التوسع لا يضاد التخصص

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اقتفى أثرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
التوسع لا يضاد التخصص، وذلك لأن التوسع يكون في الأساسيات والجمل دون الفروع والتفاصيل، وفائدة الأساسيات والجمل هي فهم كلام أهل التخصص والمقدرة على التمييز فيما اختلف فيه أهل التخصص.
والتوسع لازم لبعض لا سيما الفقيه، لشمول الفقه جميع جوانب الحياة، وهو نافع للجميع، ولكن بشرط التخصص، فالعلوم لا حد لها، ومن ضيع التخصص ضيع الاستفادة والإفادة.

تخصص الفقه يوجب التوسع

يستحب للفقيه أن يوسع معارفه البشرية، فيدرس أساسيات وكليات المعارف التي لها صلة بالمسائل الفقهية.
قال القرافي رحمه الله تعالى: (وكم يخفى على الفقهاء والحكام الحق في كثير من المسائل بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العلية ألا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم ذلك، (فلم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام)) [1].
الفقه اصطلاحاً يتعلق بالأحكام العملية، وهي تشمل كل مجالات الحياة.
والفقيه يوسع معارفه، لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره.
ومن غير معرفة أساسيات المعارف البشرية ذات الصلة يتعسر بل قد يتعذر على الفقيه أن يعرف جزئيات المسائل المتعلقة بتلك المعارف.
فقد يصعب أن يلم الفقيه بواقع مسألة بمجرد سماع أو قراءة شرح أهل الاختصاص، بل قد لا يكفي شرح أهل الاختصاص لواقع المسألة في بعض الأحيان.
وهذا يشمل كثيراً من المعارف البشرية، كالطب، والهندسة (الصناعة)، والسياسة، والاقتصاد، والقانون، والإدارة.
 ولذا نجد أن ثمة من يخوض في جزئيات هذه المعارف من الفقهاء وغيرهم بغير علم.
ولكن ولله الحمد والمنة، وُجد في الأمة من يتحدث في هذه المعارف من الفقهاء بعلم، والفضل لله عز وجل وحده.
وللتفريق بين من يخوض في هذه المعارف بغير علم ومن يتحدث فيها بعلم؛ يُنظر في ذات المقال المتعلق أو الفتوى المتعلقة، ويُنظر في ثناء أهل التخصص على المقال والفهم لكلية أو جزئية متعلقة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ من قرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالي يجده يتحدث في؛ السياسة، والاقتصاد، والإدارة، وعلم الهيئة (الفلك)، وعلم الهندسة (التحليلية)، وعلم الطب، والعسكرية، وعلم الصناعة (الهندسة)، وما يسمى بعلم المنطق (الكلام).
ملاحظة؛ عندما يقول السابقون الهندسة - كابن خلدون، والقرافي، وابن تيمية، رحمهم الله تعالى جميعاً - فإنهم يعنون ما يُعرف اليوم بالهندسة التحليلية، وعندما يقولون الصناعة فإنهم يعنون أكثر إن لم يكن كل ما اصطلح اليوم عليه بعلم الهندسة.
وقد عرف أستاذ أمريكي الهندسة بأنها بعمل شيء مفيد للناس، وهو كما قال، فهندسة البناء تتعلق بصناعة البناء ومواده، وهندسة المساحة والمدن تتعلق بصناعة بنياتها التحتية وتخطيطها، وهندسة الإلكترونيات والبرمجة والاتصالات ونحوها تتعلق بعمل قطعة مفيدة أو جهاز كامل مفيد ونحو ذلك، وكذا سائر أنواع الهندسة.
وعندما يقول السابقون علم الهيئة فإنهم يعنون ما يعرف اليوم بعلم الفلك.
وعندما يتحدث السابقون عن علم الرياضيات، فإنهم يقولون؛ الحساب والجبر والمقابلة ونحو ذلك.
وعندما يقول السابقون الدرجات الفلكية، فإنهم يتحدثون عن درجات الدائرة التي مجموعها 360 درجة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك، لأن فيه تفريحاً للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط) [2].
للاطلاع على مدى معرفة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعلم الهيئة (الفلك)؛ مدونتي » أحكام » جواز العمل بحساب الأهلة.

تحذير من الاحتطاب بالليل

جامع المعلومات دون تأصيل حاطب ليل، وأهل العلم ولو بمسألة يشهدون للكلام المؤصل، وهذا يشمل العلوم الشرعية والمعارف البشرية.
ومع أن تلقي المعلومات وبحثها أصبح أسهل عبر الوسائل الحديثة حتى دخل في ذلك من ليس من أهل المثابرة والاجتهاد، إلا أن من يفعل ذلك دون تأصيل لا يختلف عمن كان في القديم له ميل طبيعي لكثرة القراءة والاطلاع وجمع المعلومات دون تأصيل.
ولعل من حكم الله تعالى في سهولة تلقي المعلومات والبحث سرعة الزمان وقلة البركة فيه، فهي نعمة إن أحسن استغلالها.
وعلى حطاب الليل أن يعلموا أنهم مهما خدعوا أنفسهم والناس بكثرة النقل، فإن أمرهم سينكشف للناس مهما طال الزمن، فالناس يفرقون من خلال السطور بين الناقل المؤصل وحاطب الليل، وذلك لأنه لا يكاد يوجد من ليس له علم بمسألة واحدة.
وأهل العلم باختلاف درجاتهم، بمن فيهم أهل العلم بالمسألة الواحدة يشهدون لمن كان مؤصلاً من خلال ما يقرؤون له ويسمعون منه من فهم أو استنباط واستخراج وتأصيل، سواء كان ذلك في العلوم الشرعية أو المعارف البشرية.
ولئن كان الله تعالى ذكرٌهٌ قد احتج على المشركين بشهادته ثم شهادة الملائكة وأولي العلم، فمن باب أولى اعتبار شهادة أهل العلم لمن كان مؤصلاً فقيهاً باحثاً ممن يستغل الوسائل الحديثة في البحث والنقل.
قال الله جل ثناؤه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وهنا مسألة، وهي؛ أن معرفة أهل العلم بالجديد في المقالات مبنية على عدم العلم بقائل سابق به، فدل على أن عدم علم عالم واحد بالقائل إجماع ظني، ويصبح يقينياً بالقرائن، فمن شهد له العدد الكثير من أهل العلم فقد استحق ما شهدوا له به.
وهذا لا ينافي قاعدة عدم العلم بالشيء ليس علماً بالعدم، لأن عدم العلم هنا إذا كان من صاحب علم بالمسألة فيجب أن يحمل العلم بالعدم على اليقين بالعدم، فإذا احتفت بعدم العلم القرائن أصبح العلم بالعدم من القطعيات، للمزيد؛ تحقيق دلالة الإجماع على سبيل الاتِّباع.
وجامع المعلومات غير المؤصل يهدم ولا يبني بجمع المعلومات وإعادة صياغتها بفكره وتعبيره، وذلك لأن فكره وتعبيره قاصر عن فهم الدقيق عليه مما يجمع.
يُضاف إلى ذلك أن جامع المعلومات دون تأصيل يجمع السمين والغث، والصواب والخطأ، والعلم والزلل، وإذا كان أهل العلم قد قالوا؛ زلة العالم مما يهدم الدين، فمن باب أولى من يجمع الكثير منها.
فلابد لمن يتكلم ويكتب في مسألة متعلقة بالعلوم الشرعية أو المعارف البشرية من تأصيل نفسه في العلم المتعلق بمسألته قبل أن يتحدث أو يكتب فيها.
وكثيرٌ مما سبق في الضرر الخاص على حاطب الليل، وعلينا أن نتقي الله تعالى في أنفسنا، ونعلم أن الضرر المتعدي أشد من الضرر الخاص، وغداً سنموت ثم نقف بين يدي الجبار سبحانه وتعالى، فلنعد للسؤال جواباً.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الثلاثاء 13 شوال 1442هـ، 25 مايو 2021م.

المصادر

[1] الذخيرة (ج5/ص 502)، المحقق: جزء 1، 8، 13: محمد حجي جزء 2، 6: سعيد أعراب جزء 3 - 5، 7، 9 - 12: محمد بو خبزة، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م.
[2] مجموع الفتاوى (ج9/ص129)، دار عالم الكتب، الرياض 1412هـ 1992م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق