تبسيط النظام المعقد

لفك تعقيد أي نظام فإنه يتعامل معه في الجملة بثلاثة أسس؛
١. تقسيمه لوحدات صغيرة بطريقة هرمية.
٢. التعامل مع كل وحدة جملة دون تفصيل في المستويات العليا.
٣. فصل الوحدات عن بعضها.
وفصل الوحدات في الإدارة هو بالفصل بين المهام والصلاحيات.
ولا شك أن تبسيط النظام المعقد كان  موجوداً في عهد الخلافة الراشدة، لأنه يستحيل أن يتابع الخليفة الراشد تفاصيل إدارية في قرية في العراق وهو في المدينة.
والتعامل مع النظام المعقد ذاته بدهي يتبعه أقل الناس علماً، ولكن هذا لا يعني أنه لا يحدث فيه خلل ونقص، بل تسبب الخلل فيه في زوال إمبراطوريات عظيمة ودول قوية.
ولا شك في أنه قد وُجد في تلك الإمبراطوريات التي سقطت تبسيط للنظام المعقد مع ما فيه من خلل، لأنه يستحيل أن يتابع إمبراطور كل تفصيل في إمبراطورية مترامية الأطراف.
وتبسيط النظام المعقد ليس خاصاً بالإدارة، بل يشمل كل نظام معقد، ومن ذلك الأنظمة الطبيعية كخريطة العالم، والأنظمة التقنية الآلية كمعالجات الحاسوب التي قد تحوي مليارات الترانزيسترات، والأنظمة التعليمية.
فمثلاً خريطة العالم تعد نظاماً معقداً، ويتم فك تعقيدها بإخفاء التفاصيل الدنيا فيها، فتصبح بسيطة لأن مستواها العلوي يشمل عدداً قليلاً من القارات والمحيطات والبحار.
فلا يمكن في خريطة العالم النظر إلى شارع في الخرطوم وآخر في الأبيض وآخر في واشنطن وآخر في صنعاء في نفس اللحظة.
وهذه الكيفية في التعامل مع الأنظمة المعقدة بدهية يعرفها كل إنسان، ولكنها راسخة أكثر عند أصحاب بعض المهن كالصُنّاع، لا سيما صُنَّاع البرمجيات والصلبيات.
فالمهن تُكسب صاحبها مهارات في غيرها، فقد روى البخاري عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: (ما بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلّا رَعى الغَنَمَ، فَقالَ أصْحابُهُ: وأنْتَ؟ فَقالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أرْعاها عَلى قَرارِيطَ لِأهْلِ مَكَّةَ) [١].
صَنَّاع الحاسوب قد يصنع لوحده حاسوباً يحوي أكثر من ١٩ ألف وحدة صغيرة بكل بساطة، بسبب التقسيم والفصل وإخفاء التفاصيل في مستويات هرمية معلومة، هذا إضافةً للبرامج الحاسوبية المساعدة التي تؤدي كثيراً من العمل آلياً.
وأعني بالصُنّاع المهندسون، وأعني بالصلبيات الهاردوير، فكلمة صناعة أوضح من كلمة هندسة، لأن الهندسة تختص بالأشكال والأبعاد، ومن ذلك الهندسة التحليلية التي تختص بحساب كميات أبعاد الأشكال، ومن أمثلة مسائلها نظرية فيثاغورس التي تحسب بها أضلاع المثلث.
ولأن السابقين كابن تيمية والقرافي وابن خلدون رحمهم الله كانوا عندما يقولون الهندسة يقصدون الهندسة التحليلية.
وبالمثال يتضح المقال؛ فمن الأخطاء الشائعة في المنظمات المدنية لا سيما الأحزاب السياسية كبر حجم المؤتمر العام وازدواجية العضوية والمهام التنفيذية والشورية.

حجم المؤتمرات العامة

إذا افترضنا أن عدد الحضور في مؤتمر عام ٢٤٠ عضواً، فإذا  تحدث خُمُس هذا العدد في حوار في قضية معينة وكان متوسط زمن الحديث لكل واحد منهم عشرة دقائق، فهذه ثمان ساعات لمجرد الكلام في قضية واحدة في جلسة واحدة.
فهذا تعقيد متعلق بزمن الحوار وإدارته وتوزيع فرص الحديث، فإذا قُسم المؤتمرون للجان صغيرة، فتظل تعقيدات أخرى باقية كالزمن الكلي للجلسات، والتكاليف المالية بسبب مصاريف سفر أعضاء المؤتمر العام للعاصمة وتكاليف إقامتهم وضيافتهم.
وباتباع أسس تبسيط النظام المعقد يمكن تحقيق المراد باجتماع المؤتمر العام بعدد قليل من المجتمعين بدون إغفال آراء كل منسوبي الجماعة فيما يستشار فيه الخاصة والعامة.

ازدواجية العضوية والمهام التنفيذية والشورية

من سلبيات عدم الفصل؛ استحالة عزل المدراء التنفيذيين لأنهم هم من يقررون العزل، وإذا تم الاكتفاء بمنع التنفيذيين من حق التصويت في الاختيار والعزل، فقد تكون لهذه الازواجية تعقيدات أخرى حسب درجة تعقيد الجماعة.
فمن تعقيدات عدم الفصل؛ كثرة الموضوعات المناقشة، وإدارة الحوار وزمنه بسبب كثرة الحضور، وصعوبة تغيير قرارات التنفيذيين أو عزل بعضهم بسبب صلاحية الدعوة لانعقاد الاجتماعات أو صلاحية إدارة حوارها.
ومن سلبيات عدم الفصل؛ مناقشة قضايا تنفيذية في المجالس الشورية بتفصيل يخالف تبسيط التعقيد في النظم المعقدة، فالمفترض أن يقدم المدير التنفيذي ملخص الأداء لمجلس الشورى بعد مناقشته في مجلس الإدارة التنفيذية بتفصيل.
وبسبب عدم الفصل لا يجد مجلس الشورى وقتاً كافياً لمناقشة القضايا الكلية العامة.
ومن الأخطاء الشائعة الظن بأن الجهة التنفيذية شورية، وسبب هذا الخطأ هو وجود شورى ومراقبة أداء في الإدارة التنفيذية.
فاعتبار الجهة شورية هو بسبب أن الشورى فيها في القضايا الكلية (الاستراتيجية)، فمجلس الوزراء مثلاً جهة تنفيذية في الأنظمة السياسية رغم ما فيه من شورى ومراقبة أداء.
ولا تكاد توجد تقسيمات في العلوم الشرعية والمعارف البشرية ليس فيها تداخل، والحد لا يوجد إلا في الأذهان.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأربعاء ٢٥ ذوالقعدة ١٤٤٤هـ، ١٤ يونيو ٢٠٢٣م

مصادر وملاحق

[١] صحيح البخاري (٢٢٦٢).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق