تعويم الجنيه

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اقتفى أثرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

المحتويات

  1. الثقافة الاقتصادية
  2. ما هو تعويم الجُنيه؟
  3. الحل الحقيقي لأزمة الجنيه
  4. قيمة الأثمان
    • الاتجار بالنقدين
  5. العرض والطلب
  6. تسعير السلع والخدمات
  7. أسباب الأزمة
  8. الفرق بين العملات والمنتجات في العرض والطلب
  9. تعويم الجنيه
  10. أثر التعويم على المواطن
  11. الدولار الجمركي
  12. الاحتياطي والتوازن التجاري
  13. التحليل السليم
  14. التأثير المتبادل للاحتياطي والجنيه المعوَّم
  15. الاتجار بالعملات
  16. الميزان التجاري
    • التوازن والعجز التجاري
    • تأثير قيمة العملة في الوارد والصادر
    • عرض وطلب العملة المحلية المصاحب للصادر والوارد
    • الأثر المتبادل للتعويم والميزان التجاري
    • ترشيد الاستيراد والتصدير
  17. تأييد أمريكا لإعلان المصرف المركزي
  18. المساعدات الخارجية

الثقافة الاقتصادية

ليس كل الناس مبدعون في الفن، ولكن الجميع يميز بين الإنتاجات الفنية ويرى جمالها.
وليس كل الناس أطباء، ولكن كل الناس لهم قدرة على التمييز بين الطبيب الماهر وغير الماهر.
وليس كل الناس مختصون في السياسة، ولكن كلهم يستطيع معرفة أن بعض الأطروحات السياسية أفضل من غيرها كمباديء وكواقع عملي مجرب.
فكذلك كثيرٌ من غير المُختصين يستطيعون التمييز بين الآراء الاقتصادية إذا كان لهم قدرٌ من الثقافة الاقتصادية، فكثيراً ما تختلف آراء المختصين.
والحلول الاقتصادية الصحيحة كثيراً ما تصطدم بمعارضين من مختصين وغير مختصين في موقع القرار، إضافةً إلى معارضين من عامة الشعب.
والأحزاب المعارضة تستغل جهل عامة الشعب للتهييج والإثارة، وقد تستغل جهل بعض صناع القرار لإحباط الحلول الاقتصادية الناجحة.
وكثيرٌ من الخبراء يرون أن الاقتصاد والسوق والاستثمار والتجارة ليست علماً لمختصين بقدر ما هي معرفة قليلة محدودة ثم خبرة تكتسب بالممارسة مع قدرة طبيعية على التحليل السليم.
وتبقى أهمية التخصص لجمع المعلومات المتجددة والقدرة على تحليل الأرقام باستخدام الآليات الرياضية كالتفاضل والتكامل أو البرامج المختصة، وكل هذا يحتاج إلى خبراء ومختصين يتفرغون لجمع الملعومات وتحليلها.
ولذا لابد من التثقيف الاقتصادي لا سيما للمهتمين، وللمزيد حول مفاهيم اقتصادية أساسية؛ من أجل تيسير فهم الأزمة الاقتصادية العالمية.

ما هو تعويم الجُنيه؟

أساس مصطلح التعويم تاريخياً هو رفع التغطية بالمعادن الثمينة عن الأثمان الاسمية، وبالتالي؛ اكتساب قيمة العملات من العرض والطلب فقط، وكانت قيمتها ثابتة نسبياً بالتغطية.
والتعويم بهذا المعنى مضر لما فيه من ظلم وإضرار، ومن ذلك أن بناء قيمة الأثمان على مجرد العرض والطلب يعرض قيمتها للتذبذب في أسعارها المقابلة لبعضها.
والأثمان معايير، والأصل في المعايير التوافق عليها والثبات، كالمتر مقياساً للطول، وفي تغير قيمة الأثمان الحقيقية مقابل السلع والخدمات مصالح راجحة لأنه تغير متعلق بالإنتاج.
وفي مبحث قيمة الأثمان مزيد بيان لضرر التذبذب في قيمة العملة المحلية انخفاضاً أو ارتفاعاً مقابل العُملات الأجنبية.
ولكن وبما أن المتبع حالياً في العالم ومنذ عقود هو تقييم السلع والخدمات بأثمان اسميه غير مغطاة، فلابد من الكلام عن التعويم بالمعنى الجديد المُقابل للتسعير.
وذلك لبيان أن التعويم المرن المُدار - بالمعنى الجديد للتعويم - هو أخف الضررين في ظل هذه الظروف غير الصحية، ومن أوضح الأسباب أن التسعير لا يُبنى على شيء خلافاً للتعويم  المبني على العرض والطلب.
ولم أكن أود تعريف التعويم لولا ما حدث من لبس في سياسة المصرف المركزي الجديدة، وذلك لأن تعريف المعلوم يُطيل العبارة وقد يُبعد الإشارة.
مجرد وضع قائمة أسعار ليس تسعيراً، فأصغر التجار له قائمة أسعار معلومة بالمشافهة أو الكتابة.
تعويم الجنيه هو وضع أسعاره مقابل العملات الأجنبية حسب مؤشرات العرض والطلب.
والتسعير مقابل التعويم، فهو وضع أسعار الجنيه من غير اعتبار مؤشرات العرض والطلب.
والتسعير إما خالص أو مُدار، والتعويم كذلك.
فيُمكن تقسيم سياسات الصرف التي تنتهجها المصارف المركزية في الدول النامية إلى أربع سياسات، وهي؛
1. التسعير الخالص.
2. التسعير المُدار، وهو تغيير سعر العملة المحلية الرسمي بالتدرج بغرض إيصاله إلى سعر السوق المُوازي.
3. التعويم الخالص.
4. التعويم المُدار، وفيه تتدخل الدولة عند الحاجة عبر مصرفها المركزي لتوجيه أسعار الصرف من خلال التأثير في حجم العرض أو الطلب على العملات الأجنبية.

الحل الحقيقي لأزمة الجنيه

في عهود الملك الجبري في بلاد المسلمين كانت الدنانير ذهبية والدراهم فضية لتقييم الأشياء الثمينة، وكان لا بد من الفلوس النحاسية لتقييم الأشياء الرخصية.
فالفلوس التي ذكرها الفقهاء كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى كانت تسك من النحاس، وذلك لأن المحقرات لا يمكن أن تُشترى بالدرهم الفضي أو الدينار الذهبي، فلا يمكن مثلاً شراء كوب قهوة بدرهم فضي أو دينار ذهبي.
الصحيح تغطية المعاملات الرقمية والورقية بسك جنيهات ذهبية تحفظ في المصارف، وتطبع جنيهات وقروش وملاليم ورقية للتداول.
وكانت الحُكومات تغطي عملاتها بالذهب، ثم رفعت أمريكا التغطية عام 1971م، وبالتالي أصبحت قيمة الدولار تعتمد على مجرد العرض والطلب المحلي والعالمي عليه فيما عُرف بتعويم الدولار، وبعد أمريكا توالت الدول على رفع التغطية.
وفي الجنيه الورقي مائة قرش، وفي القرش عشرة ملاليم، فإذا كانت قيمة الجنيه أربعة جرامات؛ فإن قيمة القرش أربعين ملجم وقيمة المليم أربعة ملجم.
ويتعهد المصرف المركزي بدفع المبلغ الحقيقي (الجنيهات الذهبية) عند الطلب لحامل السند الورقي، وذلك للتأكد من عدم زيادة الدولة طباعة الأوراق دون تغطية كافية مع ضمانات أخرى مناسبة.
وذلك لأن زيادة طباعة الأوراق النقدية يُنقص قيمتها، فإذا افترضنا أن مصرفاً مركزياً لقرية صغيرة جمَع من أهل القرية 500 جرام من الذهب، لحفظها من السرَّاق وقطاع الطرق، فإذا طبع المصرف 500 ورقة، فإنه يستطيع أن يدفع مقابل كل ورقة 1 جرام من الذهب، وأما إذا طبع 1000 ورقة، فإن قيمة الورقة الواحدة تكون نصف جرام.
فرواج الأوراق النقدية دون تغطية ظلم للناس، وكذا تغطيتها دون شفافية وآليات تضمن عدم تغيير قيمتها بالطباعة، وذلك لأن طباعة المزيد منها ينقص قيمتها، والدولة تتملك العملات الزائدة بالطباعة، وفي هذا سرقة لأموال الناس.
فقد تلجأ الدولة للطباعة لسد نقص في ميزانيتها، أو بسبب غلاء العملة المحلية مقابل الأجنبية المُضر بالصادر، أو بسبب مزيد طلب محلي وعالمي على عملة البلد المحلية، أو لضخ أموال في السوق لتحريكه عند الأزمات.
وإذا تمت تغطية كل العُملات العالمية بالذهب فإن قيمتها تصبح ثابتة نسبة إلى بعضها مهما تذبذبت قيمة الذهب العالمية باحتكار أو غيره من المعاملات غير الشرعية، وهذا هو المطلوب في الحفاظ على صادر ووارد كل بلد.
وأما في حال ما إذا كانت الدول المغطية لعملاتها قليلة فإن التلاعب بقيمة الذهب والفضة بالاحتكار له حدود وفيه صعوبة، فهي معادن فيها ندرة بطبيعتها، ومناجمها الطبيعية موزعة في عدد من الدول، وكثيرٌ من الدول في حاجة ماسة لبيعها عالمياً، بخلاف العملات الاسمية التي يسهل التلاعب بقيمتها.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم; من غير ظلم لهم. ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً; بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها; بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه; للمصلحة العامة ويعطي أجرة الصناع من بيت المال. فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل؛ فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضاً وضرب لهم فلوسا أخرى: أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها. وأيضا فإذا اختلفت مقادير الفلوس: صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس) [1].

قيمة الأثمان

قيمة الدنانير الذهبية والدراهم الفضية حقيقية لأن قيمتها تبقى بعد إلغاء السك، وأما العملات فقيمتها اسمية، لأن قيمتها تصبح صفراً بتغيير العُملة.
تعتمد قيمة العملات غير المغطاة اعتماداً كاملاً على العرض والطلب مثل السلع والخدمات، والفرق هو أن العملات لا قيمة لها في ذاتها، بينما الخدمات والسلع بما فيها المعادن الثمينة لها قيمة حقيقية في ذاتها.
يمكن إغراق السوق بالأثمان الاسمية (العملات) بزيادة طباعتها حقيقة أو تزويراً أو بزيادة عددها رقمياً في المصرف المركزي، وبالتالي يزيد العرض على الطلب زيادة غير حقيقية لعدم ارتباطها بالإنتاج.
ولا يمكن إغراق السوق بالأثمان الحقيقية  لأن سك المزيد منها يعتمد إما على اكتشاف مناجم ذهب وفضة (إنتاج) أو بشراء الذهب والفضة، ولا يمكن الشراء إلا بزيادة الإنتاج (نمو اقتصادي حقيقي).
لهذا السبب لا تتغير قيمة الأثمان الحقيقية إلا بالعرض والطلب المتعلق بالإنتاج، إضافةً إلى أن الشريعة قد حدت من كثرة تعرضها للعرض والطلب.
الثمن معيار، والأصل في المعايير التوافق عليها وثبات قيمتها، كالمتر مقياساً للطول، وفي تغير قيمة الأثمان بزيادة الإنتاج أو نقصه مصالح راجحة، ولكن يجب التوافق عالمياً على قيمة للعملات من غير ظلم ولا تسلط.
فقد ثبت يقيناً بالنظر العقلي والتجارب البشرية أن التغير في قيمة أي عملة محلية مقابل الأجنبية مضر بالاقتصاد.
فزيادة قيمة العُملة المحلية لبلدٍ ما مقابل العملات الأجنبية عن ذلك البلد تحد من صادراته، وذلك لأن مُشتري صادرات ذلك البلد يشتري عملتها المحلية أولاً لشراء صادراتها، وبما أن عملة البلد المُصدِّرة غالية مقابل عملة بلد المُشتري؛ فإن صادرات ذلك البلد تصبح غالية على مشتريها، وهذا يحدث كثيراً في اليابان.
وثبت أيضاً أن الانخفاض في قيمة أي عملة محلية مقابل العملات الأجنبية يضرُّ بحركة وارد تلك البلدة، وذلك لأن غلاء العملات الأجنبية يؤدي إلى غلاء السلع المستوردة على صاحب العملة المحلية، فإذا كانت في الواردات سلع ضرورية ومدخلات إنتاج سلع وخدمات ضرورية؛ تضرر الناس ضرراً بالغاً، وهذا ما يحدث في الدول النامية.
وسبق أنه مهما تذبذبت قيمة الذهب العالمية باحتكار أو غيره من المعاملات غير الشرعية؛ فإن تغطية كل العُملات العالمية به يجعلها ثابتة نسبة إلى بعضها، وهذا هو المطلوب في الحفاظ على صادر ووارد كل بلد.
وسبق في حال عدم التزام كل الدول بالتغطية أن التلاعب بقيمة الذهب والفضة بالاحتكار له حدود وفيه صعوبة، فهي معادن فيها ندرة بطبيعتها، ومناجمها الطبيعية موزعة في عدد من الدول، وكثيرٌ من الدول في حاجة ماسة لبيعها لدول أخرى، وهذا خلافاً للعملات الاسمية التي يسهل التلاعب بقيمتها.
ولا يصح أن يكون المعيار العالمي لتقييم العُملات عملة اسمية القيمة كالدولار لما في ذلك من فتح ثغرات للظلم والتسلط.
فإذا طبعت أمريكا مزيداً من الدولارات وتحولت قيمة المائة دولار إلى ما يعادل سبعين دولاراً؛ فإنها تكون قد سرقت من كل من لديه احتياطي بالدولار حوالي ثلاثين دولاراً، تقل قليلاً لنقص قيمة العُملة، وإذا طبعت لتثبيت قيمة العُملة فهو ظلمٌ أيضاً.
وفي بيع النفط والغاز بالدولار زيادة قيمة الدولار بزيادة الطلب العالمي عليه، لأن كل من يشتري هذه السلع يجب عليه شراء الدولار أولاً لشرائها.
فإذا فرضت أمريكا على دول بيع نفطها وغازها بالدولار دون مقابل فهو تسلط، وهو تبادل منافع إذا كان فيه مقابل واتفاق عادل، كما في اتفاقيات البترودولار لأنه مقابل الحماية العسكرية.
ومع أن التعاملات غير الشرعية في بيع الذهب والفضة تؤدي إلى تذبذب قيمتيهما إلا أن كثيراً مما يرى من تذبذب أسعارهما في الأسواق قد يكون ظاهرياً، فقد يكون التذبذب في الدولار حقيقةً فيبدو وكأنه في غيره لأنه جُعل معياراً.
للتوضيح بمثال؛ إذا انخفض سعر الجنيه فقد يقول الناس ارتفع سعر الدولار مع أن سعره قد يكون ثابتاً مقابل حزمة من العملات العالمية القوية.
وسبق أن التلاعب بقيمة الذهب والفضة له حدود وفيه صعوبة، وسبق كذلك أن تغطية كل الدول بالذهب تجعل قيمة العملات ثابتة نسبة إلى بعضها.
والاقتصاديون يحددون قيمة الدولار بحزمة من العملات القوية، وذلك لأنهم يعلمون أنه لا ينبغي أن يكون معياراً، فهذا أمرٌ يستطيع فهمه كل من له معرفة أو خبرة تجارية بدائية.

الاتجار بالنقدين

تقدم أن الثمن معيار، وأن الأصل في المعايير التوافق عليها وثبات قيمتها، كالمتر مقياساً للطول، وتقدم أن في تغير قيمة الأثمان بزيادة الإنتاج أو نقصه مصالح راجحة.
فكثرة الاتجار في الأثمان بالصرف لغير حاجة وبالقروض الربوية يعرضها للتغير بعرض وطلب مُنفصلين عن الإنتاج.
ولذا جعلت الشريعة الإسلامية لبيع الأثمان الحقيقية وشرائها شروطاً خاصة.
والأرجح في ربا البيوع قياس الأثمان الاسمية على الحقيقية، وأنَّ علة ربا البيوع في الذهب والفضة هي الثمنية للمسكوكة وكونها جنس الأثمان لغير المسكوكة.
فمن حِكم اشتراط التقابض في الصرف تقليل تعريض الأثمان للتجارة لكيلا تتغير قيمتها بعرض أو طلب منفصلين عن الإنتاج، ولكي لا تكون الأثمان عروض تجارة.
وأما الأربعة الباقية من الربويات في ربا البيوع فهي أطعمة تقتات وتدخر فلا تُستغل فيها حاجة الفقير.
وحرمة ربا القروض في الربويات أشد من حرمتها في غير الربويات، ومن الحِكم عدم تعريض الأثمان للتغير المنفصل عن النمو الاقتصادي.
واستقرار الأثمان هو من حِكم تحريم استعمال الذهب والفضة إلا فيما رخص فيه الشرع (حلي النساء، وخاتم الفضة للرجال، والضبة اليسيرة)، ومن حِكم هذا الاستثناء إبقاء قيمة الذهب والفضة في النفوس.

العرض والطلب

فهم وتحليل الاقتصاد والسوق يرتكز بالدرجة الأولى على آلية العرض والطلب، فإذا أضيف إليها فهم مصطلحات ومفاهيم محددة تمكن غير المختص من فهم التحليلات الاقتصادية بسهولة.
في السوق الحر الذي لا تتدخل الدولة في تسعير سلعه؛ إذا زاد العرض مقابل الطلب؛ انخفضت الأسعار، وإذا زاد الطلب مقابل العرض؛ ارتفعت الأسعار.
ولتيسير الفهم بمثال بسيط؛ سعر الطماطم ينخفض في الموسم بسبب زيادة عرضه على طلبه، فزيادة عرضه مقابل طلبه تدفع البائعين لتخفيض سعره لكيلا تكسد تجارتهم، وكلما خفض بائع اضطر الآخر إلى التخفيض لجذب الزبائن إلى أن يستقر السعر على قيمة معينة.

تسعير السلع والخدمات

تحرير أسعار السلع والخدمات سياسة اقتصادية صحيحة لا سيما إذا كان سبب ارتفاع الأسعار أو انخفاضها طبيعياً، وتدخل الدولة بالتسعير يضر حركة السوق وبالتالي الإنتاج والاستثمار، مما يؤثر سلباً على مجمل الأداء الاقتصادي، ولا يعالج مشكلة غلاء الأسعار.
فإذا كان ارتفاع سعر الطماطم مثلاً بسبب عدم نزول الأمطار، فكيف يكون في التسعير حل لأساس المُشكلة؟
والتسعير يثبط الإنتاج، فإذا كان رفع المُنتِج السعر بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج بالري الصناعي ونحوه، فإن التسعير قد يؤدي إلى تعطيل الإنتاج، وسعر المُنتج يؤثر في سعر التاجر الوسيط، وهكذا إلى السعر النهائي للمُستهلك.
فإن قيل: الارتفاع قد يكون بسبب الندرة مع جشع التجار، فجوابه؛ أن التاجر غير المحتكر لا يستطيع أن يرفع السعر فوق القدرة الشرائية، وذلك ليضمن بيع كميات كبيرة مما عنده من السلعة.
وكمية السلعة أصلاً قليلة، فلم لا يشتريها فقط من يستطيع أن يشتري مؤقتاً؟ وذلك بغرض تحفيز مزيد من المُنتجين، وبالتالي يحدث انخفاض حقيقي في الأسعار تلقائياً مع النمو الاقتصادي بسبب زيادة الإنتاج.
فالتسعير في السوق الحر يحدث تلقائياً بالعرض والطلب الحقيقيين، والتسعير الجُزاف مضر بالاقتصاد مع ما فيه من ظلم الناس بإلزامهم ببيع السلع بسعر غير حقيقي.
وأما إذا كانت زيادة العرض أو نقصه بسبب غير طبيعي - كالاحتكار الخاطيء -، فقد أجاز بعض العلماء التسعير في هذه الحالة، ولكن إذا لم يمكن إلزام المُحتكرين بالتسعير، فلا فائدة منه، ولذا فالأفضل اللجوء إلى حلول أخرى، كالعقوبات الصارمة ومراقبة التجار لمعرفة المحتكرين وإلزامهم ببيع ما عندهم من سلع مُحتكرة.
وقد دلت السنة على عدم جواز تسعير السلع والخدمات، وأجازه العلماء اضطراراً إذا كان الغلاء بسبب غير طبيعي، للمزيد؛ حُكم التسعير والتقابض الحُكمي في الصرف.

أسباب الأزمة

يبدو أنه لم تكن ثمة شفافية ولا أرقام حقيقية في الميزانيات أيام الإنقاذ بسبب الضغوط الاقتصادية التي أدت إلى لجوء الحكومة إلى التعامل بطرق غير مباشرة كالتهريب.
فمثلاً قبل انفصال الجنوب عام 2011م كان دخل البترول في الميزانية حوالي أربعة مليار، وكان دخل الذهب في العام الذي يليه حوالي ثلاثة ونصف مليار، مما جعل البعض يتشكك في عزو المشكلة إلى فقدان عائدات النفط.
ثم اختفى دخل الذهب من الميزانية في العام الذي يلي ذلك مما قد يشير إلى أن الأرقام لم تكن حقيقية.
واضحٌ أن عائدات النفط كانت أكثر من المعلنة لاضطرار الدولة للتهريب، فسبب الأزمة هو فقدان عائدات نفط الجنوب، يؤكد ذلك ظهور آثار الأزمة بعد الانفصال.
أدى الكساد الاقتصادي إلى هبوط سعر الجنيه مقابل السلع والخدمات، ومن ثم هبط سعره مقابل العملات الأجنبية بسبب زيادة المضاربة في العملات إضافةً إلى الخلل في ميزان المدفوعات والميزان التجاري.
فنقص موارد الدولة المالية بسبب فقدان عائدات النفط أدى إلى لجوء الدولة لحلول مضرة بالاقتصاد لتغطية العجز في الميزانية كزيادة الجبايات.
والجبايات نوعٌ من التسعير لأنها تزيد من سعر السلع والخدمات، وهذا يؤدي بدوره إلى قلة الشراء، وقلة الشراء تؤدي إلى ضعف الإنتاج وبالتالي مجمل الناتج المحلي، وبالتالي انكماش في النمو الاقتصادي.
ويُعرف الانكماش إذا كان محدوداً ولمدة فصلين بالركود، فإذا زادت حدته ومدته سمي بالكساد، والذي قد يصل إلى مرحلة الانهيار الاقتصادي.
ومن آثار الانكماش والكساد؛ العطالة وضعف الرواتب وفوائد التجارة والاستثمار، وكل هذا يؤثر في طلب العملة المحلية بالبيع والشراء.
وقيمة العملة المحلية تتأثر بالانكماش، لأن ضعف بيع السلع والخدمات يعني ضعف طلب العملة المحلية مقابل عرضها مما يؤدي إلى هبوط قيمتها، وكلما زادت حدة الانكماش ومدته كلما استمرت العملة في الهبوط.
ولجوء الدولة لتحديد سعر الصرف فاقم المُشكلة، فمن آثار تسعير الجنيه تشجيع السوق الموازي ونقص احتياطي العملات الأجنبية في القنوات الرسمية، إضافة إلى الأسعار غير الحقيقية للصادرات والواردات.
وفي مقال؛ آثار وبدائل المجانية ودعم السلع والخدمات بيان أن دعم السلع والخدمات بتخفيض سعرها هو نوع من التسعير، وأن من آثاره السيئة عدم قدرة المنتجين الآخرين على المنافسة إضافةً إلى الأضرار الأخرى.
والأفضل لاقتصاد الدول التي لها فائض في الميزانية أن تدعم السلع والخدمات بدعم مشتريها نقداً، لما في ذلك من رفع القوة الشرائية، وبالتالي تشجيع الإنتاج والاتجار والاستثمار.
ومن أسباب الأزمة؛ الفساد المالي، وتهريب الذهب، والاحتكار الخاطيء، والصرف الحُكومي غير المرشد، وربما لجأت الدولة لطباعة الجنيه لسد العجز في ميزانياتها.
والاقتصاد لا ينفك عن طريقة إدارة البلاد، والقائمين عليها، والعلاقات الخارجية، فكثرة تغيير الوزراء لاسيما وزراء المالية والتخطيط بسبب المُحاصصات أضر بالاقتصاد، فقد جربت الإنقاذ مثلاً تحرير سعر الصرف فأفاد ثم ارتدت على أعقابها بعد الأزمة فحددت أسعار الصرف.

الفرق بين العملات والمنتجات في العرض والطلب

إذا زاد عرض أي شيء على طلبه نقصت قيمته، وإذا زاد طلب أي شيء على عرضه زادت قيمته، ولكن من أي اتجاه يكون عرض العملة المحلية والأجنبية والمنتجات (السلع والخدمات)، من جهة المُستهلك أم من جهة المُنتج والوسطاء؟ 
زيادة العملة المحلية تكون بطباعة المزيد منها طباعة حقيقية أو مزورة، ولكن مجرد الطباعة لا تؤثر في زيادة العرض.
فزيادة عرض العملة المحلية تكون بزيادة شراء السلع والخدمات والعُملات الأجنبية بها.
وزيادة طلب العملة المحلية تكون بزيادة بيع السلع والخدمات والعُملات الأجنبية بها.
عرض المنتجات (السلع والخدمات) هو من جهة المُنتِج ثم التجار الوسطاء الأقرب للمُنتِج ثم الأبعد في اتجاه المُستهلك.
وعرض العملة المحلية هو عكس عرض المُنتجات؛ فهو من جهة المُستهلك ثم الوسطاء الأقرب له ثم الأبعد في اتجاه المُنتِج.
وذلك لأن المستهلِك غرضه السلع والخدمات فهو طالب لها، والمُنتِج والوسيط غرضهم الربح فهم طالبون للعملة المحلية.
والوسيط يطلب المنتجات من جهة المُنتج ويعرضها في جهة المُستهلك، ويطلب العملة المحلية من جهة المُستهلك ويعرضها في جهة المُنتِج.
وهذا فيما سوى إصدار مزيد من العُملة والقروض الربوية، فالعرض في إصدار العُملة هو من جهة المُصدِر لها (المُنتِج)، وفي القروض الربوية هو من جهة التاجر أو الوسيط مثل المصارف باتجاه المُستهلك.
والعُملة الأجنبية مثل المُنتجات في عرضها لكونه في اتجاه المُستهلِك، ولكنه من جهة من أدخلها ثم الوسطاء الأقرب ثم الأبعد.
وبالتالي فإن عرض العملة المحلية في الصرف مثل عرضها في شراء المُنتجات لكونه من جهة المُستهلك، ولكنه في اتجاه المصارف ومحلات الصرافة وتجار العُملة نهاية بمن أدخل العملة الأجنبية.
والطلب في جميع الأحوال السابقة هو عكس العرض، فطلب المنتجات هو من جهة المُستهلك ...  وهكذا.
ولأن عرض المنتجات هو من جهة المُنتِج وعرض العملة المحلية هو من جهة المستهلك؛ فإن زيادة الإنتاج تخفض الأسعار، وزيادة تداول العملة المحلية مع المحافظة على قيمتها ترفع القدرة الشرائية.
ولما سبق اقترحتُ أن يكون دعم السلع والخدمات الأساسية نقدي للمُستهلك مباشرةً، وأن تكون مجانية الخدمات كالتعليم بدفع التكاليف كاملة نقداً للمُستفيد ليدفعها كرسوم دراسية.
وتوازن العرض والطلب وثباته يؤثر في قيمة العملة وثبات قيمتها.
استبدال العملة بالمنتجات عرضاً وطلباً يؤثر في قيمة العملة مقابل المنتجات، وهذه القيمة تؤثر في قيمة العُملة مقابل العملات الأجنبية بطريقة غير مباشرة.
وتتأثر قيمة العملة المحلية مقابل العُملات الأجنبية تأثراً مباشراً بالصرف، ومنه الصرف المرتبط بالاستيراد والتصدير.

تعويم الجنيه

مع أن سياسة تعويم الجنيه سياسة قاسية مرحلياً، إلا أنه يمكن تفادي بعض الآثار السلبية على المواطن.
فالحل الجزئي اضطراراً عند عدم القدرة على تغطية الجنيه الورقي بسك جنيهات ذهبية هو في التعويم المُدار للجنيه، وقد جربت سياسة تحديد سعر الصرف مراراً فلم تنجح.
فتحديد سعر الجنيه فيه ظلم في تقييم السلع والخدمات التي تباع بالعملة المحلية، لأن قيمة الجنيه المُسعر الرسمية من غير تغطية لا تمثل قيمته الحقيقية.
وتحديد سعر الصرف لا يؤدي إلا إلى تشجيع السوق الموازي (الأسود) وتهرب الناس من التحويل الرسمي عبر المصارف الرسمية.
وأما تحديد سعر الصرف مع صرامة القوانين الرادعة ومنع السوق الموازي فإنه يؤدي إلى إحجام المدخرين عن بيع ما عندهم من عملات أجنبية، وبالتالي قلة الطلب على الجنيه وانخفاض سعره.
وانخفاض قيمة الجنيه تؤثر في التعاملات الداخلية والخارجية، ومن ذلك داخلياً؛ توقف الناس عن بيع العقار والممتلكات الثمينة بالجنيه خوفاً من هبوط سعره.
ومن ذلك خارجياً؛ الإحجام عن استيراد السلع، لأنها تُشترى بالعملة الأجنبية وتباع بالجنيه، وهبوط سعر الجنيه فيه مخاطرة بتقليل الفائدة أو انعدامها أو الخسارة.
ويُحجم المستثمر الأجنبي عن الاستثمار في البلد بسبب استمرار هبوط العملة المحلية الذي يؤدي إلى خسارة عند تحويل الجنيه لعملة بلد المستثمر.
تعويم الجنيه يؤدي إلى ثبات سعره تلقائياً في السوق عبر المصارف العامة والخاصة ومحلات الصرف وثبات الوارد مقابل الصادر.
وثبات سعر الصرف عامل أساسي في النمو الاقتصادي الإيجابي، والنمو الاقتصادي الإيجابي يكون بزيادة إنتاج السلع والخدمات، وزيادة الإنتاج لن تحدث من غير حركة السوق بالبيع والشراء والنقل والاستثمار والاتجار.
فارتفاع قيمة الجنيه تكون بزيادة الطلب عليه، وذلك بزيادة حركة السوق بالبيع والشراء، وزيادة الصادر مقابل الوارد، وزيادة شراء الجنيه في الصرف.
بعد انخفاض مرحلي في السعر الرسمي للعملة المحلية بسبب التعويم يحدث استقرار في سعرها يؤدي إلى نمو اقتصادي ثم ارتفاع تدريجي في سعر العملة بسبب حركة السوق.
والانخفاض المرحلي للجنيه المعوَّم يُفيد حركة الصادر، فالتعويم يؤدي إلى انخفاض سعر الجنيه الرسمي مقابل العملات الأجنبية، ويمكن أن نقول (مجازاً)؛ ارتفاع أسعار العملات الأجنبية مقابل سعر الجنيه.
وبالتالي فإن المصدر يستفيد من التعويم عندما يحول العملة الأجنبية إلى المحلية، ومن ثم يستفيد منتجو السلع المصدرة بطريقة غير مباشرة.
ولكن المستورد يتضرر، ولذا لابد أن يصحب قرار التعويم إجراءات للتخفيف عن المواطن.
والزيادة الشديدة في سعر العملة المحلية مقابل العملات العالمية مضرة بحركة الصادر، ويمكن حل هذه المشكلة بزيادة عرض العملة بالطباعة.

أثر التعويم على المواطن

تعويم الجنيه يثقل كاهل المواطن مرحلياً بزيادة أسعار السلع ومدخلات الإنتاج المستوردة، وذلك لأنه يؤدي إلى زيادة السعر الرسمي للعملات الأجنبية، وذلك مجازاً، فما يحدث حقيقة هو انخفاض سعر الجنيه الرسمي مقابل العملات الأجنبية.
وزيادة السلع المستوردة قد تؤثر على الفقراء إما مباشرةً كالسلع المستوردة الضرورية، أو بطريقة غير مباشرة بسبب مدخلات الإنتاج المُستوردة، كالخضروات المنتجة محلياً بسبب ارتفاع سعر النفط المستورد مثلاً.
لتفادي الآثار السلبية لتعويم الجنيه على الوارد؛ أقترح استثناء دولار السلع المستوردة الضرورية ومدخلات الإنتاج المستوردة؛ كالنفط المُستورد الذي يستخدم في الآليات الزراعية، كحل مؤقت إلى حين ازدهار السوق وزيادة دخل المواطن.
فإن أثر تحديد سعر الصرف بالمقابل كارثي على الاقتصاد، لأنه يؤدي إلى الانكماش الاقتصادي ثم الكساد ثم الانهيار  التام.

الدولار الجمركي

مشكلة التعويم التي تخص المواطن العادي هي غلاء الوارد.
واستثناء الدولار الجمركي مفيد للمواطن، ولكنه مضر لموارد الدولة المالية.
ولكن الجمارك والضرائب ليست إلا عوائق للنمو الاقتصادي في الأصل، ولا ينبغي أن تلجأ إليها الدولة إلا عند الضرورة والحاجة.
وذلك لأنها تضيف إلى السعر الأخير للسلع والخدمات المحلية والمستوردة فتثقل كاهل المواطن، وتؤثر في القدرة الشرائية، مما يعود سلباً على الإنتاج والاستيراد والاتجار، وكل هذا يعود سلباً على النمو الاقتصادي.
الدولة تستفيد فائدة حقيقية في الاستثمار في مجالات كثيرة، منها؛ الطاقة كالنفط، كما كان قبل الانفصال، والمعادن الثمينة كالذهب، والاتصالات بما في ذلك القمر الصناعي السوداني وإيجار البث من خلاله للفضائيات والإذاعات، والمواصلات بما في ذلك السكك الحديدية والخطوط الجوية والبحرية.
وإذا جازت الجبايات فإنها تجوز عند الضرورة والحاجة، وممن أجازها عند الضرورة والحاجة ابن تيمية والشاطبي رحمهما الله تعالى.
فإذا لم يُغطي الاستثمار احتياجات الدولة جاز لها اللجوء إلى الجبايات بقدر لا يضر المواطن ولا يثقل كاهله، وبقدر لا يعقد الإنتاج والاستثمار والتجارة.
 فلستُ بهذا أطالب بإلغاء الجبايات في الوقت الحالي، وإنما أتحدث عن خطأ تأصيلها بمعنى جعلها أساساً في الاقتصاد الصحيح المُعافى.

الاحتياطي والتوازن التجاري

سمعنا وقرأنا أن توفر الاحتياطي وتوازن الصادر والوارد شرطان للتعويم.
فما علاقة الجنيه المعوَّم والمُسعَّر بهما كسبب ومسبب؟ وماذا عن التأثير والتأثر؟ وماذا عن الواقع الإحصائي في السودان؟

التحليل السليم

مما يلزم للتحليل السليم؛ ربط الأسباب بالمسببات، والتسبُّب المتبادل، والتمييز بين الأسباب المُباشرة وغير المُباشرة، وبالتالي مدى تأثير كل سبب.
ومن ذلك؛ الدراسة الإحصائية المتكاملة، وذلك على نحو ما يلي في توزيع كتلة النقد الأجنبي في السوق الموازي.
والإحصاءات ليست دقيقةً مع وجود سوق موازٍ وتهريب للسلع، فلابد من إحصاءات تقديرية، ووضع كل الاحتمالات، واعتبار الاحتمال الراجح، ووضع خطط بديلة.
ولعل الخطط البديلة هي سبب اعتماد الحكومة التعويم المُدار بدلاً من الخالص.

التأثير المتبادل للاحتياطي والجنيه المعوَّم

احتياطي النقد الأجنبي له تأثيرات مهمة في الاقتصاد كالتأثير في الواردات وسداد الديون وقيمة العملة المحلية.
وتأثير الاحتياطي والجنيه المعوَّم متبادل، وهو إما مباشر أو غير مباشر.
فعوامل النمو الاقتصادي مرتبطة ببعضها، وكل عامل يتأثر بآخر ويؤثر فيه، وبالتالي توجد تأثيرات مباشرة وغير مباشرة مع تأثيرات مُتبادلة.
تأثير الاحتياطي المُباشر في الجنيه المعوَّم هو بسبب تأثيره في قدرة القنوات الرسمية على منافسة السوق الموازي.
لمعرفة مدى هذا التأثير المباشر؛ لا يكفي تقدير الكتلة النقدية الأجنبية في السوق الموازي مقارنة بالقنوات الرسمية.
فلابد مع ما سبق من تقدير نسبة توزيع هذه الكتلة بين تجار السوق الموازي، ومدى إمكان توافق بعض التجار على احتكار النقد الأجنبي لرفع أسعاره، ونسبة الكتلة لدى هؤلاء مقارنة بالاحتياطي.
وما فائدة تسعير لا يمكن إلزام السوق الموازي به؟ فلابد من مقارنة أضرار التعويم بأضرار التسعير، ولا يكفي الكلام عن أضرار التعويم.
فمن أسباب نقص الاحتياطي في القنوات الرسمية بعد فقدان عائدات النفط؛ تسعير الجنيه، وبالتالي إحجام الناس عن التحويل عبر القنوات الرسمية.
فالاحتياطي الذي يؤثر في الجنيه المعوَّم سلباً يتأثر به أيضاً تأثراً إيجابياً.
ومن الحلول؛ الترخيص لتجار العملة الكبار بمحلات صرافة، وإلزامهم بفتح حسابات لهم في المصارف، ليتمكن المستوردون والحكومة من الشراء منهم بأسعار تتوافق مع مؤشرات العرض والطلب دون احتكار.
هذا إضافةً إلى القوانين الرادعة والمراقبة الصارمة.

الاتجار بالعملات

قيمة العملة المحلية مقابل السلع والخدمات لها أثر في سعرها مقابل العملات الأجنبية، وذلك لأثرها في خياري الاتجار في المُنتجات والاتجار في الصرف.
فكلما ارتفع سعر العملة المحلية مقابل السلع والخدمات مقارنة بسعرها مقابل العملات الأجنبية كلما اتجه الناس للاتجار في الخدمات والسلع، والعكس بالعكس.
ولذا فلنتذكر أن طلب وعرض العملة المحلية يكون أيضاً بشراء وبيع السلع والخدمات بها، وأن هذا يحدد قيمتها مقابل السلع والخدمات.
وارتفاع قيمة العملة المحلية مقابل السلع والخدمات يكون بمزيد إنتاجها لما في ذلك من مزيد طلب للعملة.
ونخلص من هذا إلى أن زيادة الإنتاج تسهم في الحد من المضاربة في العملات.
والحد من الاتجار في العملة المحلية مطلوب لتثبيت سعرها.

الميزان التجاري

الميزان التجاري هو الفرق بين قيمة الواردات والصادرات في بلد معين، وأما ميزان المدفوعات فيشمل جميع العمليات المالية الخارجية لبلد ما.
فتوازن الصادر والوارد له علاقة بالعجز التجاري، وله أيضاً تأثير في قيمة العملة المحلية وتأثر بقيمتها.

التوازن والعجز التجاري

أما العجز التجاري، فبسبب بيع الصادر وشراء الوارد في السودان بالعملات الأجنبية، فإن في الاستيراد إخراج للعملة الأجنبية من البلد، وفي التصدير إدخالها للبلد، ولهذا فإن هذا الخلل إضافة للعجز عن سداد الديون يؤديان إلى عجز في ميزان المدفوعات.
في السنة المالية الأخيرة بلغ العجز التجاري حوالي ٣,٩٢ مليار دولار، فقد بلغت قيمة الواردات ٦,٥٩ مليار دولار، مقابل ٢,٦٧ مليار دولار للصادرات.
وسبب العجز هو فقدان عائدات نفط الجنوب.
لو كان الجنيه متداولاً عالمياً لكان حل العجز التجاري بشراء الوارد بالجنيه السوداني إذا استقرت قيمته، والدول المتقدمة كأمريكا تشتري وارداتها وتبيع صادراتها بعملتها المحلية.

تأثير قيمة العملة في الوارد والصادر

قيمة العملة المحلية تؤثر في الصادر والوارد وتتأثر بهما.
ومن هنا يأتي تأثير الجنيه المعوَّم في الميزان التجاري وتأثره به، لأن قيمته تكون حسب آلية العرض والطلب.
فمن ناحية التأثير، فسبق أن الغلاء الشديد للعملة المحلية مقابل العملات الأجنبية يضر بحركة الصادر، وهذا يحدث في الدول الصناعية الكبرى كاليابان.
وسبق أن الانخفاض الشديد لقيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية يضر بحركة الوارد، وهذا يحدث في الدول النامية كالسودان.

عرض وطلب العملة المحلية المصاحب للصادر والوارد

ذكرتُ سابقاً أن عرض العملة المحلية هو من جهة المُستهلك ثم الوسطاء الأقرب له ثم الأبعد في اتجاه المُنتِج.
وذكرت أن عرض العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية هو في اتجاه المصارف ومحلات الصرافة وتجار العُملة نهاية بمن أدخل العملة الأجنبية.
وطلب العملة المحلية هو في الاتجاه المعاكس لعرضها في الحالتين.
فالواردات عرض للعملة المحلية في السودان، لأنها تشترى بالعملة الأجنبية في الدول النامية، وذلك بصرف المواطن العملة المحلية أولاً بشراء العملات الأجنبية بها لشراء السلع الأجنبية.
والصادرات طلب للعملة المحلية في السودان، لأنها تباع بالعملة الأجنبية في الدول النامية، وذلك بصرف المواطن العملة الأجنبية ببيعها بالعملة المحلية، وذلك بعد بيعه السلع الوطنية بالعملات الأجنبية.
والصرف المصاحب للتصدير والاستيراد تأثيره في قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية أقوى من تأثير طلب العملة وعرضها مقابل السلع والخدمات محلياً.
فبالطريقة المعمول بها في السودان؛ فإن الواردات عرض للعملة المحلية بالصرف أولاً، والصادرات طلب للعملة المحلية بالصرف ثانياً، وفي كلا الحالتين يتم الصرف بعملات أجنبية.
ولهذا فلو استمرت الزيادة في عرض العملة المحلية بمجمل قيمة الواردات مقابل طلبها بمجمل قيمة الصادرات؛ فيُتوقع من ذلك استمرار في انخفاض قيمة العملة المحلية.
والعكس يُتوقع منه زيادة في قيمة العملة المحلية.
فتوازن الصادر والوارد يؤثر في قيمة العملة وفي ثبات قيمتها ويتأثر بذلك.

الأثر المتبادل للتعويم والميزان التجاري

أثر استمرار ازدياد الفجوة بين قيمة العملة المحلية والعملة الأجنبية أسوأ من مجرد وجود فجوة كبيرة، وذلك لأن ثبات قيمة العملة المحلية أهم من مجرد قيمتها.
ثأثير الميزان التجاري الحالي في التعويم هو القيمة المُنخفضة للجنيه المعوَّم.
فبما أن الواردات عرض للعملة وهي أكثر من الصادرات التي هي طلب للعملة، فإن هذا الخلل في الميزان التجاري يُتوقع أن يؤثر بقيمة منخفضة للجنيه المعوَّم لزيادة العرض على الطلب.
وهذا باعتبار أنه لا توجد تحويلات للمغتربين ونحو ذلك بيعاً وشراءاً للجنيه، ولهذا فالأصح في تأثير التوازن في قيمة العملة المحلية المُعوَّمة أن يُقال التوازن بين العرض والطلب لأنه أشمل من الصادرات والواردات.
وأما تأثر الميزان التجاري الحالي بالتعويم، فالتعويم يؤدي إلى تقليل الفجوة بين الوارد والصادر.
وذلك لأن التعويم يؤدي إلى انخفاض سعر الجنيه الرسمي مقابل الدولار مرحلياً مع قرار التعويم، وهذا يؤدي إلى غلاء الوارد، وبالتالي الإحجام النسبي عن الاستيراد.
والإبقاء على السعر السابق للصادر بالعملة الأجنبية بعد التعويم لا يضر المُشتري الأجنبي ويُفيد المُصدِّر الوطني، وذلك لارتفاع قيم العملات الأجنبية مقابل الجنيه، مما يشجع على التصدير.
فالنتيجة المتوقعة نقص الواردات وزيادة الصادرات، وهذا تقليص للفجوة بين الصادر والوارد، لأن واردات السودان أكثر من صادراته.
والتعويم يستقطب تحويلات المغتربين عبر المصارف ومحلات الصرافة المرخصة.
ففي تحويلات المُغتربين سد العجز التجاري بسبب زيادة الداخل للبلاد من العُملات الأجنبية.
وفي تحويلات المغتربين زيادة طلب للعملة المحلية، وبالتالي فيها تقليل للفجوة بين العرض والطلب الناتج عن عدم توازن الصادر والوارد ونقص تحويلات المُغتربين، وبالتالي ارتفاع قيمة الجُنيه.

ترشيد الاستيراد والتصدير

للاستيراد والتصدير تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في قيمة العملة المحلية مقابل السلع والخدمات.
وفي ترشيد الاستيراد والتصدير نوعاً وكماً تأثير إيجابي في الإنتاج والنمو الاقتصادي وبالتالي قيمة العملة.
التصدير غير المرشد يؤثر في طلب العملة المحلية بسبب نُدرة السلع المُصدَّرة داخلياً وبالتالي نقص عرضها.
ولذا يسبب التصدير غير المرشد للسلع الضرورية كالماشية واللحوم والخضروات غلاء هذه السلع داخلياً ومعاناة المواطن.
 الاستيراد يزيد من طلب العملة المحلية ببيع السلع المستوردة بها بطريقة مباشرة، وبطريقة غير مباشرة بالتأثير في الإنتاج باستيراد مدخلات الإنتاج.
وفي المقابل فإن الاستيراد غير المرشد يقلل من الإنتاج بالاكتفاء باستيراد السلع.
ولذا فإن تصنيع المنتجات المحلية يدفع عجلة الإنتاج ويزيد الصادر ويزيد الطلب على العملة المحلية بزيادة عرض المنتجات المحلية المصنعة داخلياً.

تأييد أمريكا لإعلان المصرف المركزي

أعلنت السفارة الأمريكية تأييدها لإعلان المصرف الدولي تعويم الجنيه.
وبهذه المناسبة أود أن أقول ليست كل سياسات أمريكا والمصرف المركزي ضد الشعوب الفقيرة.
استقرار دول العالم اقتصادياً مفيد للغرب، ولكن طبعاً بحدود غير منافسة للغرب اقتصادياً.
فكل دول العالم بما فيها الفقيرة سوق للمنتجات الصناعية الغربية؛ كالقطارات، السيارات، الطائرات، السفن، آليات المصانع، قطع الغيار، الحواسيب، والهواتف.
ولذا فإن بعض السياسات المالية التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية على الدول الفقيرة فيها مصالح مزدوجة.
وليست كلها للإضرار بالشعوب الفقيرة والهيمنة كما يقول الاشتراكيون الشيوعيون والبعثيون، وكما يردد ذلك بعض الإسلاميين دون تمييز بين السياسات الضارة والنافعة من سياسات المؤسسات المالية الدولية.
وليس من أولويات الغرب دائماً الفئة الحاكمة إسلامية كانت أو علمانية، وذلك بشرط ألا تهدد مصالح الغرب، فحتى صدام والقذافي والأسد العلمانيون عاداهم الغرب.
فثمة تلاقيات وتضاربات في المصالح، ولاشك أن لهذه المصالح علاقة بالأيدلوجيات والأديان.
ولكن مرحلياً وتكتيكياً تغلب المصالح الاقتصادية على غيرها، لأن الاقتصاد هو الذي يقوي الأيدلوجيات والأديان.
فلا قوة عسكرية إلا بالاقتصاد، ولعل هذا من حكم تقديم الله سبحانه وتعالى ذكر جهاد المال على جهاد النفس في آيات الذكر الحكيم.

المساعدات الخارجية

المساعدات الدولية ليست كل شيء كما يزعم البعض.
بل المساعدات تكون بقدر ما يساعد على تسويق منتجات الدول المساعِدة فقط.
وفي المُساعدات تشجيع على القروض الربوية التي تجعل قرار الدول الفقيرة مرهوناً بحيث لا يتطور اقتصادها بطريقة منافسة للغرب، وليظل قرارها مرهوناً بالغرب.
فالمساعدات وسياسات المصرف الدولي الصحيحة ليست إلا دفعة قليلة جداً لإنعاش الاقتصاد وليست حباً في الدول الفقيرة.
الدول الأوروبية تخلت حتى عن اليونان وإيطاليا زمن أزمتهم، ولم تساعدهم إلا بشروط قاسية، رغم أنهم أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
المساعدات الممنوحة للسودان محدودة جداً ولا تسوى شيئاً أمام المشاكل الاقتصادية في البلد.
فلابد من سياسات اقتصادية صحيحة، وتعويم الجنيه ما هو إلا واحدة من تلك السياسات، وأهمها استثمار الدولة في المجالات التي توفر عليها عوائد تسهم في تطوير العلم والبحوث والتقنية في مجالات الإنتاج الخدمي والسلعي، مثل التقنيات الزراعية والصناعية والثروة حيوانية.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
كتابة الأصل؛ الاثنين 27 جمادى الآخرة 1442هـ، 9 فبراير 2021م.
التعديل؛  الخميس 27 رجب 1442هـ  الموافق 11 مارس 2021م.

المصادر

[1] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج29/ص469)، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.

هناك تعليقان (2):

  1. جزاك الله خير الجزاء الشيخ عمر عبد اللطيف.
    بصراحة المقال ضافى وكافى

    ردحذف