⏩النصح والتقويم ⏫محتويات الكتاب المطالبة والشدة⏪
المقصود بالنصح والإنكار العلني في هذا المبحث ما كان في حضرة المُنتَقد حقيقةً أو حُكماً، وذلك لأن من البدهيات أن نقد أي شخص في غير حضرته ليس بنصحٍ له ولا إنكارٍ عليه لاحتمال ألا يبلغه النقد أو أن يبلغه على غير وجهه.
والناس يُسمُّون كل نقد للأُمراء في المنابر العامة نصيحة وإنكاراً عليهم لظنهم وصول كل نقد على وجهه إليهم عبر العُيون والمُخْبرين، وهذا خطأ.
فوصول النقد إلى الأمراء عبر المُخبرين قد يكون ناقصاً أو بغرض الفتنة، وغرض المُخبرين غالباً جمع المعلومات ومتابعة المعارضين وليس نقل النقد إلى الأمراء.
الأصل الرفق واللِّين مع السلاطين وغيرهم مسلمهم وكافرهم، قال الله تعالى ذكرُهُ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا}، والشدة طارئة؛ {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني ناقص العقل)، وقيل هالك.
ومن الرفق بالمنصوح سواءً كان حاكماً أو محكوماً؛ نصحه سراً، لأن النصح على الملأ يعد تعييراً لا يرضاه أحد من الناس.
وإذا كان الرجل العادي يعد النصح في الملأ تعييراً؛ فمن باب أولى من تجب أن تكون له هيبة.
ومما يدل على أن السلطان أولى بالنصح سراً وبالرفق؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ (من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه)، رواه أحمد وابن أبي عاصم والحاكم، وصححه الألباني.
قوله: (بأمر) عموم يشمل ما لا يخص الأمير من الأمور العامة.
فالحديث خاص بالنهي عن إعلان نصح السلطان في حضرته، لما سبق من أنه لا يعد نُصحاً ما كان في غيبة المنصوح.
وتدل قاعدة إباحة المحرم لغيره للحاجة على جواز النصح والإنكار العلني عند الحاجة والتعذر، ويدل على ذلك أيضاً عموم الأمر بنصح ذي السلطان والإنكار عليه، ويدل على ذلك أيضاً فعل السلف.
أما قاعدة إباحة المحرم لغيره للحاجة، فإعلان النصح محرم لغيره كما هو ظاهر، وهذه القاعدة معلومة دلت عليها النصوص ونص عليها العلماء، ولا ضرر في ذات ما حرم لغيره، فدل ذلك من جهة المعقول على إباحته للمصلحة الراجحة.
ولعل أفضل تعريف للحاجة هو أنها حالة الافتقار إلى تحقيق مصلحة غير ضرورية لا غنى عنها أو دفع مشقة أو رفعها.
والمحرم لذاته لا يباح إلا لدفع أو رفع ما هو أضر منه، وهذا ما يسمى بالضرورة وهي فعولة من الضرر.
للمزيد حول الحاجة والضرورة وشروطهما؛ مدونتي » قواعد وأصول » الاضطرار والاحتياج.
وأما عموم الأمر بنصح ذي السلطان والإنكار عليه ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)، وقوله؛ (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
ففي هذين الحديثين عموم بنصح السلطان وقول كلمة الحق بالإنكار عليه في السر والعلن في حضرته، وذلك لقوله: (عند) و (قام إلى إمام) اللتان تدلان على حضرة السلطان.
وقد تعارض هذا العموم مع خصوص حديث الأمر بإسرار السلطان بالنصح والنهي عن الإعلان مطلقاً.
والتحقيق في تعارض الخاص والعام أن الخاص يخصِّص العام إذا كان الخاص ظاهراً في خصوص الحُكم أو لم يترجَّح عموم العام.
فإذا لم يكن الخاص ظاهراً في الخصوص أو ترجح العام فيُرجح الخاص مع إبقاء العمل بالعموم في حالاتٍ خاصة، فيبقى الخاص مرجَّحاً على العام ما أمكن العمل به أو ما لم يترجَّح العموم بالنظر إلى الحال.
وذلك لأن ترجيح الخاص مطلقاً في حال عدم ظهور خصوصه أو رجحان العام يُفضي إلى ترك العمل بعموم العام الراجح.
وعموم الأمر بالإنكار على السلطان الجائر يترجح بقاعدة تقديم جنس فعل المأمور به على جنس ترك المنهي عنه، والأحاديث في معنى الأمر لما فيها من ذكر فضل الإنكار عليه فدلت على الندب، ولا يخفى أن الإنكار قد يتعيَّن.
فيترجح أن النهي عن إبداء نصح السلطان متعلق بإمكان نصحه سراً أو بما يترتب على الإعلان من مصالح ومفاسد، ويبقى النهي عن الإعلان للتحريم لغير حاجة، ويتأكد رجحان المفسدة أوقات الفتن وفي المسائل الخفية في التجمعات التي يكثر فيها الدهماء والغوغاء كالحج.
ورجحان المصلحة يكون حسب نظام البلد مع مراعاة البدء بالنصح سراً لأنه الأصل، وبشرط ألا يُتخذ إعلان النصح عادةً بأكثر مما تقتضيه المصلحة الراجحة، وذلك لأنَّ الحاجة تقدر بقدرها كالضرورة.
تقدم أن النصح والإنكار على المُنتقد لا يسمى كذلك إلا في حضرته حقيقة أو حكماً، والمقصود بالحضور الحُكمي ما كان عبر الوسائل التقنية الحديثة.
ويكون الحضور حكمياً في الأمور الخفية؛ إذا تمكن السلطان من المشاركة والتعليق فيه عبر الوسائط الحديثة، وذلك ليتمكن من الدفاع عن نفسه في نفس المجلس، لكيلا يطير نقده كل مطير قبل التحقق منه ودوافعه.
فاشتراط تمكن المُنتقد من المشاركة والتعليق في الأمور الخفية عدلٌ وإنصاف، لاحتمال أن يكون مفترىً عليه، أو أن يكون له تأويل سائغ، أو أن يكون له سبب شرعي في فعل محرم في الأصل أو ترك واجب في الأصل كاعتبار أخف الضررين أو عدم القدرة على فعل واجب، إضافةً إلى سد الذرائع ودرء الفتن.
وأما في الأمور الجلية، فيشترط حضور السلطان الحكمي عبر الوسائط الحديثة ولو لم يتمكن من المشاركة والتعليق، ولكن بشرط أن يصله النقد على وجهه بيقين أو ظن غالب.
من أمثلة الحضور الحُكمي في الأمور الجلية؛ المؤتمر الصحفي المشهود، لأن السلطان يحضره عبر الوسائط الحديثة، ومن أمثلته؛ الحملات الإعلامية المنظمة عبر المنظمات المدنية المسجلة.
وفائدة اشتراط أن يكون النقد عبر منظمة مسجلة هي تسهيل محاكمة مروجي الشائعات، فإن إطلاق الإذن بالنقد العلني يجعل مُحاكمة مروجي الشائع حبر على ورق كما يُقال.
ولا فائدة في نفي الشائعات غالباً بعد أن يطيرها كل مطير وتمكنها من القلوب النافرة، وغالباً ما لا يصل نفي الشائعات إلى جميع من وصلته الشائعات أو يصل نفيها ناقصاً غير وافٍ بالغرض.
واعتبار الحضور الحُكمي كالحقيقي هو من باب إلحاق فرع بأصل، والعلة الجامعة هي وصول النصح إلى المنصوح على وجهه مع قدرته على الدفاع عن نفسه في نفس المجلس في الأمور الخفية وفي غيره في الأمور الجلية، وهذا وصف منضبط وظاهر ومناسب، فتحققت فيه شروط العلة.
إطلاق الشيخ العثيمين رحمه الله القول بأن نصح السلاطين علناً مُعلق بما يترتب عليه من مصالح ومفاسد يُحمل على حالة حضرة السلطان، لما تقدم من أن النقد في غياب المُنتقَد ليس نصحاً له ولا إنكاراً عليه وإن سماه الناس كذلك، وقد نص الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى على أن الأصل النصح سراً بقوله: (والواجب أن نناصح ولاة الأمور سراً كما جاء في النص).
النقد أشمل في المعنى من النصح والإنكار، والنصح عام يشمل إنكار المُنكرات، فالنقد في غير حضرة المُنتقد غيبة لا يستثنى من تحريمها إلا حالات جمعها بعضهم في ستٍ، يدخل الأمراء في بعضها، كالتظلم عند القاضي، أو مناقشة الأمير علمياً إن أفتى في مسألة شرعية.
فإذا تبين بصريح المعقول أن النقد في غيبة المُنتَقد ليس نصحاً ولا إنكاراً عليه، فما فائدة نقد السلاطين في المنابر العامة في غيبتهم غير التشهير والإثارة أو مجرد التشكي؟
أما الإثارة على السلاطين المسلمين الحارسين لأصل الدين فمحرمة، وأما التشكي فما فائدته؟
الناس منذ القدم يحبون نقد الأمراء لما يقع عليهم من ظلم أو إهمال، وانتشر النقد أكثر مع انتشار وسائل الإعلام الحديثة لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي.
وكثير من قادة المعارضة أصحاب أغراض شخصية إما حباً في الشهرة أو منافسةً وطلباً للسلطة، وبعضهم أشد فساداً من الأمراء، وقد لا يتحرون الصدق في نقدهم، بل قد يتعمدون الكذب لإثارة الناس وتهييجهم.
ولعل إيراد ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى حديث النهي عن نصح ذي السلطان علناً في كتاب السنة هو للإشارة إلى النهي عن نقده في المنابر العامة إثارةً للناس للخروج عليه، لأن الناس يُسمُّون كل نقد علني نصيحة وإنكاراً، لظنهم وصوله على وجهه إلى السلطان عبر المُخْبرين.
فطريقة العلماء من السلف والسابقين واللاحقين في كتب العقيدة والسنة إيراد ما خالف فيه أهل البدع، لأن المقصود بالسنة هنا ما يقابل البدعة.
فالإثارة على السلاطين بنقدهم في المنابر العامة في غير حضرتهم حقيقة أو حكماً خروج بالقول محرم، وذلك لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، فوسيلة المحرم محرمة.
والمحرّمات متفاوتة ما بين موبقات وكبائر وصغائر مع تفاوتها في كلّ قسم، والمحرّم تحريم وسائل أخفّ من المحرّم لذاته، ولكن الوسيلة تأخذ حكم المقصد من حيث الحرمة والكراهة والوجوب والندب والجواز.
وحتى لو كان رئيس البلاد كافراً أو لا يحرس أصل الدين فإن الثورات الجماهيريّة مغامرة لا تُعرف نتيجتها، بل غالباً ما يكون ضررها أعظم، لأنّ قادة الجيش الذين قد ينحازون لعامّة القوم غالباً ما يكونون من جنس النظام المخلوع فساداً أو فسقاً أو كفراً.
ونقد السلاطين الحارسين لأصل الدين في أيام الفتن والثورات حتى ولو كان في حضرتهم تطير به الغوغاء والدهماء ويستغله المنافقون والزنادقة وأعداء الملة والأمة.
وقد قيل لأسامة بن زيد رضي الله عنه: (ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وأيام الفتن لها حكم خاص، فقد دلت النصوص على أنه قد يحرم فيها ما يُستحب في غيرها، بل نص العلماء على أن الواجب قد يحرم بناءاً على ما قد يترتب عليه من مفاسد راجحة في بعض الأحوال.
وممن أفتى بأنَّ التشهير بعيوب ولاة الأمور في المنابر العامة مخالف لمنهج السلف الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، انظر؛ الموقع الرسمي لسماحة الإمام ابن باز » منهج السلف في نصح الولاة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق