسلة بشروطها، وذلك لأنها لا ترفع القول بجواز ما عمل السلف به، كإحداث العمل بحساب أوقات الصلاة، لأنه لا يرفع القول بجواز العمل برؤية العين لعلامات أوقات الصلاة.
وقد أجمع العلماء على جواز العمل بالحساب الفلكي لأوقات الصلوات، ومن اعترض من العلماء إنما اعترض لظنه عدم صحة الحساب لا لأجل الإحداث في المسألة.
قال القرافي المالكي رحمه الله تعالى: (وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلوات فإنه لا غاية بعد حصول القطع) [14]، للمزيد؛ مدونتي » أحكام » حساب وقتي العشاء والفجر.
ولدي مبحث حول حكم العمل بالحساب الفلكي للأهلة في؛ مدونتي » أحكام » الرؤية العلمية للأهلة الشرعية.

إجماع أهل البلدة

ولا يعد إجماع أهل بلدة إجماعاً شرعياً ملزماً إلا إجماع أهل المدينة في القرون المفضلة.
 قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أنَّ إجماع أهل مدينة من المدائن حجَّة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة، ولا الشام، ولا العراق، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين) [16].
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الاثنين 24 شعبان 1440هـ، 29 أبريل 2019م

المصادر

[1] صحيح الترمذي (٢١٦٧).
[2] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج11/ص341)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ / 1995م.
[3] السلسلة الصحيحة (١٣٣١).
[4] الرسالة للشافعي (ج١/‏ص٤٧١)، تحقيق؛ أحمد شاكر، مكتبه الحلبي، مصر، الطبعة الأولى، ١٣٥٨هـ/١٩٤٠م.
[5] مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (ج١/ص‏٤٣٩)، دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، الفيوم - جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى، ١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م.
[6] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص174)، تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م.
[7] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص175)، تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م.
[8] الرسالة للشافعي (ج١/‏ص٥٩٨)، الطبعة السابقة.
[9] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص174-175)، الطبعة السابقة.
[10] إعلام الموقعين عن رب العالمين(ج4/ص188)، الطبعة السابقة.
[11] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج1/ص24)، الطبعة السابقة.
[12] صحيح البخاري (٥٥٤٣).
[13] فتح الباري لابن حجر (ج١/‏ص٥٣٧-538)، دار المعرفة - بيروت، ١٣٧٩.
[14] أنوار البروق في أنواع الفروق (ج2/ص179)، عالم الكتب.
[15] إرشاد الفحول (ج1/ص229)، ت؛ عناية، الكتاب العربي، الطبعة الأولى.
[16] مجموع الفتاوى (ج20/ص299-300)، الطبعة السابقة.
pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق