المبحث الثاني؛ المطالبة والشدة

سبق أن الأصل الرفق والنصح سراً، والشدة طارئة ومُقيدة بالحاجة، وأنَّ الحاجة تُقدر بقدرها كالضرورة.
وإذا لم توجد آلية فيها شدة وضغط على الأئمة الذين لا يستجيبون للنصح بالرفق فإنهم يزدادون فساداً وتجبراً، وقد دلت النصوص وَوَرد عن السلف ما يدل على جواز الشدة على الأمراء. 
ويشترط للشدة على السلاطين ألا يتعدى ضررها الناصح إلى الدعوة أو إلى غير الناصح كزوجته وأولاده وألا يكون الضرر على الناصح في دينه كمن لا يطيق البلاء.
ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)، وحديث؛ (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) معنى الشدة لقوله: (فأمره ونهاه فقتله)، ولذا نجد في كلام بعض السلف شدةً في نُصح الأُمراء.
ومما ورد عن السلف من الشدة على الأمراء قول عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه لبشر بن مروان لما رآه على المنبر رافعاً يديه: (قبح الله هاتين اليدين) [1].
قال السفاريني رحمه الله: (قال الإمام الحافظ ابن الجوزي: الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو يا ظالم يا من لا يخاف الله فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء، قال والذي أراه المنع من ذلك) ...
إلى قوله رحمه الله تعالى (فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم فإنهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب) [2].
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى علتين للمنع من الشدة على الأمراء بعد عهد السلف، وهما؛ عدم هيبة السلاطين علماء الخلف، وأنهم قد لا يحتملون انبساط الأمراء عليهم؛ أي بسط الأمراء أيديهم بالتعدي عليهم.
وهاتان العلتان منتفيتان غالباً إذا كان نظام البلد تَشْوَقِيَّاً يسمح بالشدة على الأمراء والضغط عليهم، فالمصلحة قد تكون راجحة في هذه الحال.
ومن أمثلة الضغط المشروع ما نقله ابن كثير رحمه الله تعالى من نصح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى للسلطان الناصر في مصر بعد رجوعه عن مقاتلة التتار، وهو نصح فيه شدة وضغط في حضرة السلطان لا في غيابه.
فسافر شيخ الإسلام إلى مصر بطلب من نائب السلطان في الشام، فقال للسلطان: (إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن) [3].
وليس في المُطالبة بالحقوق معارضة للحديث المتفق عليه؛ (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم) لأنه مُبَيَّن بغيره من النصوص، ومن ذلك حديث؛ (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)، لما فيه من حث على مدافعة ظلم الأمراء، فقوله: (إمام جائر) يعني ظالم يظلم الناس ولا يفي بحقوقهم.
إنكار منكر الأمراء باليد من غير خروج عليهم ولا نزع يدٍ من طاعتهم محرّم لما يترتب عليه من ضرر أعظم من مصالحه الضرورية.
وأما ما ورد من إنكار منكر الأمراء باليد فهو في مثل عصر السلف لأنّ الأمراء كانوا يهابونهم مع غلبة الخير، فإنّ هيبة العلماء وعدل المجتمعات والأنظمة يمنعان الضرر بلا مصلحة راجحة.
فعليه يحمل قول النبي ﷺ: (سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولونَ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده)، رواه ابن حبان وصححه الألباني [1].
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: (وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود، وقال: هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله ﷺ فيها بالصبر على جور الأئمة.
وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نص على ذلك أحمد أيضاً في رواية صالح
) [2].
وعلى هذا أيضاً يحمل ما رواه مسلم؛ (أنه لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان تيسروا للقتال فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه خالد فقال عبد الله بن عمرو أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد) [3].
فإنّ حفظ النفس مقدّم على حفظ المال، والموت دون المال إنما هو لحث الغير على القتال دونه مع نيل الشهادة، فإن كان المُلك عاضاً أو جبرياً لم تتحقق مصلحة حث الغير على القتال، وكان ملك معاوية رضي الله عنه عدلاً.
قال ابن حجر رحمه الله: (والعامل المذكور هو عنبسة بن أبي سفيان كما ظهر من رواية مسلم، وكان عاملا لأخيه على مكة والطائف، والأرض المذكورة كانت بالطائف) [4].
فقد أخرج الطبري بإسناد صحيح؛ (أنّ عاملاً من عمال معاوية بن أبي سفيان أجرى عيناً من ماء ليسقي بها أرضاً، فأجراها حتى إذا دنا من حائطٍ يسمى الوهط لآل عمرو بن العاص، أراد أن يخرق الحائط ليجري العين إلى أرض له أخرى، فأقبل عبد الله بن عمرو بن العاص ومواليه بالسلاح، وقال: والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد، فقالوا: اتق الله، فإنك مقتول أنت ومن معك، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من قتل دون ماله مظلوما فإنه في الجنة)) [٥].
وأود التنبيه إلى ضعف أثر المصنف والمسند، وفيه أنّ معاوية رضي الله عنه أمر عامله أن يأخذ الوهط (حائط لآل عمرو بن العاص)، وفي الأثر الصحيح أن العامل أراد أن يخرق الحائط، وظاهره أنه أراد أن يفعل هذا بنفسه.
أما أثر مصنف عبد الرزاق [٦] فهو من رواية أبي قلابة وهو كثير الإرسال مع مخالفته الأثر الصحيح السابق.
قال ابن حجر رحمه الله عن أبي قلابة: (ثقة فاضل كثير الإرسال قال العجلي فيه نصب يسير) [7] .
وفي أثر المسند قال أهل العلم: (إسناده ضعيف، لإبهام الرجل من بني مخزوم وعمه) [8] .
وقد أنكر عامّة السلف قتال السلطان دون المال بعد ملك معاوية رضي الله عنه الذي كان ملكاً عدلاً.
قال ابن المنذر رحمه الله: (فإن جماعة أهل الحديث كالمجمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته: أنه لا يحاربه، ولا يخرج عليه) [9] .
وقال ابن سيرين في قتال الحرورية: (ما علمت أحداً كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثماً، ولا من قتل من أراد مالك إلا السلطان، فإن للسلطان لحقاً) [10] .
فإذا جاز بسبب القدرة والمصلحة الراجحة في عهد السلف إنكار منكر السلطان باليد وقتال عامله دون المال بشرط عدم نقض البيعة وعدم نزعٍ يدٍ من طاعة، فكيف بوسائل التقويم الحديثة المُباحة التي يسمح بها النظام والتي يُمكن ضبطها؟
والسلطات تشترط تصريحاً من الشرطة لوسائل التقويم، وتمنع الأنظمة التخريب والفوضى فيها.
ظلم السلاطين عقوبة على ظلم الناس بعضهم بعضاً، وسبب العقوبة يشمل ترك إنكار ظلم السلاطين، ففي الحديث الذي حسنه الألباني رحمه الله تعالى؛ (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)، وفي الحديث؛ (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)، صححه الألباني [11].
ولا تعارض بين الإيمان بأن الظلم عقوبة ومدافعته، فكما أن المريض يتداوى مع أن للمرض سبب شرعي وكوني، فكذلك مدافعة ظلم السلاطين مستحبة بالطرق المشروعة، ولكن لا يمكن رفع الظلم بمعصية كالخروج على السلطان المسلم الحارس لأصل الدين.
وحديث؛ (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) ليس في تحريم مدافعة الظُلم، وإنما في تحريم نزع يد الطاعة بسبب الظلم، ويستخرج من كلامٍ لابن حزم رحمه الله تعالى في الحديث أنه لو كان في تحريم مدافعة الظلم نفسه لكان فيه تحريم مدافعة سلطان أراد أن يفسق بحرم رجل، ولا يقول بذلك عاقل، ولكن ابن حزم رحمه الله تعالى أخطأ في تجويز الخروج للنصوص الصريحة ثم الإجماع.
فالمشروع هو مدافعة الظلم بالطرق الشرعية من غير منازعة الأمر أهله، ويدخل في تحريم المنازعة الظلمة والفسقة ما داموا مسلمين راعين لأصل الدين الشهادتين والصلاة.
وأما قول العلماء بأن الظلم لا يرفع بالسيف؛ فلأن المنازعة في الولاية به محرمة، وتحرم كذلك المنازعة السلمية بنزع يد الطاعة أو بنقض البيعة أو ترك لزوم الجماعة.
وحديث سيد الشهداء يدل على ضرورة مدافعة الظلم، فإن تعريض النفس للقتل لا يباح إلا لمصلحة راجحة، ولعل المصلحة الراجحة هي اقتداء الناس بمن يقول كلمة حق عند سلطان جائر، لأنه لا توجد مصلحة دنيوية للشهيد، ومصلحته إنما هي في الآخرة.
يقول اللّه عزَّ وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، قال ابن تيمية رحمه اللّه في هذه الآية: (وإن كان قتل النفوس فيه شرّ؛ فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفاسدين بالتزام أدناهما)، مجموع الفتاوى (ج28/ص513).
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بزعماء القوم في مكة، وإنما نهاه الله تعالى عن الإعراض عمن أقبل اهتماماً بالمعرض، وهو تقديم للمتوهم على المتيقن؛ {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ، أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ}، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ}، ولذا استمر في المدينة بإرسال الرسائل إلى الملوك والرؤساء لدعوتهم إلى الإسلام، لأن بصلاحهم يصلح الناس.
يستحيل عقلاً نفي خطر الأمراء في إفساد الرعية مع إثبات أهميتهم في إصلاحها، لأن الفساد والصلاح الضروري ضدان مثل النور والظلام، فيقل الظلام أو يزول بقدر حلول النور وقوته، سواءٌ في ذلك صلاح دين الرعية ودنياهم.
وفساد السلاطين بسبب فساد الناس لا ينفي أن يكون لفساد السلاطين أثر في فساد الناس.
وقد دلت التجارب على أن فساد الناس في الحقوق والواجبات يكثر مع ظلم السلاطين وتسلطهم.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس) [12]
ومن أسباب فساد الرعية في رعاية الحقوق بفساد السلاطين؛ كراهية الظلم الجبلية في الإنسان على نفسه ومن يحب، فيؤول الاجتماع والائتلاف إلى فرقة ونُفرة وتعطيل المصالح العامة المشتركة، والسلاطين قدوة إما حسنة أو سيئة للناس.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام) [13].
فالإصلاح واجب مشترك بين الرعية والرعاة، وكما يجب على الرعاة رعاية الدين وسياسة الدنيا بما يحفظ الدين ويحقق العدل والمصالح العامة، فكذلك يجب على الرعية نصح الرعاة وتقويمهم إذا أخطأوا، ويجب عليهم حملهم على الحق إذا لم يترتب على ذلك ضرر أعظم.

المصادر

[1] صحيح مسلم (ج2/ص595) » 874، كتاب الجمعة » باب تخفيف الصلاة والخطبة، تحقيق؛ محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر؛ دار إحياء التراث العربي، بيروت .
[2] غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (ج1/ص231)، مؤسسة قرطبة، مصر، الطبعة الثانية.
[3] البداية والنهاية لابن كثير ط السعادة (ج١٤/‏ص١٥).
[1] صحيح ابن حبان، صححه الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الموارد 1298، وقال أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح.
[2] جامع العلوم والحكم (ج2/ص248)، ت؛ الأرناؤوط وباجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة.
[3] صحيح مسلم » 141.
[4] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج2/ص123)، الناشر؛ دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ.
[5] تهذيب الآثار (ج٢/‏ص٧٩٤) - أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت ٣١٠).
[6] المصنف - عبد الرزاق (ج١٠/‏ص١١٤) - عبد الرزاق الصنعاني (ت ٢١١).
[7] تقريب التهذيب (ج١/ص‏٣٠٤) - ابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢).
[8] مسند أحمد (ج٦/ص‏٣٩٠) - أحمد بن حنبل (ت ٢٤١) - ت شاكر - ط دار الحديث.
[9] الإشراف على مذاهب العلماء (ج٧/‏ص٢٤٨) - ابن المنذر (ت ٣١٩).
[10] المصنف (ج١٠/‏ص١١٩) - عبد الرزاق الصنعاني (ت ٢١١) - ت الأعظمي.
[11] سنن أبي داود (4338)، واللفظ له، والترمذي (٢١٦٨)، وابن ماجه (٤٠٠٥)، وأحمد (٢٩) باختلاف يسير، والنسائي في السنن الكبرى (١١١٥٧)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح أبي داوود وفي صحيح الترمذي ٢١٦٨.
[12] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج28/ص394)، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.
[13] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج28/ص146)، الطبعة السابقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق