إفسادا بني إسرائيل

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

إفساد بني إسرائيل الأول

قال الله تعالى ذكره: ﴿وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا ۝ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا ۝ ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا ۝ إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا ۝ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا ۝﴾ [الإسراء : ٤-٨].
القضاء هنا الإعلام لِصيغة المخاطبة؛ {لَتُفْسِدُنَّ}، قاله الطبري رحمه الله تعالى.
يظهر لي أن الإفساد الأول هو الحالي، وذلك للآتي؛
١. نون التوكيد تُخصص المضارع للاستقبال في: {لَتُفْسِدُنَّ}.
فإن قيل هو استقبال بالنسبة إلى القضاء، فيقال؛ لو كان كذلك لانتقل اللفظ من المستقبل إلى الماضي بأسلوب بياني بديع.
ولكن ما بعده؛ {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} يدل على المستقبل أيضاً، لأن إذا أداة شرط تدل على المُستقبل، ولو كان الخبر عن ماضٍ لكان بأداة شرط تدل عليه مثل لمَّا، كما في قول الله تعالى ذكرُهُ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف : ٥٥].
ومن أمثلة الانتقال من المُستقبل إلى الماضي قول الله جل ثناؤهُ: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧)} [الحجر : ٦٦-٦٧]
وأما قوله تعالى ذكرُهُ: {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا}، فمثل هذا في القرآن لتأكيد وعد مستقبل.
وكل ما في الآيات من صيغة الماضي فهو إما نسبي كمثل؛ {كَمَا دَخَلُوهُ} فهو نسبة إلى الدخول الثاني، أو لتأكيد الوقوع كمثل؛ {بَعَثْنَا}، {فَجَاسُوا}، {رَدَدْنَا}، {وَأَمْدَدْنَاكُم}، {وَجَعَلْنَاكُمْ}، ويجب أن يحمل الماضي على ذلك وإلا كان مناقضاً لدلالة المستقبل في حدوث الإفسادين.
٢. من يسلطهم الله تعالى على بني إسرائيل في الإفساد الثاني هم ذات من يبعثون عليهم في الأول، وذلك لقوله تعالى: {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فلزم أن يكونوا هذه الأمة.
فالآيات في سياق الخبر عن أمة واحدة مقابل بني إسرائيل، وذلك لعودة الضمير في؛ {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} إلى من يسلطهم الله تعالى على بني إسرائيل بعد الإفساد الأول، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور.
فيكون تقدير جواب الشرط المحذوف؛ (بعثناهم عليكم ليسوؤوا وجوهكم) بعد فعل الشرط؛ {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ}، ويكون بذلك مرجع الضمائر واحداً غير متعدد.
٣. نسبة فعل تسليط العباد على بني إسرائيل إلى الله تعالى قرينة تدل على أن إضافة العباد إلى الله تعالى إضافة تشريف؛ {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا}، وذلك لأن الشر لا يُنسب إلى الله تعالى، وفي الحديث؛ (والشر ليس إليك).
قال السيوطي: (وقيل: هم قوم مؤمنون، بدليل إضافتهم إليه) [١].
وأما التدمير في قوله تعالى: (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)، فلعله تدمير خاص معاملةً بالمثل كتدمير بيوت بني إسرائيل لتدميرهم بيوت المسلمين.
وكذا الجوس خلال الديار، والجوس يعني الذهاب والإياب، وفي السياق والمعنى اللغوي دلالة على أنه جوس مع قتل معاملةً بالمثل.
٤. لابد أن يكون للإفسادين خصوصية، إذ لابد للعدد من معنىً، ولا تبدو خصوصية في قتل زكريا أو أشعياء ويحيى عليهم السلام، فقد تكرر قتلهم الأنبياء.
والمعدود المباشر هو الإفساد لا العقوبة، وفي هذا دلالة على أن الخصوصية في الإفسادين وليست في العقوبتين إلا تبعاً.
يؤكد أن الخصوصية في غير ما مضى من إفساد؛ أن النصوص تدل على أن عقوبتهم في آخر الزمان أشد مما ورد في الروايات التاريخية، ومن ذلك أن الشجر والحجر يتكلم ويدل المُسلمين على مكان اليهودي لقتله.
وإذا صح أن قتل يحيى عليه السلام تقرباً لبغي فيه خصوصية وكذا قتل أشعياء، ففي المسألة غير  الخصوصية من أدلة المراد بالإفسادين.
مع أن الإفساد يرد في القرآن بذكر الأرض مراداً بها الخصوص، إلا أنه يُحمل هنا على ظاهر معناها، لانتفاء خصوصية الإفساد بغير ذلك، فلا وجه لحمله على أرض مصر أو الشام أو كليهما.
٥. ويصحب الإفساد خصوصية العلو الكبير، ولم يوصف علوهم بأنه في كل الأرض كإفسادهم، وهذا يطابق حالهم اليوم، فلا تزال كل دولة يحكمها أهلها، ولكن القرارات الصهيونية مؤثرة في كل دولة بسبب هيمنتها على القرار العالمي، فهو علو محدود ولكنه كبير.
ولا علم لي بالإفساد الثاني، ولكن قد تقع بينهما أو بعدهما إفسادات أقل أثراً، لقوله تعالى: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}، فإفساد بني إسرائيل مستمر إلى أن يقاتلهم المسلمون مع عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان.
وقرب الساعة منذ البعثة لا يُنافي أنها قد تكون بعد آلاف السنين، فقد يكون عمر البشر بالملايين، وقد سمعت في وثائقية بالإنجليزية أن الصحراء تعود مروجاً وأنهاراً كل عشرة آلاف سنة، وأن آخر مرة كانت كذلك قبل حوالي خمسة إلى ستة آلاف سنة.
وفي الحديث؛ (لا تَقُومُ السّاعَةُ حتّى تَعُودَ أرْضُ العَرَبِ مُرُوجًا وأَنْهارًا صحيح مسلم ١٥٧ .
وأما أن بني إسرائيل يكونون أكثر نفيراً بين الإفسادين؛ فالمعنى عدد من ينفر منهم، قال الطبري رحمه الله تعالى: (وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم) [٢]، والنفور سببه الكراهة، فإذا كان مِنْ فهو ابتعاد، وإذا كان إلى فهو اقتراب مع كراهة.

الإجماع في إفسادي بني إسرائيل

تطابق كتب التفسير في مسألة إفسادي بني إسرائيل ليس إجماعاً، وهذا يعود إلى عدم استقرار إجماع أو خلاف في مسألة.
وعدم استقرار خلاف في مسألة يكون في المسائل الفقهية بعدم اشتهار المسألة بين المُجتهدين، وذلك لأن قول بعضهم فيها ليس إجماعاً.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى في مسألة إحداث قول على قولي السابقين: (ثم لا بد من تقييد هذه المسألة بأن يكون الخلاف فيها على قولين أو أكثر قد استقر، أما إذا لم يستقر، فلا وجه للمنع من إحداث قول آخر) [٣].
وأما في مسألتنا هذه؛ فمع اشتهار المسألة إلا أن ثمة قرائن تدل على أن الإجماع فيها لم يستقر، وهي؛ أن العلماء يعرضون عن الحديث في المسائل التي لا يترتب عليها حُكم علمي ولا عملي، وأن من تكلم فيها من السلف تكلم باجتهاد بناءاً على نقولات من الإسرائيليات، وأما تطابق كتب التفسير فيها، فهو من باب نقل العلم وليس الحكم في المسألة.
وما كان كذلك من الإجماعات فهو ظني لا تجوز مخالفته بدليل أدنى منه كالقياس، فترتيب الأدلة في المسائل الظنية الدقيقة هو الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس.
فتقدم معاني النصوص على مثل هذا الإجماع الذي لم يتقو بنص ولو كان ظني الدلالة.
ودلالات الألفاظ في الآيات في مسألة إفسادي بني إسرائيل تخالف ما نقل في كتب التفسير.
فإن قيل؛ فلِمَ الكلام فيما يُعرض عنه أكثر العلماء؟ فجوابه؛ أسوةً بمن تكلم فيه، ولأن الوضع الحالي يُعين على فهم المراد ويحمل على الكلام توقاً للنصر.
وقول الطبري رحمه الله تعالى أنه لا اختلاف بين أهل العلم في أن الإفساد الثاني هو قتل يحيى عليه السلام يعني اتفاق من أوَّل الإفسادين من العلماء.
وحبذا الرجوع في مسألة الإجماع إلى؛ مدونتي » قواعد وأصول » الاتباع في دليل الإجماع.
وما نقل في كتب التفسير مظنة رجحان على وجه التقليد أو الاحتياط، وأما على وجه الاستنباط أو اتباع الحجة ومع التأني وتقليب النظر، فالرجحان بالحجة والبرهان فيما ليس فيه نص صريح ولا إجماع قوي.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة، والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة، قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة) [٤].
وحول أهمية الاستنباط أنقل التالي من؛ مدونتي » قواعد وأصول » باب الاجتهاد مفتوح إلى يوم القيامة.
قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى: (فلذلك ينبغي لطالب العلم، كما أنه يمرن نفسه على كثرة المطالعة وقراءة الكتب، ينبغي أيضاً أن يمرن نفسه على الاستنباط من الأدلة، وكم من دليل واحد دل على مئات المسائل بحسب فهم الإنسان، فالذي يرزقه الله فهمًا يستغني بذلك عن نصوص كثيرة لا يحتاج إلى أن يجهد نفسه لتحصيلها ومطالعتها) [٥].
وقال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: (وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. والحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها.
وإن لم يكن فيها نص ولا أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم) [٦].
وغَلْقُ باب الاجتهاد يؤدي إلى التقليد المذموم الذي يؤدي إلى التعصب وتقديس أقوال الرجال، ومن آثار غلق باب الاجتهاد عزوف الناس عن أهل العلم والباحثين المستمسكين بمنهج السلف وتعلقهم بالمفكرين.
ومسألة إفسادي بني إسرائيل لا يترتب عليها حكم عملي ولا علمي إلا إذا ثبت أن الإحداث فيها مخالف للإجماع.
وأسأل الله تعالى أن يثبتنا على اتباع سبيل المؤمنين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، خالدين فيها، ذلك الفوز العظيم.
هذا، والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الخميس ٨ شعبان ١٤٤١هـ، ٢ أبريل ٢٠٢٠م

المصادر

[١] مفحمات الأقران في مبهمات القرآن (ص٦٥)، تحقيق؛ الدكتور مصطفى ديب البغا، مؤسسة علوم القرآن، دمشق – بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٣ هـ - ١٩٨٢.
[٢] تفسير الطبري(ج١٤/ص ٤٧٧)، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الإسلامية بدار هجر - الدكتور عبد السند حسن يمامة، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، ١٤٢٢هـ - ٢٠٠١م.
[٣] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج٢/ص١٧٥)، تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، ١٤١١هـ - ١٩٩١م.
[٤] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (ج١/ص٢٢٩)، ت؛ الشيخ أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى ١٤١٩هـ - ١٩٩٩م.
[٥] تفسير سورة النور ص ١٢٢، مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية، الطبعة الأولى، ١٤٣٦هـ.
[٦] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج٤/ص١٧٠): تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، ١٤١١هـ - ١٩٩١م.
  
pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق