المبحث الثالث؛ التقويم المنظم

سبق أن التعددية الحزبية السياسية تفضي إلى التنازع والفشل، وأنَّ تعددية التنوع والتضاد السائغ نافعة بشرط ألا تكون التعددية متنازعة على السلطة.
ولهذا ففي النظام التَّشْوَقِي يحق للناس إنشاء التجمعات المدنية كالثقافية والخيرية والدعوية والسياسية والخدمية والحقوقية، كاتحادات الطلاب والنقابات المهنية، وجماعات النصح السياسية.
ويسمح النظام التشوقي لهذه المنظمات المدنية بتنظيم الاحتجاجات السلمية المطالبة بالحقوق والمدافعة لظلم الأمراء ومنكراتهم بضوابط ومن غير نزع يدٍ من طاعة.
حمل الرعاة على الحق يكون أبلغ إذا كان عبر عمل منظم وكان وفقاً لأنظمةٍ ولوائح منصوص عليها في أنظمة البلد، خلافاً للجهود الفردية ضعيفة الأثر.
ولهذا فإن الأنظمة التَّشْوَقِيَّة السياسية قائمة على السماح للناس بتنظيم أنفسهم في منظمات مجتمع مدني خدمية وحقوقية وسياسية وسائر أنواع التخصصات.
ومن تلك المنظمات؛ النقابات واتحادات الطلاب التي يسمح لها النظام بالمطالبة بحقوق أعضائها والمطالبة بالسياسات النافعة لهم، ومنها جماعات النصح التي يسمح لها النظام بالضغط على صناع القرار لإجراء استفتاءات عامّة أو تخصصيّة حول رؤى سياسية ونحو ذلك.
ومن وسائل التقويم ما هو مباح كالمؤتمرات الصحفية المشهودة التي يغلب على الظن حضور السلطان فيها حُكماً، ومنها ما هو محرم في الأصل، ومنها ما يحرم لغيره، ويكون الحضور حُكمياً كذلك في الحملات الإعلامية المنظمة عبر المنظمات المدنية المسجلة.
ويُشترط في الضغط في المسائل الخفية ألا يُنكر فيها إلا أهل العلم بها سواءٌ كان ذلك في المعارف الدنيوية كالاقتصاد أو العلوم الشرعية، ويُشترط للإنكار العلني فيها كما سبق حضور السلطان مع تمكنه من الدفاع عن نفسه قبل أن يُطير نقده كل مطير.
التظاهر من إظهار أمر ما أو من مظاهرة الناس بعضهم بعضاً، فله طرق مختلفة، كالتظاهر بالوقوف، وبالوُسومات (الهاشتاقات) في وسائل التواصل الاجتماعي، وبالمسير في الطرقات، والمسيرات لا يمكن ضبطها غالباً.
فإذا لم يهدف التظاهر إلى إسقاط النظام وأمكن ضبطه جاز بشروط، كالذي يهدف إلى إقرار معروف أو إنكار منكر أو مطالبة بحق أو استفتاء على رأي.
وقد نص الشيخ العُثيمين رحمه الله تعالى في إحدى فتاويه على أن التظاهرات في البلاد التي تسمح بها ينظر فيما يترتب عليها من مصالحومفاسد.
وقد قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى في بداية كلامه بأن الأصل في التظاهرات في بلاد المسلمين الحُرمة، وعلل ذلك بما تشتمل عليه من محرمات وأضرار راجحة، وقال بجواز التظاهرات في بلاد الغرب، وذلك في؛ المرجع رقم [4]، ويمكن سماع كلامه في المقطع التالي أيضاً
والمظاهرات الثورية التي تطالب بإسقاط الأنظمة محرمة لأن ضررها ملازم لها في الغالب، وكل مظاهرة تؤدي إلى ثورة فهي محرمة لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
الإضرابات العامة فيها مخالفات شرعية؛ ففيها شيء من نزع يد الطاعة وإضرار بالاقتصاد وبغير الظالمين، بخلاف الإضراب الخاص، كإضراب عمال مزرعة بسبب ظلم صاحبها لهم، ففيه إضرار بصاحب المزرعة فقط، وعمل الأُجَراء هو مقابل الأُجرة، فيكون في إضرابهم معاملة بالمثل مع مطالبةٍ بحقوقهم، فيظهر أن الإضرابات العامة غير جائزة وأن الإضرابات الخاصة جائزة بقدر ما لحق بالمضربين من ضرر.
وليس في وسائل التقويم المباحة تشبه بالكفار إذ لا يُقطع بأن أصلها منهم لأن التعبير بوسائل مختلفة طبيعة بشرية، وعلى التسليم بأن أصلها من الكفار، فإن الوسائل النافعة لا تدخل في التشبه المحرم كما في حفر الخندق وتدوين الدواوين.
وقد أصبحت هذه الوسائل مشتركة، وقد نص العلماء على جواز المشترك وإن كان أصله من الكفار، وممن قال ذلك من المعاصرين؛ الألباني والعثيمين رحمهما الله تعالى، وللمزيد؛ قسم أحكام » مخالفة الكفار وترك مجالستهم.
المظاهرات التي ليس فيها مخالفة شرعية أو ضرر أعظم ليست من البدع، والمبتدَعة هي التي فيها مخالفة شرعية أو ضرر أعظم كالمظاهرات الثورية التي تطالب بإسقاط النظام، لضررها عموماً، ولمخالفتها النصوص التي أمرت بلزوم طاعة الأئمة المسلمين الحارسين لأصل الدين والصبر على جورهم ولزوم الجماعة ونهت عن نقض البيعة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليها أمرنا فهو رد) هو في جنس العمل، فيشمل العبادات والمعاملات، لأن عمل نكرة في سياق الإثبات فتفيد الإطلاق.
فيشمل الحديث المخالفة فيما أصله الإباحة أو الإرسال والإحداث فيما أصله التوقيف، ولهذا أدخلوا في البدع البدع العقائدية وكل ما هو مخالف للسنة.
وأما وأما المظاهرات من حيث هي إذا لم تشتمل على محرم أو ضرر أعظم فهي إما مباحة أو مصلحة مرسلة، فإن كانت وسيلة لمباح فهي مباحة، وإن كانت وسيلة لعبادة فهي من المصالح المرسلة، فهي مثل حفر الخندق، وحفر الخندق وسيلة في الجهاد، والجهاد عبادة.
ويشترط في المصالح المرسلة إما وجود مانع من فعلها أو عدم وجود المقتضي لفعلها في عهد الرسالة، ولكن هذه الشروط بالنسبة إلى عهد الرسالة والتشريع لا غيره.
ولو كانت شروط المصلحة المُرسلة نسبة إلى عهد السلف؛ لكان تنظيم المؤسسات العلمية الشرعية بالطرق الحديثة مبتدعاً، وكذا اتباع مناهج البحث الحديثة في البحوث الإسلامية، وكذا إنشاء التنظيمات الدعوية، ونحو ذلك.
وحول مشروعية إنشاء المنظمات الدعوية كتبتُ مقالاً في؛ مدونتي » إصلاح » حكم قيام جماعة دعوية.
قال ابن تيمية رحمه الله: (فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، لو كان مصلحة ولم يفعل، يعلم أنه ليس بمصلحة) [5].
وليس ثمة ما يدل على تخصيص نصح الأمراء بالعلماء، فمن المسائل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنها ما لا يخفى أنه ليس من قبيل الضرورات والحاجات كظلم الرعية، ومن المسائل ما قد يختص بالعلماء، كالمسائل الخفية والتي يتغير حكمها بضرورة أو حاجة، كبعض أحكام التعارض والتزاحم والنوازل.
فمن المسائل التي تقتضي الموازنة بين المصالح والمفاسد ما لا يقدرها إلى خاصة الخاصة، ومنها ما لا يُقدرها إلا الخاصة، ومنها ما يشترك في تقديرها الخاصة والعامة، قاله ابن أبي العز رحمه الله تعالى.
ووسائل التقويم المباحة قد تحرم لغيرها، فإذا ترتبت عليها مفسدة أعظم انتقل حكمها إلى التحريم، والضرر يكون غالباً في أوقات الفتن والثورات وعند وجود من يسعى لتحويل الوسائل المطلبية إلى ثورية.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإنَّ الأمر والنَّهي وإن كان متضمِّناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوِّت من المصالح أو يحصِّل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرَّماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة) [6].
وفي أيام الفتن والثورات قد يحرم ما يستحب في غيرها، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؛ (إنَّ بيْنَ يدَيِ السَّاعةِ لَفِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ يُصبِحُ الرَّجُلُ فيها مؤمنًا ويُمسِي كافرًا ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا القاعدُ فيها خيرٌ مِن القائمِ والقائمُ خيرٌ مِن الماشي والماشي خيرٌ مِن السَّاعي كسِّروا قِسِيَّكم وقطِّعوا أوتارَكم واضرِبوا بسيوفِكم الحجارةَ فإنْ دُخِل على أحَدٍ بيتُه فلْيكُنْ كخيرِ ابنَيْ آدَمَ)، رواه ابن حبان في صحيحه » ٥٩٦٢، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.

المصادر

[4] الموقع الرسمي للعلامة ابن عثيمين » لقاءات الباب المفتوح » 203 » حكم المظاهرات وتأثيرها في إنكار المنكر
[5] اقتضاء الصراط المستقيم (ج2/ص101)، تحقيق؛ ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة السابعة.
[6] مجموع الفتاوى (ج28/ص129)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد، المدينة النبوية، 1416هـ/1995م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق